العراقيّون تحوّلوا (وحوّلوا أنفسهم) إلى فئران للتجارب
خالد محمود رمضان
وفي كتابه الصادر حديثاً والمعنون «فوق الأنقاض، نهاية المشروع الأميركي في العراق»، حاول الصحافي والكاتب العراقي صلاح النصراوي الغوص في أعماق الحدث الذي هزّ بلاد الرافدين منذ الحرب التي شنتها الولايات المتحدة الأميركية لإسقاط نظام صدام حسين بهدف البحث عن الدوافع والأسباب والمقدمات التي أدت بواشنطن لاتّخاذ قرار الغزو، ومن ثمّ الوصول إلى النتائج التي آلت إليها والتي يلخّصها عنوان الكتاب الموحي باعتبار أنّ العراق لم يعد الآن إلا مجرد خرابة من الصعب، ومن المشكوك فيه أن ينهض مرة أخرى كما كان دولة موحدة، إذا مضى المشروع الأميركي إلى نهاية شوطه.
ما يسعى إليه النصراوي في كتابه الصادر أخيراً عن مركز «المحروسة» في العاصمة المصرية القاهرة، هو أولاً طرح الأسئلة عن كيف ولماذا انتهى العراق إلى دولة منهارة وشعب منقسم طائفياً وقومياً ودينياً وحكومة هزيلة، والأهم، لماذا يقبع تحت احتلال مذلّ ويرتع في ربوعه الإرهاب ويتفشى العنف ويعم الفساد. أسئلته الأساسية الأخرى تتمحور حول من يقف وراء تلك المأساة التي حلّت بالعراق وما هي دوافعهم، من دون أن ينسى طبعاً أن يسأل عما إذا كان ممكناً في النهاية إنقاذ العراق من محنته الدامية ومن مصير قاتم ينتظره في الانهيار والحرب الأهلية والتقسيم.
فكرة الكتاب الأساسية كما يشرحها المؤلف في مقدمته التي تتصدرها عبارة «كنت أعلم ما الذي سيتهدم، لكني لا أعرف ما الذي سيبنى فوق الأنقاض»، والمقتبسة من رواية زوربا للكاتب اليوناني كازنتزاكي هي أنّ الكثير من العراقيين، ومنهم المؤلف نفسه، رأوا في الحرب التي شنتها إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش فرصة للتخلص من نظام صدام الذي جثم على صدورهم حوالى 35 عاماً بعدما يئسوا تماماً من إمكان تغييره بوسائلهم الوطنية الخاصة.
ما حدث بعد ذلك، هو أن العراقيين الذين ظنوا أن العالم قد استجاب لنداءاتهم البريئة كي يساعدهم على نبذ الماضي الأليم والبدء بحياة جديدة، قد استيقظوا على احتلال دامٍ وبلد مدمَّر وشعب ممزَّق.
هذه «الخديعة الكبرى» كما يسميها النصراوي يحاول أن يكشف من وقف وراءها، من خلال مقدمة إضافيّة وفصول سبعة يلقي من خلال الضوء على المحطّات الرئيسية التي قطعها مشروع التغيير الأميركي في العراق ابتداءً من ميلاده كفكرة بعد تولّي بوش السلطة عام 2000 مروراً بمراحل التخطيط والتحضيرات التي جرت له ومن ثم الحرب ذاتها وانتهاءً بوصول مشروع إعادة بناء الدولة العراقية إلى طريق مسدود، سواء بسبب الأخطاء والخطايا التي ارتكبها الاحتلال أو العراقيّين الذين شاركوهم في المشروع، أو بسبب التدخلات الإقليمية في شؤونه الداخلية، التي حوّلت العراق ساحة للصراعات وتصفية الحسابات والتنافس بين الدول المجاورة.
وعبر سبعة فصول، يبيّن النصراوي مستعيناً بأرشيف من المعلومات والوثائق، طريقة التخطيط للحرب من الناحيتين السياسية والعسكرية حيث يكشف كيف أن المخطّطين في إدارة بوش، كانوا يهدفون إلى وضع العراق في مختبر للتجارب وتحت طاولة التشريح تماماً مثل الفئران أو الأرانب دون أي إلمام حقيقي بالوضع العراقي. وكأنما كان هدفهم هو تمزيق البلد دون هدف أو نية حقيقية لإعادة بنائه.
وسواء عن جهل أو حماقة أو سوء نية، فإنّ النتيجة التي آل إليها العراق بسبب ذلك التجريب هو نهايته ككيان ودولة أساسية في المنطقة ممّا يطرح السؤال: لمصلحة من جرى كل ذلك وهل كان ذلك مبيّتاً أم بسبب الغطرسة والجهل؟.
لا يكتفي المؤلّف بإلقاء الضوء على الشخصيات والجماعات التي دعمت المشروع الأميركي وحرّضت عليه وأسهمت في وصوله إلى ما وصل إليه بل يحلّل الدوافع والأسباب التي أدت بهم إلى ذلك.
فخلال تتبّعه لرحلة القوى المعارضة لصدام، التي اشتركت في المشروع الأميركي تحضيراً وتنفيذاً، يستنتج أنّ هذه القوى قبلت منذ البداية أن تكون معولاً لتهديم الدولة العراقية من دون أن تكون قادرة على أن تتحوّل إلى قوة إيجابية لإعادة البناء. ما يكتشفه المؤلف بعد رحلة خاضها هو شخصياً عبر سنوات طويلة من المتابعة والاستقصاء، هو أن هذه القوى أدارت ظهرها منذ البداية لمشروع العراق الديموقراطي التعدّدي، الذي تبجّحت به واختارت تنفيذ أجندتها الطائفية والمذهبية والفئوية.
ولا يقتصر نقد المؤلف للأميركيّين وأصدقائهم من العراقيّين الذين أتوا بهم إلى السلطة، بل إنه يوضح كيف أن قوى عراقية أخرى، ودولاً عربية وإقليمية، وخاصة إيران، أسهمت هي الأخرى في الكارثة العراقية، إمّا لقصر نظر أو لمجرد تصفية حسابات بين بعضها بعضاً، أو لأهداف وصراعات إقليمية، من دون إدراك الثمن الذي ستدفعه لاحقاً إذا ما قسّم العراق أو حتى لو ظلّ في حالة الفوضى التي هو عليها، وانعكاسات ذلك على أمن المنطقة واستقرارها.
الخلاصة التي يأتي بها النصراوي عبر 230 صفحة من القطع الطويل ضمّها كتابه، هي أن العراقيين وقعوا ضحية خديعة كبرى كانت كما يرى، «نتاج مزيج من الحماقة وغطرسة القوة والأحلام الإمبراطورية والنبوءات الخرافية الأميركية»، إضافةً إلى عجز وإخفاق عراقيّين وارتباك وتشوّش عربي وطموحات إيرانية، كلّها اجتمعت لكي تخلق مأساة أكثر رعباً ممّا أنتجه القهر الصدّامي.
لا يبدو المؤلّف الذي لا يزال يتابع بحكم عمله كصحافي وباحث بالشؤون العراقية، أنه على اقتناع بأنّ ادّعاءات الأميركيين والحكومة العراقية الحالية بأنهم في طريقهم لتحقيق النصر صائبة أو حتى ممكنة، ولذلك فهو يقترح حلاً للمعضلة العراقية بعيداً عن الأميركيين والجماعات التي تهيمن على السلطة، وذلك من خلال وضع العراق تحت الوصاية الدولية لمدة محددة تجري خلالها إعادة ترتيب العملية السياسية على أسس أكثر واقعية وعدالة وإنصاف.
* كاتب مصري


العنوان الأصلي
فوق الأنقاض،
نهاية المشروع الأميركي في العراق

الكاتب
صلاح النصراوي

الناشر
دار محروسة