عصام نعمانإيران أدركت حَرَج إدارة بوش وتلهّفها على تسوية عاجلة للصراع في ساحة العراق، فصعّدت وتيرة مناكفتها سياسياً وأمنياً. إنها تضغط عليها أمنياً بتسليح مختلف تنظيمات المقاومة العراقية، وسياسياً بحثِّ الحكومة كما المعارضة على رفض مشروع «اتفاق وضع القوات» الذي اقترحته واشنطن لتحديد أسس قانونية لوجود قواتها بعد انتهاء العمل بقرار مجلس الأمن في 31/12/2008 الذي ينظّم انتشارها في الأراضي العراقية.
الضغط الإيراني على واشنطن أثمر معارضة واسعة لمشروع المعاهدة الأميركية. المعارضة لم تقتصر على القوى السياسية المناوئة لحكومة نوري المالكي بل تعدتها إلى الائتلاف الحاكم نفسه إذ اعترض رئيس المجلس الإسلامي الأعلى عبد العزيز الحكيم على بعض بنود المعاهدة، إضافةً إلى فريق من نواب رئيس الجمهورية والوزراء والنواب، فضلاً عن قادة التيار الصدري وتنظيمات المقاومة القومية والإسلامية.
شعر المالكي باتساع المعارضة وفعاليتها، فنظّم على عجل زيارة إلى إيران ليتدبّر أموره مع قادتها. في طهران حسم المرشد الأعلى السيد علي خامنئي الموقف بقوله إن «وجود القوات الأميركية المحتلة يمثّل المشكلة الرئيسية»، معرباً عن ثقته بأن العراق «سيحطّم أحلام الولايات المتحدة»، وحاضّاً المالكي على عدم توقيع معاهدة تنص على بقاء قوات أجنبية في البلاد بعد عام 2008.
الرغبة في «تحطيم أحلام أميركا» لا تقتصر على خامنئي. قبله وبعده يكافح كثيرون في العراق وفلسطين ولبنان لتحقيقها بالسرعة الممكنة. في طليعة هؤلاء، المقاومة اللبنانية بقيادة السيد حسن نصر الله. ففي خطبته الأخيرة بعد اختتام مؤتمر الدوحة وانتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، لم يكتفِ الأمين العام لحزب الله بإعلان دعمه المطلق للمقاومة العراقية بل شفع ذلك بإطلاق دعوة حارة إلى تفعيل استراتيجية للتحرير على مستوى المنطقة كلها.
هذا الموقف المتميّز والصارم لنصر الله لاقى تجاوباً لافتاً من خامنئي الذي لم يكتفِ بحضّ المالكي على رفض المعاهدة الأميركية بل شَفع ذلك بالدعوة إلى تحطيم أحلام أميركا والتأكيد على «أن مساعدة العراق واجبة علينا شرعاً».
كيف تكون المساعدة؟ لا أحد يجهل أنّ إيران تساعد المقاومة العراقية كما المقاومة اللبنانية والمقاومة الفلسطينية بالسلاح والعتاد، وأنّ دعمها اللوجستي يمرّ بالضرورة عبر سوريا. ألا تعني هذه الحقيقة أنّ ثمة تفاهماً وتنسيقاً بين طهران ودمشق من جهة، والمقاومة في كلٍّ من العراق ولبنان وفلسطين من جهة أخرى؟ وإذا كان الأمر كذلك، فكيف يمكننا تفسير دعم طهران ودمشق لخيار المفاوضة مع أميركا وإسرائيل؟
إيران تتفاوض مع أميركا في العراق، ولا تعترض على قيام حكومة المالكي بمفاوضة أميركا بل تعترض على مضمون المعاهدة التي تقترحها. وسوريا تلجأ إلى خيار المفاوضة مع إسرائيل عبر تركيا وتحثّ لبنان على مفاوضتها أيضاً إذا ما نجحت دمشق في استرداد حقوقها عبر التفاوض. وحزب الله يجري اتصالات بإسرائيل عبر وسيط ألماني يعمل كمستشار للأمين العام للأمم المتحدة من أجل تحرير أسرى لبنانيين وعرب من سجون الكيان الصهيوني. وحكومة «حماس» في قطاع غزة تفاوض إسرائيل أيضاًَ عبر مصر من أجل رفع الحصار ووقف الاعتداءات وتأمين مرور الأغذية والأدوية للسكان الفلسطينيين.
هل يمكن المواءمة بين المقاومة والمفاوضة؟ الجواب: نعم، لأن المقاومة ليست مجرد قرار بل هي مسار. إنها ليست قراراً بالقتال وحسب بل هي مسار أيضاً ينطوي على مهمات وعمليات سياسية واقتصادية واجتماعية ودبلوماسية تتكامل في ما بينها في سياق صناعة النصر.
الأمر نفسه ينطبق، بطبيعة الحال، على أميركا وإسرائيل. كلتاهما لها أغراض ومصالح ومطامع للمدى القصير وللمدى الطويل. كلتاهما تسعى إلى بلوغ هذه الأغراض والمصالح والمطامع بوسائل الحرب والسلم، وتحاول المواءمة بينها. فماذا تراها تكون الأغراض التي تسعى إلى تحقيقها كل من أميركا وإسرائيل؟ وما عساها تكون منهجية إيران وسوريا وحزب الله و«حماس» في مواجهتها؟
لعلّ الهاجس الأول لإدارة بوش في هذه الآونة هو تنظيم بقاء قواتها في العراق على نحوٍ يؤمّن مصالحها الاستراتيجية والنفطية من دون أن يثير حفيظة إيران وسوريا ويحملهما على دعم المقاومة العراقية بما يؤدي إلى استنزاف أميركا. أما إسرائيل، فإن هاجسها الأول هو استمرار الاستيطان في الضفة الغربية لجعل خيار الدولة الفلسطينية الذي اقترحته إدارة بوش غير ذي موضوع، والانطلاق من وجود إيران الاستراتيجي على حدود إسرائيل في قطاع غزة ولبنان وسوريا من خلال حركة «حماس» وحزب الله وتحالف سوريا مع إيران لإقناع إدارة بوش بضرورة الإقدام على ضرب إيران (وربما سوريا أيضاً) بغية تحقيق ثلاثة أغراض مشتركة:
■ إضعاف إيران لدرجة لا تقوى معها على أن تبقى قوة إقليمية مركزية وأن تحتفظ ببرنامجها النووي.
■ تعطيل فعالية المقاومة اللبنانية والفلسطينية وبالتالي إضعاف سوريا لدرجة لا تقوى معها على استرداد الجولان المحتل أو حتى على مجرد المطالبة باسترداده.
■ الاحتفاظ بالطواقم الحاكمة في العراق ولبنان وفلسطين وتحويل النظم السياسية فيها إلى أجرام تدور في فلك أميركا وإسرائيل.
لا تخفى، بطبيعة الحال، عن إيران وسوريا وحزب الله و«حماس» مخططات أميركا وإسرائيل ومنهجيتهما في تحقيق أغراضهما بالتعاون مع حلفائهما بين الدول العربية والإسلامية، فنراها تعتمد في مجابهتها منهجيةً مرنة تزاوج، حسب مقتضيات الظروف وفي إطار استراتيجية المواجهة، بين أشكال متعددة ومتطورة للمقاومة والمفاوضة في آن واحد.
في حمأة الصراع المحتدم بين المشروع الأميركي ــ الصهيوني من جهة، ومشروع الممانعة والمقاومة من جهة أخرى، تستبين حقائق ثلاث:
الأولى، أنّ فلسطين ولبنان والعراق قد تحوّلت مجرد ساحات لصراع طويل، وأنّ طبقاتها الحاكمة تبقى على قيد الحياة سياسياً بمقدار ما تتيح لها سلطات الوصاية عليها من هامش للحركة ودور ووظيفة في المسار الجدلي لخياري المقاومة والمفاوضة على مدى المنطقة كلها.
الثانية، أنّ العرب يفتقرون إلى قوة قومية مركزية ما أدى إلى نهوض إيران، كونها قوةً إقليمية مركزية، بدور القائد للتحالف المناهض للمشروع الأميركي ــ الصهيوني.
الثالثة، أنّ تحالف غالبية الدول العربية مع أميركا في هذه الآونة حوّل دنيا العرب، بالمعنى الاستراتيجي، إلى منطقة عازلة بين أمم ثلاث صاعدة: إيران وتركيا وإسرائيل.
إلى أين من هنا؟

* وزير سابق