علي القاسمي *اطّلعتُ على مقالة الشاعر الأستاذ سعدي يوسف «ثقافة عراق بين سيفين» المنشورة في موقع «كيكا»، نقلاً عن «الأخبار» البيروتية، التي يقول فيها إنّ سلطات الاحتلال الأميركي أخذت تعمل على استمالة المثقفين العراقيين لتأييد الاتفاقية العسكرية التي تسعى إلى توقيعها مع الحكومة العراقية ليظل العراق تحت الاحتلال مدة خمسين عاماً أي إلى حين ينضب النفط؛ فأخذتْ إحدى الصحف التي يدعمها المحتلّ الأميركي وتدعمه، إلى الإعلان عن إنشاء صندوق لفائدة المثقفين وصفتْه بأنه منحة للمثقفين العراقيين. ونعتَ الأستاذ سعدي يوسف هذا الصندوق بالرشوة، والصدقة، من أجل شراء ذمم المثقفين العراقيين كيما يوافقوا على الاتفاقية العسكرية مع المحتلّ.
ويتساءل الأستاذ سعدي الذي ما فتئ ينافح عن وطنه شعراً ونثراً قائلاً: «إن كان الحرص على المثقفين قائماً، فلِمَ لا تُعتمد الصيغُ المحترمة؟ لمَ لا يُشرَّع مثلاً قانونٌ للضمان الاجتماعي والتقاعد يستفيد منه المثقفون العراقيون؟ لِمَ يُكلّف لصوص محترفون بـ (الإحسان) إلى مثقفي العراق؟!َ».
وقد أثارت هذه المقالة لديّ بعض الملاحظات:
ـــ المثقفون الحقيقيون ـ عراقيون أو غير عراقيين ـ يرفضون الاحتلال في جميع أشكاله؛ لأن الاحتلال نوع من الاستعباد يتنافى مع طبيعة الأشياء، ويتناقض مع نزوع الإنسان الغريزي نحو الحرية، فالمرء يولد حراً؛ ولأن الاحتلال والاستعمار يعملان على تشويه الثقافة ذاتها.
ـــ إن الاتفاقات تُعقَد عادة بين أطراف متساوية تتمتع بحرية الاختيار؛ ولا تُعقد بين سيد وعبده أو جلاد وسجينه أو متمكِّن ومُضطَر. فهذا النوع من الاتفاقات يوصم في المصطلح القانوني بـ«عقود الإذعان» وهي عقود باطلة شرعاً وقانوناً.
ـــ إنّ أية اتفاقية يوقّعها المستعمِر الأميركي مع حفنة من السياسيين الذين يقيمون تحت حماية جنوده في منطقة خضراء أو سوداء، تعدُّ من عقود الإذعان الباطلة، ولا تُلزِم إلا الموقِّعين عليها، وسيكون مصيرها كمصير الاتفاقات التي وقعتها واشنطن مع الحكومة الصنيعة في سايغون قبل تحرير فيتنام من الاحتلال الأميركي.
ـــ لا يعرف الشعب العراقي ولا مثقفوه مضمون هذه الاتفاقية العسكرية التي تسمى بأسماء برّاقة مثل «اتفاقية استراتيجية» و«اتفاقية لتنظيم الوجود العسكري الأميركي» و«اتفاقية تعاون»... ولكن المعروف هو أن أميركا مصممة على إيجاد قواعد عسكرية جديدة في العراق تضاف إلى أكثر من 700 قاعدة عسكرية تملكها في حوالي 80 دولة في العالم، تضم حوالي 325 ألفاً من جنودها.
ـــ إن هذه الاتفاقية مبرمجة للتوقيع في آخر تموز / يوليو المقبل، لتكون بديلاً لقرار الأمم المتحدة بتمديد وجود القوات الأميركية في العراق حتى 31 كانون الأول / ديسمبر 2008.
وما الاختلافات التي يُعلن عنها بين المتفاوضين والسفرات المتعددة التي يقومون بها إلا لذرّ الرماد في العيون وإعطاء هذه الاتفاقية نوعاً من المصداقية المزيّفة. فقد ذكرت صحيفة «كريستيان مونتور» الأميركية بأن المهندسين الأميركيين منهمكون حالياً في تشييد 14 قاعدة عسكرية أميركية دائمة الوجود في العراق.
ـــ لا يخفى أنّ الهدف من وجود قواعد عسكريةأميركية في العراق ليس سلب ثروات العراق النفطية فحسب، وإنما كذلك لوضع الضغط على الدول المجاورة للعراق وتهديدها، دعماً لحليف أميركا الاستراتيجي إسرائيل وتثبيت اغتصابها لفلسطين.
ـــ تدّعي الحكومة العراقية أنها درست الاتفاقات العسكرية الأميركية مع بعض الدول الأخرى، فهل درست هذه الحكومة الأضرار التي تنجم عن القواعد العسكرية الأميركية في البلدان النامية؟ فبالإضافة إلى الأضرار الأخلاقية والبيئية، هنالك أضرار صحية لا تستطيع هذه البلدان النامية أن تتفاداها أو تحتويها. ولنضرب مثلاً بالقواعد البحرية والجوية الأميركية في الفلبين. كانت الفلبين مستعمرة إسبانية منذ منتصف القرن السادس عشر حتى نهاية الحرب الأميركية الإسبانية عام 1898، فضمتها أميركا إلى ممتلكاتها مقابل 20 مليون دولار دفعتها إلى إسبانيا. وعندما حصلت الفلبين على استقلالها عام 1947 وقعت اتفاقية عسكرية تبقى بموجبها بعض القواعد العسكرية الأميركية. ولكن بعد سقوط الدكتاتور ماركوس في أول انتخابات ديموقراطية جرت في الفلبين عام 1986، ناضل الشعب الفلبيني طويلاً للتخلص من هذه القواعد العسكرية، فقرر البرلمان الفلبيني إنهاء عقد القواعد العسكرية الأميركية (قاعدة كلارك الجوية عام 1991، وقاعدة سوبك البحرية عام 1992). بيدَ أن الفلبين التي تخلصت من تلك القواعد، لم تستطع التخلّص من مخلفاتها المدفونة في الأراضي الفلبينية والتي تؤدّي إلى وقوع مئات الضحايا وآلاف المصابين بسبب التلوث الكيميائي الناتج عن هذه المخلفات. ففي قاعدة سوبك التي تبعد 70 كيلومتراً من العاصمة مانيلا، أصيب حوالي 2000 من الفلبينيين العاملين هناك بأمراض صدرية بسبب مادة الإسبستوس التي ينجم عنها أمراض صدرية عديدة مثل سرطان الرئة. (انظر موقع الشبكة الدولية لإزالة القواعد العسكرية الأجنبية www.no-bases.org).
ـــ إنّ ما يقترحه الأستاذ سعدي يوسف من «تشريع قانون الضمان الاجتماعي والتقاعد يستفيد منه المثقفون العراقيون» ليس «صيغة محترمة» كما أطلق عليه ولا منحة، وإنما هو واجب من واجبات الحكومات تجاه شعوبها ومواطنيها جميعاً، لا تجاه المثقفين فقط. فحقوق الإنسان في مفهومها المعاصر لا تقتصر على الحقوق المدنية والسياسية فحسب، بل تشمل أيضاً الحقوق الاقتصادية والاجتماعية التي تتيح للمواطنين التمتُّع بالضمان الاجتماعي والصحي والتقاعد، بالإضافة إلى التعليم الإلزامي وجميع الخدمات الصحية والطبية والثقافية. والعراق إحدى الدول الموقِّعة على وثيقة الأمم المتحدة الخاصة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
بيد أن الشعب العراقي الذي يمتلك أكبر ثروة بترولية في العالم يعيش معظم أبنائه تحت خط الفقر وبالصدقات، بسبب الحكومات الشمولية المتعاقبة وبسبب الاحتلال والاستعمار الأميركي الذي ينهب ثروات البلاد.
* كاتب عراقي