سعد اللّه مزرعاني ضخّم ذلك من حجم حضور العامل الخارجي في الأزمة اللبنانية، ونشأ من العلاقات ما بين الأطراف الأساسية اللبنانية والدول الخارجية المنخرطة في الصراع، ما لم يحصل مثيله (كماً ونوعاً) في التاريخ اللبناني المعاصر. وشهد لبنان في مجرى ذلك أحداثاً خطيرة، كان أهمها وأفدحها على الإطلاق العدوان الإسرائيلي على لبنان في صيف عام 2006.
هذا الواقع مضافاً إليه صراعات ونزاعات الداخل اللبناني، ما زال هو الذي يطبع المشهد السياسي اللبناني. والأمور تبعاً كذلك، لا تسير في اتجاه الحد الأدنى من التسويات التي من شأنها ضبط الوضع، والحؤول دون الانزلاق المتصاعد نحو حرب أهلية دامية ومدمّرة إلى أبشع الحدود، وأسوأ النتائج.
مدة الخمسة أسابيع المنقضية منذ توقيع الاتفاق في العاصمة القطرية أكدت ما ذهبنا إليه من وهن وضعف العوامل الضامنة لتنفيذ اتفاق الدوحة بجميع بنوده. الأحداث الأمنية المتنقلة والخطيرة وذات الطابع المذهبي الغالب، وتعثر تأليف الحكومة، وامتصاص سريع لجزء أساسي من زخم ووعود العهد الجديد، تضاعف من العوامل السلبية.
ما العمل إزاء ذلك؟
نسارع إلى القول إنّ الانخراط في اللعبة الإعلامية الناشطة لتحميل المسؤوليات للطرف الآخر (أي طرف آخر)، لا تفعل سوى رش الملح على الجرح، مع نتائج مضمونة سلفاً: البقاء في الدوامة القاتلة نفسها! لا بد إذن من مقاربة واقعية وعقلانية. نقول واقعية لأن كل طرف سياسي مطالب في مجرى انخراطه في الصراع بأن يستفيد ويتعلم من تجاربه. والتجربة الأخيرة، وخصوصاً في 7 و8 أيار، أثبتت أن العامل الخارجي وما يرتبط به من عهود ووعود الحماية والدعم والضمانات، لم يكن أمراً صحيحاً ولا صادقاً ولا حتى ممكناً، وهو لن يكون!
أما الجانب العقلاني، فيتصل بإعادة قراءة متأنية ودقيقة لممكنات الوضع السياسي اللبناني، ولشروط تأمين الحد الأدنى من الاستقرار في هذا البلد، مع الحد الضروري من مصالح شعبه في الحرية والسيادة والاستقلال وإقامة هياكل الدولة والمؤسسات كشروط تأسيسية، بدورها، للنمو ولاستعادة الأوضاع الطبيعية التي افتقدها اللبنانيون منذ أكثر من أربعة عقود إذا لم يكن أكثر!
وتقع في رأس الأولويات في هذا الصدد إعادة الاعتبار للعامل الداخلي، كعامل حاضر ومؤثر وحتى... نشيط، في توفير العناصر والممكنات الضرورية من أجل أن تحصل التسويات، وأن تنجح، وأن تستمر، وأن تتطور نحو الحلول الراسخة والدائمة.
ندرك تماماً أن هذا الأمر، وفي مثل هذه الظروف المعقدة والمتفجرة، وكل ما يتصل بها من التزامات وارتهانات وموازين قوى، تجعل من هذا الكلام مجرد رغبات وتمنّيات لا مكان لها في عالم الواقع والحقائق والصراعات. لكننا نحذر أيضاً، من الركون الى السلبية والاستسلام لمعادلات لم يعد ثمة مجال للشك في أنها تدفع بلبنان وبشعبه إلى أسوأ الاحتمالات. ويستدعي المضي في هذا المنطق، إن صحّ، (وهو وحده الصحيح من وجهة نظر مصالح لبنان وشعبه)، البدء بانتهاج سياسة فك الارتباط بالمشروع الأميركي في المنطقة.
ونستطيع القول، تكراراً في هذا الصدد، إنّ كلفة الدعم الأميركي للخروج السوري من لبنان، كانت باهظة إلى أبعد الحدود. فقد تحولت العلاقة من تقاطع مصالح مشروع وطبيعي في مرحلة وظرف محددين، إلى التحاق بالمشروع الأميركي وإذعان لتنفيذ شروطه وإملاءاته، لما لا طاقة للبنان عليه.
إنّ تحوّل لبنان إلى ساحة نشيطة ومستعرة من ساحات الصراع، هو بالأساس، بسبب العلاقة والسياسة المفروضة على لبنان من جانب الإدارة الأميركية، التي استدرجت (وستستمر في استدراج) ردود الفعل، من جانب القوى المستهدفة أو المتضرّرة.
وضعنا مسألة فك الارتباط بالسياسة الأميركية في المنطقة كأولوية، بسبب أن الإدارة الأميركية هي اللاعب الأساسي في المنطقة واستطراداً في لبنان، منذ الغزو الأميركي للعراق، حتى هذه اللحظة. لقد تغير التأثير الأميركي، وهو إلى مزيد من الضعف، إلا أن الدور الأميركي مستمر.
وتعوّل إدارة بوش على الورقة اللبنانية بأكثر مما يتحمله الوضع اللبناني. ذلك لا يعني أبداً قطع العلاقات اللبنانية ـــ الأميركية. إنه يعني بالضبط، إلغاء الطابع الاستثنائي لهذه العلاقات لتكون منسجمة مع مصالح لبنان، ومع مستلزمات خروجه من الأزمة التي يتخبط فيها.
وتمثّل فرصة تأليف حكومة جديدة في مطلع عهد الرئيس ميشال سليمان، مناسبة لتجسيد هذه الأولوية، أي لتصحيح العلاقات اللبنانية ــ الأميركية! فهنا نحن، مجدداً نعود إلى ضرورة «تصحيح» العلاقات بين لبنان والدول الأخرى الخارجية، وخصوصاً منها الأكثر تأثيراً فيه وانخراطاً في شؤونه وشؤون المنطقة بشكل عام.
لقد استخدمنا هذه العبارة نفسها، على فارق كبير في الظروف والنتائج، للتعامل مع الصيغة التي انتهت إليها العلاقات اللبنانية ــ السورية، (وخصوصاً بعد محطة التحرير الكبيرة والتاريخية، هي الأخرى، في 25 أيار من عام 2000). وتقصّدنا هذه الاستعارة من أجل أن نشدد على أن نقلة نوعية أخرى مطلوبة أيضاً، ولو على اختلاف أكبر، حيال كل من سوريا والمملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الايرانية. ونحسب أن هذه العلاقات متواصلة ومتداخلة ومتداعية بحيث أن فك الارتباط، كبداية، مع المشروع الأميركي في المنطقة، سيمثّل المدخل الطبيعي لإعادة تنظيم وتطبيع العلاقات الثنائية الأخرى مع كل من سوريا وإيران والمملكة العربية السعودية.
لكنّ هذا الأمر ليس كل شيء: إن هو، في الواقع، إلا المقدمة، أو هو الجانب الأول من الصورة. أما الجانب الثاني، فيجب أن يتمثل في امتلاك المعارضة اللبنانية (بأطرافها الأساسية المنضوية في لقاء تجمع 8 آذار، لمشروع وطني يستند إلى رؤية واضحة بشأن الحلول لأزمات لبنان ولعلاقاته الداخلية بين أبنائه، وعلاقات هؤلاء مع الخارج العربي الإقليمي والدولي دون استثناء).
ويأتي في مقدمة عناصر هذا المشروع ــ الرؤية، فك الارتباط مع النظام الطائفي اللبناني في صيغته المتدهورة والمدمرة والمخيفة الراهنة. وستجد هذه القوى في تطبيق البنود الإصلاحية المعطلة والمهملة والمنسية في الدستور اللبناني، ما يعفيها من كل «تهمة» بتخطي «الطائف» الذي هو في نظر البعض صيغة طائفية لنظام الحكم في لبنان، فيما هو، في الحقيقة، خلاف ذلك تماماً. إذا لم نخالف الدستور!
وطبيعي أن مسائل أساسية وكبيرة وحساسة، ستجد طريقها إلى النقاش والتسويات، في امتداد تحقيق الشرطين المذكورين آنفاً، وهما شرطا فك الارتباط مع المشروع الأميركي، وفك الارتباط مع النظام الطائفي اللبناني في نطاق ما نص عليه الدستور اللبناني نفسه (كمرحلة تاريخية في هذه المحطة المصيرية من حياة ومعاناة بلدنا وشعبنا).
لقد أدّت أسباب عديدة ومتراكمة ومتفاقمة، الى إحداث ضرر بنيوي في الهيكل اللبناني. وهو ضرر يعادل الخروج منه اليوم إنقاذ لبنان وتجنيب شعبه المزيد من المعاناة والخسائر والكوارث... هذا فضلاً عن إنقاذ إنجازات شعبنا المدهشة والرائدة والمكلفة في حقول التحرير خصوصاً، وفي ميادين الانفتاح والتعلق بالحرية.
إنّ ذلك يساوي لا أقل من صحوة، أو قل هو، مصالحة مع الذات بعد اغتراب وخيبات وارتهان وخفة بالتعامل مع الأوطان ومع مسلتزمات الحفاظ عليها وتطويرها... فكيف بإنقاذها!

* كاتب وسياسي لبناني