أسعد أبو خليل *بعضنا كان صغيراً في عام 1967. بعضنا كان يحبو، وبعضنا الآخر كان أوفر حظّاً: إذ لم يكن قد ولد بعد. بعضنا لا يزال يذكر ذلك اليوم المحفور. هول الصدمة التي أحدثتها الهزيمة في أنفس العرب ــــ لا في أنفس أنصار إسرائيل وحلفائها في لبنان الذين يهللون سراً (أو علناً كما في 1982، ويمكن أن نستفسر من جوني عبده عن هذا الأمر يوم كان يستضيف أرييل شارون في منزله ــــ قل هي الاستراتيجيا الدفاعية الملحّة لآل الحريري وآل جنبلاط). من لا يذكر حتى لو كان طفلاً خطاب استقالة جمال عبد الناصر؟ ومن لا يزال يذكر نشوة تلقّي البلاغات الحربية الكاذبة في الإعلام العربي؟ لا شك في أن الإعلام الناصري استحق صفعة على الوجه (وعلى القفا) لما فعله بعقول العرب، وهو لم يرعَو. صوّر حروب الاستنزاف على غير حقيقتها أيضاً. المهم بقاء «الريّس». أما النظامان السوري والأردني، فهما يتحمّلان مسؤولية مزدوجة، إذ إنهما دفعا بالنظام المصري إلى المزايدة. من يذكر كيف خرج سكان بيروت آنذاك في تظاهرات عفوية (عفوية بجد ولم تكن عائلة الحريري ترشو الناس وتنقلهم في حافلات مبرّدة، وكان السلاح المذهبي منبوذاً في حينه) تطالب بعودة عبدالناصر عن استقالته؟ أذكر وأنا ابن السابعة أني وقفت على شرفة منزلنا في حي المزرعة ليلاً وأنا أسمع هتافاً غير بعيد: «عبد الناصر، يا حبيب، بدنا نحرر تل أبيب». بعض سكان بيروت يغضب اليوم مِن (ويحرّض على) مَن يودّ تحرير أراض لبنانية. من لا يزال يقبل بتحرير أراضي فلسطين في لبنان؟ من لا يزال يتحدث عن تحرير فلسطين؟ جار لنا، وهو غير جار فريد مكاري، بكى حرقة على الشرفة ذلك اليوم. هناك من غضب من عبد الناصر: كيف أخذنا إلى معركة لم نكن مستعدين لها؟ طبعاً، الكلام عن حرب 1967 ينطبق على حرب 2006. العدو كان يعدّ العدة، وينتظر أو لا ينتظر «الذريعة». الصهيونية لا تعتمد في عنفها وحروبها على ذرائع. تفعل ما تشاء. ينسون أن سجل إسرائيل هو هو: قبل المقاومات وبعدها. كم تسرّبت الدعاية الصهيونية إلى ثقافتنا؟ ذريعة؟ كم من الجرائم ارتكبتها الصهيونية من دون ذريعة؟ وما معنى الذريعة هنا؟ الدفاع عن النفس؟ المبادرة من أجل المباغتة العسكرية؟ (لا) منطق الذريعة يؤدي إلى:
1) القول إن إسرائيل المسالمة لا تبادر قطّ إلى الشروع في عمل حربي ضد العرب.
2) أنه يؤدي إلى تحميل جهات عربية مسؤولية كل الحروب والمشكلات بين إسرائيل والعرب وقت لم يبادر العرب في تاريخهم ولا في حرب باستثناء 1973.
3) دفع العرب إلى الاستكانة وانتظار أن يحل «المجتمع الدولي» كل المشكلات المستعصية وفق «رؤية بوش»، على ما يقول صائب عريقات ــــ شيخ الديماغوجيا في المفاوضات العربية ــــ الإسرائيلية، وإن كان أولمرت، على ما ذكرت الصحافة الإسرائيلية، يثني على طعام منزله الساخن. على الرحب والسعة. إنها الدحلانية المنتشرة في طول العالم العربي وعرضه. إسرائيل لا نتتظر ذرائع. إنها تحترم مخططاتها إلى درجة لا تجعلها عرضة لأفعال العرب. ذكر ويليام كوانت في كتابه عن «مسيرة السلام» أن إسرائيل زعمت كاذبة في محادثات سفيرها في أميركا مع البيت الأبيض في الساعات الأولى لحرب 1967 أن مصر بدأت الحرب. لم يطل أمدُ الادّعاء.
انتهت الحرب بعد أيام ستة، أو أقل. حاول دعائيّو الهزيمة التقاط أنفاسهم. لم يهتزّوا. محمد حسنين هيكل الذي توقع قبل أيام من الهزيمة أن «إسرائيل مقبلة على عملية انكسار تكاد تكون محققة»، عاد ليزرع الثقة في النظام المهزوم شرّ هزيمة. (وهيكل، بعد كل هذه العقود، لا يزال يصدح. كان قد وعد في خطاب دراماتيكي له قبل سنوات باعتزال الكتابة. لم نكن ندري أن وعد اعتزال الكتابة لم يتضمن الحديث الإعلامي. كنا قد طالبنا بأن يشمل وعد اعتزاله الكتابة والحديث وحتى الإيماء). يذكّر بإعلام قادنا إلى الهزيمة، ثم تأقلم مع الهزيمة، ثم عاد وسوّغ مفاوضات السادات مع كيسنجر قبل أن يُبعد. وهو لا يزال متحفظاً في نقد السادات أو نقد مبارك (انتقد مبارك ثم تراجع). وضح أن هيكل كان صحافة السلطان. طبعاً، تقارن بين هيكل وصحافيّي النفط وعبد الرحمن الراشد ويشدك حنين إلى هيكل، وإن كان البديل لا هذا ولا ذاك، على الأقل كان كاتباً مسلّياً في رواياته، حتى تلك التي كانت مختلقة أو واضحة في فظاظة دعائيتها.

أصوات تصدح

ما إن انتهت الحرب، حتى بدأت أصوات «النقد الذاتي بعد الهزيمة» تصدح. من كل حدب وصوب، لا يجمعها إلا:
1) الاتفاق على لوم مبالغة العرب في تحميل المسؤولية للغرب. 2) عزو الهزيمة إلى عناصر داخلية (ذاتية) في المجتمع العربي. 3) التقليل من وطأة المؤامرات الخارجية ــــ يجب الإكثار من استعمال هذه الكلمة لأنها تحرج اليساريين السابقين أمام آل سعود، كما أنها تتناقض مع برنامج السنيورة ــــ الحريري للتعايش السلمي ــــ الحضاري مع احتلال إسرائيل وعدوانها ـــــ على المجتمع والدولة في العالم العربي. 4) الإيمان المطلق بفصل معرفي بين الشرق والغرب. طبعاً، أنتجت حركات الإخوان المسلمين أدباً خاصاً بنقد الذات، وخلصت إلى الاستنتاج أن الابتعاد عن الدين الحنيف سبّب الهزيمة. ويشبه هذا التفسير تحليلات متعصّبي اليمين المسيحي في أميركا الذين أفتوا بأن الله سبّب كارثة 11 أيلول لأن المجتمع الأميركي ابتعد عن الدين، أو عن المحافظة على «العائلة التقليدية».
صلاح الدين المنجد سارع إلى تحليل الهزيمة ــــ تحليلاً «علميّا» وفق ما قال هو. اختصر سبب الهزيمة الرئيسي بالابتعاد عن «الإيمان الحار» (أعمدة النكبة، ص 11)، كما أنه أنحى باللائمة على هؤلاء المسيحيين الذين أدخلوا ــــ وفق تحليله الطائفي المستقى من كتاب لبرنارد لويس وإن أقحم فيها ساطع الحصري ربما للتخفيف من صفاقة التحليل الطائفي ــــ الفكرة القومية والاشتراكية إلى صفوفنا، مع أن «المرشد» الإسلامي، مصطفى السباعي، عثر في التراث الإسلامي على جذور اشتراكية، لكن كان هذا زمن «الموضة» الاشتراكية، وفق التحليل الفلسفي لليساري السابق، بشار حيدر، الذي لا يرى في العمليات الانتحارية إلا «موضة». (طبعاً، تضمن كتاب المنجد الذي هلّل له الإعلام السعودي ــــ اليميني آنذاك، كلاماً عن «نبل» ملوك الشخبوطية العربية (ص. 79). وتضمن تحليل المنجد انتقادات صائبة بحق النظام المصري، إلا أن دافعها كان الدفاع عن المعسكر الرجعي العربي. والكتابات الإسلامية التي عزت الهزيمة إلى غياب الدين أو الإيمان (ألم يكن أنور السادات صاحب شعار «العلم والإيمان»، إلى أن قتله مؤمن ورع؟)، تسيء فهم طبيعة دور الدين في الدولة اليهودية وتسيء تحليل هذا الدور، إذ إن الصهيونية ضمت في صفوفها أجنحة دينية وأجنحة لادينية، وحتى ملحدة (معظم المؤسسين الأوائل لم يكونوا من المؤمنين، حتى فلاديمير جابوتنسكي (الأب الروحي ليمين الصهيونية) الذي أوصى بحرق جثمانه، وفي ذلك مخالفة صارخة لأركان الدين اليهودي).
مجلة «دراسات عربية»، ومجلة «مواقف» من بعدها، تخصّصت في كتابات النقد الذاتي بعد الهزيمة. تعود إلى تلك الأعداد اليوم. تجد مفارقة ما بعدها مفارقة. إن أكثر من تطرّف في كتابات النقد الذاتي بعد الهزيمة والذي دعا إلى حروب تحرير شعبية عاجلة آنذاك، هم اليوم من أعلى أصوات الليبرالية أو اليمين في العالم العربي، مثل العفيف الأخضر أو بسام طيبي (نموذج فؤاد عجمي في ألمانيا) أو سعد الدين إبراهيم وصادق جلال العظم (كتب سعد الدين إبراهيم عن «الحرب الشعبية والتعبئة العامة» في آب 1968 في المجلة المذكورة). لكن تقرأ مجدداً ما كُتب، وتتبيّن الابتذال الاستشراقي، على نسق تحليلات كتاب «العقل العربي» لرفائيل باتاي (الذي نبذه علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا في الغرب، وإن راج الكتاب شعبياً وفي صفوف العلوم السياسية في المعاهد العسكرية والجامعية في أميركا، كما أن طبعة جديدة له صدرت مزينة بمقدمة من جنرال أميركي بعد 11 أيلول.)

العظم

طبعاً، الذروة في نقد الذات بعد الهزيمة صدرت في كتاب بالعنوان نفسه لصادق جلال العظم. واعتمد العظم في صلب الدراسة على كتاب «لعالم اجتماع عربي معروف» («النقد الذاتي بعد الهزيمة»، ص. 70)، هو حامد عمار في كتابه في «بناء البشر» الذي صدر قبل الهزيمة. ويبني عمار، وبعده العظم، بناءً تحليلياً نمطياً (أو «الصنف المثالي» بلغة فيبر ــــ والأخير كان من مؤسسي تيار المستقبل في ألمانيا، وقد دعا في أيامه إلى نزع سلاح المقاومة ليهنأ بال إسرائيل عندما تغزو لبنان متى شاءت) على أساس ما سماه الشخصية «الفهلوية». وكان الحديث عن الشخصية الفهلوية يماثل التصويرات النمطية في أيديولوجيات العداء، مثل الكلام عن الشخصية اليهودية في المطبوعات النازية (التي استفادت، بالمناسبة، من خطاب الكراهية عند يوحنا فم...التنك، ملهم يساريين سابقين). ويقوم العظم وعمار من قبله بتعداد خصائص الشخصية الفهلوية لتحميلها ــــ على ما يبدو ــــ مسؤولية الهزيمة الشنيعة. والواضح أن الأنظمة العربية، الرجعية وما سمت نفسها زوراً «تقدمية»، لم تمانع في الترويج لتلك التحليلات، وذلك لرفع المسؤولية عن نفسها. ومثلما لجأ النظام الناصري (وبعده النظام الصدامي في التسعينيات) إلى فكر الجبرية الخالصة لرد مسؤولية الهزائم المتلاحقة، ولتوسّل نصر من السماء حيث تسكن إرادة النصر والهزيمة المحتمة، فإن تحليلات النقد الذاتي بعد الهزيمة تلاقت من حيث لا تدري أو تشاء مع قدرية الأنظمة التي رفضت أن تتحمل المسؤولية.
ويقوم تحليل النقد الذاتي بعد الهزيمة، في تجليّاته المبكرة أو المتأخرة في كتابات هشام شرابي مثلاً عما سماه «البطريركية الجديدة»، على تصوّر متخيّل ومثالي للغرب، لا يمتّ بصلة إلى الواقع. فأن يقوم العظم (في كتابات مخلتفة له) مثلاً بالسخرية، وهي محقّة، من بوادر قدرية وإيمان بالعجائبية الوثنية أو الإيمانية ــــ لا فرق ــــ ومن الإيمان بالأبراج والمنجّمين والسحرة (يذكر مروان كنفاني في مذكراته التي نُشرت أخيراً أن سها عرفات كانت تأتي بمنجّمين لزيارة ياسر عرفات في سبيل تقرير أمور سفر وخيارات أخرى)، ولكنّه يتعامى عن ظواهر مماثلة في المجتمعات الغربية. ورئيس أركان موظفي البيت الأبيض الأسبق في عهد رونالد ريغان، دونالد ريغان، كشف في مذكراته أن نانسي ريغان كانت تُخضع روزنامة مواعيد الرئيس، وحتى قراراته، لمشيئة منجّمة في هوليوود. وكتب السحر والتنجيم، وخصوصاً إذا تزاوجت مع الأناجيل، لا تزال تحتل موقع الصدارة في جدول الكتب الأكثر مبيعاً في أميركا. أما الاعتقاد بخرافات وأساطير غيبية، فإنه موجود في بعض الغرب، مثل أميركا، حيث يؤمن أكثر من نصف السكان بالتواصل المستمر بينهم وبين ملائكة، كما أن بوش يتلقّى النصيحة، حسب زعمه طبعاً، من السماء، من «الاب العلوي»، كما أخبر الصحافي بوب وودورد. ودراسات عالم السياسة في جامعة مشيغان، رونالد انغلهارت، الذي يرصد توجهات القيم الإنسانية حول العالم، تضع المجتمع الأميركي مع دول نامية مثل البرازيل والهند ونيجيريا، بالنسبة إلى «حرارة الإيمان»، كما سمّاها المنجد. لكن جدول فكر النقد الذاتي بعد الهزيمة ــــ أو بعد الهزائم المتلاحقة ــــ يقوم على ترسيخ منهجي للفصل بين الشرق والغرب، بين «العقل العربي» و«العقل الغربي»، أو بين «الثابت والمتحول» بلغة أدونيس في كتابه التعميمي «الثابت والمتحول».

أدونيس

وأدونيس في «الثابت والمتحول»، يمثّل نموذجاً أقل تردداً من نموذج العظم. فهو يبدأ بالتعميم وبإطلاق الصفات الكلية، وينتهي بوعظ يماثل وعظ المحافظين الجدد وأعداء الإسلام في الغرب. طبعاً، قوبل الكتاب بوابل من الشتائم والهجوم على أدونيس في الإعلام السعودي، وأطلق بعضهم صفات طائفية عليه، وإهانات، لكنّ هذا كان قبل أن يتصالح أدونيس مع الإعلام السعودي، حيث يكتب اليوم باستمرار عن حبّه للحرية (المطلقة، لا الخاصة مثلاً في دولة تُقطع فيها الرؤوس في الساحات العامة)، بإنشائية تذكّر بمسابقات اللغة العربية في المدارس الابتدائية. (لكن أدونيس «بدّو نوبل»، كما كان الشاعر الفذ محمد الماغوط يقول عنه.) ومع أن كتاب «الثابت والمتحول» كان أطروحة لنيل الدكتوراه من الجامعة اليسوعية بإشراف الأب اليسوعي بولس نويا، فإن أدونيس فاق في استشراقه اسشراق مرشده. فالمستشرق نويا رأى أن تلميذه النجيب (الغزير العلم والمعرفة في شؤون الأدب والتراث العربيين، والضحل في المعرفة والمنهج الأكاديمي، على الأقل في كتابه المذكور) ذهب بعيداً في تعميماته، وها هو يحذره في مقدمة الكتاب من أن العودة إلى الماضي «ليست خاصة بالعالم العربي» (ص. 40، من الجزء الأول في طبعة دار الساقي).
ونثريات أدونيس في الدراسة المُفترضة هي في الحقيقة شعر، وخصوصاً عندما يمعن في نقد الذات العربية، أو في الحديث عن الثقافة، كأن يقول «هذا الموروث الثقافي هو أصل ثقافتنا» (ص. 33، ج 1) وكأن هذا التعميم خاص بالعالم العربي كما حذّره المشرِف المستشرق. أو أن يقول إن الإنسان ــــ الإنسان بحاله ــــ «لم يكن له وجود مفهومي في الثقافة العربية ــــ الإسلامية»(ص. 35، ج 1). أو أن يقول «هكذا أخذ العربي، بتأثير من البنية الثقافية السائدة، يستخدم موروثه لكي يفهم كل شيء"»( ص. 59، ج 1). و«العربي» في الكتاب هو أي عربي وكل عربي، مثلما يرد «اليهودي» في كتابات معاداة السامية التقليدية. ولا ضرورة للحجة، في أطروحة الدكتوراه المذكورة، على ما يبدو. إطلاق واتهام ضدكم (وضدكن، جميعاً). أو أن يقول إنه لا مجال للفكر العربي «أن يحيا حقاً إلا إذا تمحور، على العكس، حول المستقبل»(ص. 65، ج 1). وفي تناوله للإسلام، يردّد أدونيس في نقده الذاتي بعد الهزيمة تعميمات لا معنى لها غالباً، إلا إذا قيست «شعرياً» مثل: «إن الشريعة في الإسلام مجموعة من فروض أو واجبات، أو مجموعة أوامر ونواه»(ص. 77، ج 1). ولكن، ألا ينطبق هذا، إن صحّ، على القانون بصورة عامة، أي قانون؟ أو القول إن «المنحى الثقافي الاتباعي هو الذي هيمن في المجتمع العربي» (ص. 116، ج 1). وهل كان عدم الاتباع مهيمناً في الغرب في القرنين التاسع والعاشر، مثلاً؟ أو اليوم في أميركا، عندما أيّد 93% من الناس حرب بوش في أفغانستان؟
والمؤسف (والواضح) أن أدونيس لم يطّلع على أحدث نتاج المستشرقين، حتى في ما يتعلّق بالدراسات اللغوية، فبدا أسيراً لتعميمات اسشراقية قديمة عن الشعر العربي تجاوزها الزمن. مثلاً، حيث يقول: «العربي (لاحظ الإشارة نفسها إلى «العربي» المسكين ذاته) لم يكن ينظر، بسبب من نشوئه وتكوّنه البدويين، إلى الحياة من حيث هي كل واحد بمختلف مظاهرها»(ص. 105، ج 1). وهذه العبارة تلخّص منهج (أو لامنهج أدونيس) في نقد الذات. أولاً، ترد الإشارة إلى العربي: أي التعميم عن كل العرب، من دون التمييز التحليلي على أساس الجهة أو الطبقة أو الحقبة الزمنية، ....إلخ. ثانياً، هناك اتباع، لسنتعمل كلمة ينبذها أدونيس، لأسلوب رافييل باتاي (أو جون لافين في كتابه عن «العقل العربي» هو الآخر) في رد السلوك العربي (السياسي أو الاجتماعي) إلى البداوة، وهذا يفسّر الهوس بمقدمة ابن خلدون (الذي استشهد به وليد جنبلاط أخيراً في رفضه للديموقراطية التوافقية، إذ إنه عاد إلى فكرة محمد مهدي شمس الدين عن «الديموقراطية العددية» على ما يبدو) لأنها، في استشراقيّتها التحليلية عن العرب، توافقت مع الاستشراقية الحديثة. وعبثاً نقنع هؤلاء أنه ليس للبداوة أو للنياق أو للخيم، ما عدا خيمة القذافي الشهيرة، تأثير على ظواهر السلوك السياسي العربي. وقد ينشأ «العربي» (لنستعمل هذه الكلمة بتعميم أدونيس) من دون أن يرى بدوياً في حياته، إلا إذا انتكب مثلي في سنوات الطفولة والحداثة بمسلسلات سميرة توفيق (تذكر مذكرات الحقبة الصدامية أن أحمد حسن البكر كان شديد الإعجاب بها، وكان يفرض غناءها على الشعب العراقي المنكوب مرتين). ثالثاً، إن فكرة أن العربي كان يفتقر إلى فكرة الحياة ككل واحد لا يتجزأ، غير صحيحة، والفكرة تعود إلى أيام تصنيف عقول الشعوب، كما فعل أرنست رينان الذي نُصب له تمثال في ساحة غزير. ودراسات الشعر الجاهلي الجديدة حتى في المجلات الأكاديمية الاستشراقية، تخطّت الفكرة التقليدية عن القصيدة الجاهلية، وهناك من يرى فيها اليوم كلا، لا أفكاراً متسلسلة غير مترابطة كما كان قدماء الاستشراقيين يقولون. والغريب أن أدونيس الذي يضع الإبداع في مواجهة التقليد، يضع شروطاً وضوابط للشعر تتناقض مع النتاج المنطقي لمشروعه في نقد الذات بعد الهزائم.
والكلام عن النمط «الوظيفي» للشعر (ص. 259، ج 4) يتوافق مع التحليل الماركسي أو حتى ما بعد الحديث في النقد الأدبي. لكن دراسات النقد الذاتي بعد الهزيمة تعتمد بصورة ميكانيكية على الفصل المانوي في الأنثروبولوجيا القديمة، من ناحية الفصل الصارم والقارس بين القديم والحديث ــــ أو بين الشرق والغرب، من دون فهم ديالكتيكي لاستمرار القديم في الحديث، أو حتى لوجود القديم في الحديث (مثل الإشارة إلى فلسفة السوفسطائية عند اليونان أو شعر الصعاليك عند العرب). وتفتقر هذه الدراسات إلى النقد (الغربي، لأن الغرب بالنسبة إليهم هو المثال المُحتذى، وكان الغرب السوفيات مُحتذى عند بعض هؤلاء، قبل أن يتحول المُحتذى نحو الغرب الأوروبي وأميركا) الغربي للحداثة والمعاصرة. أما الديموقراطية، فهي الطوكم، أو حلاّل كل المشاكل، مثل المختار في مسلسل «الدنيا هيك». وهناك من يكتب أن الديموقراطية تسهّل حتى عملية تحرير فلسطين، أو أنه لا دفاع (عسكرياً) جدّياً من دون ديموقراطية. طبعاً، لا علاقة للتجارب التاريخية بهذا الإطلاق، إذ إن الجيش الأحمر أو حتى الجيش النازي لم يقصّر في الكفاءة القتالية من دون ديموقراطية. والمقاومة في لبنان انطلقت في ظل حكم أمين الجميل الوحشي ــــ الإسرائيلي.

استثناء العرب

هذا لا يعني أن نقد الذات يجب أن يخفت. بالعكس. على النقد أن يزداد ويشتدّ ضد كل السلطات القائمة: السياسية والاقتصادية والدينية والثقافية والقضائية، ما عدا سلطة محمد علي الجوزو، بسبب جهوده الخيّرة في التقريب بين المذاهب والأديان. لكن النقد يمكن أن يكون أكثر فائدة لو أنه كان مقارناً، أي دراسة تجارب الشعوب بعيداً عن التخصيص ونظرية استثناء العرب أو الشرق الأوسط، وكأن معايير علم الاجتماع تنطبق على كل البقع ما عدا تلك البقع حيث يقطن «العربي»، كما يسميه أدونيس. ونقد المحرمات والمحظور واجب وضروري، بعيداً عن الكلام القامع والتسلّطي لتعابير مبتذلة من نوع «النقد البناء»، إذ إن النقد الهدام هو أفعل بكثير من النقد البنّاء الذي لا يزعج السلطان. وهناك طبعاً، فكرة النقد «المُباح» وغير المباح التي وردت في دعوى فخري كريم ضد الرفيق سماح إدريس. وهناك أيضاً النقد الخلّاق والمبتكر من نوع كلام بول شاوول: «برافو سنيورة». هذا يمثّل صنفاً من النقد لا ينعم به إلا قرّاء جريدة «المستقبل» التي أصرّت أخيراً على أن مناورات إسرائيل في حرب افتراضية ضد لبنان هي محض «دفاعية».
ولا يمكن التوقف عن الغوص في أسباب الهزائم العربية، وخصوصاً ونحن نقترب من ذكرى ستين عاماً على النكبة. لكن الأسباب سياسية ــــ عسكرية أكثر مما هي ثقافية. وتجربة المقاومة في الجنوب اللبناني تشير إلى النواقص في استنتاجات «النقد الذاتي بعد الهزيمة». وقد صدر عن الباحث كينيث بولاك (الذي عمل في مجلس الأمن القومي زمن بيل كلينتون) كتاب ضخم (لم يصدر بالعربية بعد) عن السلوك العسكري العربي في مواجهة إسرائيل (وأميركا) على مرّ العقود. والاستنتاج (الذي اعترف بقدرات قتالية عربية حتى في الحروب التي انهزم فيها العرب) يركّز على الضعف التكتيكي وعلى عدم السماح (ليس عدم القدرة) للقوات العربية بالمبادرة أو اتباع عنصر المفاجأة، ولا يعود هذا إلى ثقافة «الاتباع» عند العرب. هذا يعود إلى التسلّط في صفوف النظام السياسي الذي يحرص على الإمساك بيد من حديد بكل قطاعات القوات المسلّحة خوفاً من الانقلابات. وركزت دراسة أميركية عسكرية أخيرة لتجربة حزب الله في مواجهة إسرائيل في عدوان تموز على كون البنيان العسكري لحزب الله يتمتع بلامركزية عالية، أي إنه استفاد بالضبط من أخطاء حروب الجيوش العربية عبر العقود، بما فيها حرب 1973، التي بدأت بالنصر وانتهت بالهزيمة العربية نتيجة الدعم الأميركي غير المحدود (قال نيكسون لكيسنجر، وفقاً لوثائق تلك المرحلة: «أعطوهم كل ما لدينا») بالإضافة إلى قيادة السادات التي حتّمت القضاء على أي إمكان للنصر. وإن كانت الهزيمة قد أدّت إلى النقد الذاتي بعد الهزيمة، فقد آن الأوان لنقد النقد الذاتي بعد الهزيمة، على أمل أن يأتي من ينقد نقد النقد الذاتي بعد الهزيمة.

* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)