شيماء الصراف *أصدر علماء الأزهر أخيراً، فتوى جديدة، رأوا فيها أنّ نسب الطفل لأمّه غير جائز شرعاً، والسبب هو مخالفة النص القرآني: «ادعوهم لآبائهم» (آية الأحزاب)، وقالوا إنّ نسب الطفل لأمه يتم في حالات الزنا.
إنّ الآية التي اعتمدوا عليها تخصّ التبنّي، وكان معمولاً به في الجاهلية لأسباب مختلفة، لعلّ أهمها أن يكتسب الرجل سنداً ومؤازرة في بيئة يحكمها قانون القوة. أسّس الإسلام بمجيئه دولة وسلطة مركزية لها قوانين واضحة. انتهى قانون القوة ولم يعد التبنّي يردّ على حاجة، وفُرزت الأسرة كأصغر وحدة اجتماعية.
علماء الأزهر أخذوا بظاهر الآية، مع أنّها تفيد، بوضوح تام، عدم شرعية نسبة الأولاد لعائلة أخرى غير التي أنجبتهم من أب وأم.
شرعاً، يُلحَق الطفل بأمّه في حالة نفي الأب أنّ الولد منه، وهو اتهام لا يتحقّق ولا يثبت به زنا الزوجة بحال. وهذا هو الشقّ الثاني من اللعان، الأول هو اتهام الزوج زوجته بالزنا، وكونه الشاهد الوحيد على الفعل. في الحالتين تجري إجراءات اللعان، وتقع الفرقة الأبدية بين الزوجين (انظر الآيات 6.7.8.9 من سورة النور وتفاسيرها، والقواعد في كتب الفقه). ولكن الأمر لا يتوقّف على اللعان فقط، فقد كان انتساب الولد لأمه أمراً اعتيادياً واستمراراً لما كان الأمر عليه في الجاهلية، ولو لم يكن كذلك لمنعته الشريعة من قرآن وسنّة.
وعليه سار الأمر لاحقاً في كل المجتمعات العربية والإسلامية، حيث كانت الشريعة الإسلامية هي القانون الوحيد المعمول به. ولو كان في الأمر إخلالاً بها لما سكت عنه العلماء والفقهاء.
في زمن الدعوة، كان هناك من الصحابة من يحمل اسم أمّه، نذكر منهم: بلال بن حمامة، خُفاف بن ندبة، بشير بن الخصاصية، سعد بن الحنظلية (أم جدّه)، شُرَحبيل بن حسنة، سهل بن الحنظلية (أم أبيه)، بشير بن عقربة.
هناك أسباب عديدة للانتساب إلى الأم، منها قوة شخصيتها، فعلها وشهرتها في مجال السياسة أو العلم أو الاجتماع، أو المهنة، فقد تكون عالمة، نائحة، خاضبة، مغنّية، راعية ماشية...
مُدح الرسول الكريم شعراً بنسبته إلى أمه آمنة. وكان يذكر الصحابي عبد الله بن مسعود بـ«ابن أم عبد»... وكان عبد العزيز بن مروان والي مصر في القرن الأول الهجري، محبّاً فخوراً بأمه ليلى، وعُرف عنه أنه لا يعطي الشاعر على مديحه له إنْ لم يذكر في الشعر نسبته إلى أمه ليلى. في القرن الثالث الهجري ـــ التاسع الميلادي كتب محمد بن حبيب: «من نـُسب إلى أمه من الشعراء»، وكتاب «ألقاب الشعراء ومن يُعرف منهم بأمه». إن هذا العلاّمة بالأنساب والأخبار واللغة والشعر، الذي كتب العديد من الكتب، ينتسب إلى أمه. وفي القرن نفسه يكتب الفيروز آبادي «تحفة الأبيه فيمن نُسب إلى غير أبيه».
وفي القرن السابع الهجري ـــ الثالث عشر الميلادي يكتب الشيباني الأربلي «من غلب اسم أمه على أبيه»، في كتابه «المذاكرة في ألقاب الشعراء». ومن المهم هنا أن نذكر أنّ الكاتب يخصّص فصلاً عنوانه «من نُسب إلى أبيه من الشعراء».
وفي العادة يكون الخبر تقريري: يُذكر اسم الأم أولاً ثم اسم الأب إنْ وُجد، وإلاّ يقول المؤلف: لم أقف على اسم أبيه، ولا يذكر المؤلف إطلاقاً سبب النسبة إلى الأم.
ومثلان: الأول، عائلة ابن نقطة. اشتهرت أجيال متعدّدة من أبنائها بالعلم بفروعه المختلفة في بغداد. في القرن السابع الهجري ـــ الثالث عشر الميلادي سُئل أحدهم عن التسمية فقال: «إنها امرأة عُرفنا بها ربّت جد أبي». لا شهرة تُذكر لها في أمر معيّن، ولكننا نستطيع أن ندرك السبب، امرأة حكيمة، أحسنت التربية والتوجيه، منحت حباً وحناناً كبيرين.
والثاني، الزينبيون. الزينبي لقب يحمله أكثر من عالم بداية من القرن الثاني الهجري. إنهم ينتسبون إلى زينب بنت سليمان بنت علي، أميرة عباسية عُرفت بالحكمة والرأي، وبالحزم والشجاعة. زوجها إبراهيم الإمام قائد الدعوة العباسية، فصيح اللسان، راجح العقل، يروي الحديث والأدب، ذو خير وكرم. ما الذي جعل الانتساب لزينب؟ لقد عمّرت طويلاً بعد وفاة زوجها، وفعلت الأيام فعلها في تعميق ما ذكرناه من صفاتها، فكانت ذات ثقل سياسي واجتماعي، «وكانت عند العباسيين (السلطة) بمنزلة عظيمة»، فكانوا يلجأون لها طلباً للنصيحة والإرشاد.
الانتساب للأم كان أمراً اعتيادياً ومألوفاً، وما ذكرته هو أمثلة فقط: استشهدت بالسنّة النبوية، بصحابة كرام وعلماء وأدباء... وبعد، فالتاريخ لا يؤرخ إلاّ للمشاهير. ما ذكرته حصل، كان، إنه الماضي. عهود حضارة عظيمة، من أهم علامات رقيّها ونبلها وأبرزها المساواة بين الرجل والمرأة، ومن إماراتها الانتساب للمرأة وحمل اسمها.
منذ عقود ليست بالقليلة، وحين يؤرخ لعائلة اشتهرت بالعلم، تُحذَف أسماء البنات فلا يُذكَرن. وربّ قائل يقول إنهنّ لم يشتهرن بعلم أو معرفة، وقد يكون هذا، ولكنه تبرير غير مستقيم وغير منطقي. في عصور الحضارة السابقة تُذكر أسماء الأولاد من ذكور وإناث بغض النظر عن التحصيل العلمي لهم حين يترجم لعالم بصورة موسّعة، فيجري الحديث عن تحصيله العلمي، رحلاته، بمن تزوج.
في العديد من مجتمعاتنا اليوم، وفي المجالس الرجالية، يجري تجنب ذكر اسم الأم وكأنه عورة يجب أن تُستَر. فذكرها قاصر على الأوراق الرسمية الحكومية فقط.
يقف الدكتور علي سند والدكتور رفعت عبد الباسط ضد نسبة الطفل إلى الأم، وحججهم واقعية مُستقاة من القيم الاجتماعية السائدة والمسيطرة، أُجملها كالآتي: مناداة الطفل باسم أمه سيسبّب له عقدة وآلاماً نفسية، وهي مسبّة له ومعرّة بحقّه. سيواجه ظن المجتمع بالسوء، ويكون منبوذاً لكونه مجهول النسب، وهذا ظلم له وعدم إنصاف.
السبب هو: مجتمع شرقي يتميز بطابعه الذكوري البحت.
أوافق على السبب ولكن أضيف وأصحّح: لقد أصبح ذكورياً ولم يكن كذلك. فلا علاقة بتاتاً بين «شرقي» و«ذكوري»، وليس هناك سبب ونتيجة. كان على الدوام، منذ القديم، مجتمعاً شرقياً، للمرأة فيه مكانها إلى جانب الرجل في الصنع والعطاء، وكان يجري الانتساب إليها بفخر واعتزاز.
كان يجب القول إنّنا نعيش في مجتمعات متخلّفة، الرجل والمرأة كلّ منهما قامع ومقموع في آن معاً، وهو بلاء عظيم ومتعدّد النتائج ومن نتائجه موضوع حديثنا هذا.

* باحثة في الحضارة الإسلاميّة