محمد بنعزيز *«فتنة الأمازيغية: كيف سيواجهها الملك؟»، كان عنوان غلاف أسبوعية «الحياة الجديدة». هذا السؤال المخيف ناتج من توالي ارتفاع واشتداد صوت الأمازيغيّين، وهذه قصة طويلة.
في 1933، سنّت فرنسا قانوناً اسمه «الظهير البربري»، وذلك لتطبيق سياسة فرِّق تسُد بين سكان المغرب من عرب وأمازيغ (بربر). لكن الحركة الوطنية عارضته. بعد الاستقلال عام 1955، تكرّرت هذه الجملة في مقررات التاريخ في المؤسسات التعليمية: «سكان المغرب الأقدمون هم أبناء مازيغ جاؤوا إلى المغرب عن طريق الحبشة ومصر». حفظ آلاف التلاميذ هذه الجملة عن ظهر قلب وإن كانت هناك أصوات متناثرة وخافتة غاضبة منها، لكن ظروف السبعينات والثمانينات رصاصية، وقد تعاملت الدولة مع تلك الأصوات بقمع وصل حدّ اعتقال محامٍ لمجرد أنه كتب لافتة مكتبه بحروف أمازيغية وتسمى «تفيناغ».
في بداية التسعينات، ومع سقوط جدار برلين والصوت الاشتراكي، انبعث صوت الأصوليات الدينية والإثنية، فأصبحت تلك الأصوات ترتفع. ظهر أن تلك الجملة تعني أن سكان المغرب الأقدمون قد جاؤوا من شبه الجزيرة العربية، ومنها جاء الإسلام واللغة العربية، إذن فلغة ودين وأصل سكان المغرب واحد. هذه هي عبقرية تلك الجملة. لقد كتب التاريخ المدرسي ليسوّي حسابات الحاضر لا ليحدد ما جرى.
يقول أصحاب تلك الأصوات إن سكان المغرب الأقدمين كانوا فيه ولم يأتوا من أي مكان. ويضيف الشوفينيون منهم إن العرب دخلاء ويجب أن يعودوا إلى الجزيرة العربية ويتركوا شمال أفريقيا لأهله. بالموازاة مع هذا الصوت المتعصب، ظهرت جمعيات تبنّت المسألة الأمازيغية وركّزت على الواجهة الثقافية بهدف إدماج اللغة الأمازيغية في التعليم والإعلام. وهكذا صدر ميثاق آب / أغسطس 1991 عن الجمعيات الأمازيغية، كما شاركت الحركة الأمازيغية عام 1993 في مسيرة الألف ثقافة في فيينا.
وفي 1994، تحدث الملك الراحل الحسن الثاني عن تدريس اللهجة الأمازيغية في المرحلة الابتدائية مما أثار نقاشاً شديداً بين القائلين إنها لغة والقائلين إنها لهجة.
رأت الحركة الأمازيغية أن تناول الملك للموضوع مكسب، وهكذا استمرّ منسوب الحركة في الارتفاع، وقد قرّر روّادها عقد مؤتمر لتدارس أوضاع الأمازيغية في نيسان 2001. منعت السلطات المغربية المؤتمر كي لا تفلت الأمور من يدها، بينما حصل انفلات في منطقة القبائل الجزائرية، وقتل أكثر من 120 شخصاً فيما سمي بـ«الربيع الأمازيغي».
في تموز / يوليو 2001، ألقى الملك محمد السادس خطاباً في بلدة أغادير، مسقط رأس وعاصمة الأمير عبد الكريم الخطابي أثناء مقاومته لإسبانيا، قال الملك إن الأمازيغية مُكوّن أساسي للثقافة الوطنية، وأضاف: «إننا نولي النهوض بها عناية خاصة في إنجاز مشروعنا المجتمعي الديموقراطي الحداثي، القائم على تأكيد الاعتبار للشخصية الوطنية ورموزها اللغوية والثقافية والحضارية. وفي تشرين الأول / أكتوبر من السنة نفسها، أعلن الملك تأليف المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية www.ircam.ma، وضمّ إليه الكثير من قادة الجمعيات الأمازيغية، وقد نجح الملك في وقف المزايدات لأن والده عربي وأمه أمازيغية.
كان هذا نجاحاً كبيراً، وأصبح المعهد في الواجهة وقد كان آلية للإدماج المؤسّساتي للأمازيغية. بدأ تدريس الأمازيغية في الموسم الدراسي 2003 ــ 2004 بعد معركة شديدة حول الحرف الذي ستكتب به، وهل هو اللاتيني أم العربي أم الأمازيغي؟ اختارت الجمعيات الأمازيغية الحرف اللاتيني، وهدّد الإسلاميون بالنزول إلى الشارع إن لم يتمّ اختيار الحرف العربي، فاختار الملك حرف «تيفيناغ»، وهو حرف لا يعرفه حتى بعض النشطاء الأمازيغ، ممّا عرقل تسريع تدريس الأمازيغية، بل خلق مشكلة غريبة في المدرسة المغربية، لأنّ الطفل المغربي يتعلّم ثلاث أبجديات دفعة واحدة، وهذه معجزة بيداغوجية ستنتهي بكارثة تعليمية.
أمام هذا المشكل، إضافة إلى صعوبات إدماج الأمازيغية في الإعلام وتأخر تعميم تدريس الأمازيغية، ارتفع صوت الصقور من جديد. بدأ الأمر بانتقاد الصلاحيات المحدودة لمعهد الأمازيغية، ثم استقال سبعة من أعضائه وأعلن فشله. وبلغت المزاعم حدّ تسجيل تراجع الدولة الخطير عن التزاماتها بشأن تدبير الملف الأمازيغي، وارتفع سقف المطالب الأمازيغية وتعقّد: دسترة الأمازيغية، العربية استعمار لغوي، الأمازيغية علمانية... وانطلقت حرب تصريحات ضدّ الميراث الثقافي العربي الإسلامي، حرب ضدّ كل ما هو قومي وإنكار التعاطف مع الفلسطينيّين. تمّ القفز من مطالب اللغة والهوية والثقافة إلى الحكم الذاتي، وتزايدت مزاعم قمع واعتقال مناضلين أمازيغ، ونُظِّمَت ندوة عن مصير المختطفين السياسيّين الأمازيغ... وكثر الحديث عن الشعب الأمازيغي على عشرات مواقع الإنترنت الخاصة بالجمعيات الأمازيغية.
في نيسان / ابريل 2008، أقرّ القضاء المغربي قرار وزير الداخلية منع الحزب الديموقراطي الأمازيغي لأنه مؤسّس على أساس لغوي وعرقي. وقد سبق لرئيس الحزب أن زار إسرائيل وأدلى بصريحات مستفزة. نتيجة لمنع الحزب، تم تحذير الدولة المغربية من محاولة منع الأمازيغ من ممارسة العمل السياسي، وبدأ التلويح بخلق حزب معارض بالمنفى، وصدرت بيانات لجمعيات أمازيغية مختومة بتهديد من طينة «خوض كل الأشكال النضالية التي نراها
مناسبة».
في هذه الأجواء ظهرت وزارة الخارجية الأميركيّة تبحث عن ممثلين للأمازيغ في المغرب! وفي 13 / 03/ 2008 بالرباط، اجتمع بروميرو مارتينيز، المكلف بالعلاقات بشمال أفريقيا والشرق الأوسط في وزارة الخارجية الأميركيّة، بمجموعة من النشطاء الأمازيغ، منهم رئيس الحزب الممنوع السيد أحمد الدغرني، وقد تمخّض اللقاء عن مطالبة الأميركيّين للمغرب بتنظيم ندوة عن الأمازيغ. رفضت الحكومة المغربية بهلع عقد الندوة لتجنب تدويل قضية
وطنية.
هذه هي ملامح الفتنة، وهي شفهيّة إلى حدود اللحظة، والمتوقع ألا تقع، لأن ظاهرة اللا تسييس واسعة في المغرب حسب عالم الاجتماع السياسي عبد الله ساعف، في كتابه «رهانات التحول السياسي في المغرب»، الذي أكد أنه رغم سلبيات تلك الظاهرة، فلها بعض الفوائد لحفظ الجسم السياسي المغربي. ويقول: «شكلت قارة اللاتسيس حاجزاً طبيعياً وقف أمام العديد من الأخطار والانحرافات السياسوية والتطورات غير المضبوطة والجنوحات الخطيرة... ويبدو أحياناً أنّه ساهم في الحدّ من تطوّر هيمنة قوة معينة على الخريطة السياسية، بل جعل من هذه الخريطة، مشتّتة خلقت بيئة سمحت بتضميد جراحات الاحتكاكات التي عشناها في العقود الأخيرة بأقل الخسارات الممكنة». تمتصّ هذه الكتلة الصمّاء غير المسيّسة النزاعات وتعرقل الطموحات السياسية المفرطة لبعض الزعماء الصغار، ممّا يجعل المزايدات الكلامية تفتقد وظيفة التجييش، لأنّ البلد الذي تتسع فيه دوائر اللاتسيس ـ حسب ساعف ـ تستشري فيه اللامبالاة... وهذا نعمة هذه الأيام.

* صحافي مغربي