نهلة الشهال *لا شيء يعادل العنف الذي فجّر فيه وليد جنبلاط الأزمة الحالية، إلّا انكفاؤه وتراجعه أمام نيرانها. نعم، لم يخترع الرجل الموقف من عدمْ، وهناك توتّر هائل في لبنان عمره يقارب الأربع سنوات على الأقل، بدأ مع اتخاذ مجلس الأمن الدولي القرار 1559، بُعيد عام من احتلال الأميركيّين للعراق، ومرّ بمحطّة اغتيال رفيق الحريري وخروج سوريا من لبنان ثمّ بعدوان صيف 2006... ونشأ في ظلّ حيثيّات هذه الوقائع، الإقليمية منها والمحلية، انشطار عمودي في لبنان، انقسام متساوي الموازين في محصّلته الأخيرة (فلنتذكّر سجال المهرجانات المليونية المتبادلة)، ولكنّه عقيم، بمعنى أنه يقوم على أسس من الاستقطاب الطائفي بالدرجة الأولى، غير القابلة لإنتاج مخارجها بنفسها، بسبب طبيعتها تلك، وبسبب استمرار جريان الأحداث في المحيط الإقليمي، وعلى رأسها المقتلة السنيّة ـــ الشيعيّة في العراق، والدور الملتبس لإيران في هذا البلد المركزي، ثمّ أيضاً بسبب تفاهة أغلب النخبة السياسية اللبنانية الحالية، وكونها تنتمي حقّاً إلى صفّ ثالث ورابع، وغير مؤهَّلة لاتخاذ مبادرات تاريخية ذات قوام.
وهذا البند الأخير قد يبدو غريباً على من اعتاد التحليلات الكلاسيكية التي لا ترصد ولا تصف إلا اصطراع القوى وما تمثّله اجتماعياً، وتجعل من السياسة مجرَّد محصّلة لواقع «موضوعي» يدور في مكان آخر. إلا أنّ إغفال دور الأفراد والواقع الذاتي للنخب السياسية، أكانت في السلطة أم خارجها، يجعل التحليل لا يستقيم، وهذا ما أثبتته سياقات التاريخ في كل مكان.
التأكيد على وجود توازن أو تساوٍ للقوة بين جناحي الانشطار العمودي العقيم يدخل في حسابه أيضاً، رجحان القوة التنظيمية والقدرات العسكرية وربما الحافز الإيديولوجي لأحد أطرافه، مقابل اعتداد الطرف المقابل بالمساندة التي يتمتّع بها من قبل النظام العربي السائد وبدعم الولايات المتحدة الأميركيّة له.
وهكذا تتداخل وتتشابك العناصر الداخلية بتلك الخارجية، بحيث يصحّ تماماً تلافي النقاش على أرجحية أي منهما، وحصّته من الأهمية. وعلى المنوال نفسه، فلا يحوز أي من الطرفين «شرعية» قاطعة تبطل شرعية الآخر. فعلاوة على تمثيل فئات اجتماعية/ طائفية فعلية، ينطق كلاهما عن تصوّر سياسي عام وخيارات لم تعد تسعى إلى إخفاء نفسها: بات ما يعرف بجماعة 14 آذار يقرّون بأنهم منحازون إلى المشروع الأميركي في المنطقة، مغلّفين ذلك بالطبع بخطاب تبني «الاعتدال»، وبأنهم يرون مصلحة لبنان في هذا، وبأن مواقف العداء للاستعمار والسعي لمقارعته باتت موضة قديمة، بالإضافة بالطبع إلى كل المحاجات المصاحبة حول تفرّد لبنان الظالم في مهمة كهذه، والتشكيك في اختفاء نيات ومصالح هيمنة تسلطية فحسب خلف ادعاءات إيران أو سوريا مناهضة الأميركيّين.
تدفع هذه اللوحة إلى إدراك استحالة إلغاء طرف لآخر، وفي الوقت نفسه تطرح معضلة الترجمة العملية لذلك المبدأ الذي يقوم عليه الكيان اللبناني، المتطلب للتوافق الدائم، والذي شعاره الشائع هو «لا غالب ولا مغلوب». فالجنوح الفعلي هو دائماً لتحقيق الغلبة، استباقاً ودرءاً للاختلال أو خوفاً منه، على فرض حسن النيات. لذا يبدو لبنان بلداً صاخباً، (وحيوياً) من جهة، وواقفاً على نقطة توازن رفيعة (ومهتزاً) من جهة ثانية.
وما حدث منذ استقالة قسم من الوزراء من الحكومة اللبنانية في كانون الثاني 2007 مثال يجسد هذا. فقد ظنت ما بات يعرف بالمعارضة أن تلك الاستقالة تفرض على الجميع تلقائياً البحث عن كيفية إعادة صياغة التوافق، أي إيجاد تسوية للاستمرار في إدارة البلد. فسِوى ذلك غلبة.
أما الطرف الآخر، فقد تمسّك بشكلانية أنّه يمثّل الأغلبية ليستمرّ، متجاهلاً المعنى العميق لما حدث: وقوع اختلال فاضح. وشجعته الإدارة الأميركيّة على فعلته مردّدة بطريقة ببغائية ـــ ومن خلفها الأوروبيّون ـــ أنها حكومة منتخبة (؟) وهي تمثّل «الشرعية». ووقف حزب الله والجنرال عون، وهما القوة الأكبر في تحالف المعارضة، أمام مأزق؛ فالطرف الآخر خرج على قواعد السياسة في البلد، وهذا في لبنان يعني حرباً أهلية (تتكرّر دورياً). كما لم يعد هذا الطرف يعرف كيف يتعامل مع اعتصام الوسط التجاري الذي خُطِّط له ليكون نقطة ضغط هائلة لا حالة دائمة. ولا مع استمرار الحكومة في التعاطي مع الشأن الدولي بجذرية، لا كما يقتضي مجرد تصريف الأعمال. فتم اللجوء إلى وسيلة ضغط ثانية كبرى، هي تعطيل انتخاب رئيس للجمهورية ما لم يُتفق على حل شامل أو متكامل... وبدت الأزمة مرشَّحة للاستمرار هكذا، معلَّقة في الهواء، إلى حين يقع ما يدفع إلى الخروج منها. وكان يُتوقَّع طوال الأشهر الماضية أن يكون الحدث الطارئ إقليمياً، فيقال تارة تغيّر في سوريا، أو هجوم أميركي على طهران، أو توافق سعودي ـــ إيراني...
إلى أن فجّر وليد جنبلاط قنبلته، وتلقّفتها الحكومة فاتخذت قراريها الشهيرين... مغلّفة إياهما بتبريرات رسمية تليق ببلد كالسويد! ولعلّ الجماعة ظنّوا، بناءً على المأزق السابق المتكرّر، أنّ الأمر سيسقط بيد حزب الله، فيغضب ويدين بالطبع، ولكنه في نهاية المطاف يبقى محكوماً باحترام المعادلة التي يمثّل خروج كلّ أطرافها عنها وقوعاً للحرب الأهلية، وهو ما لا يريده حزب الله بالتأكيد.
لقد جرت المراهنة تحديداً على تلك المفارقة، وهي انعدام نيّة حزب الله في السعي إلى الهيمنة، ومعرفته أنّه، بسبب قوته وما يمثل، فكل إجراء يتخذه يحمل شبهة الهيمنة.
ومن الواضح أن هذا الحساب كان خاطئاً، ذلك أن القرارين الحكوميَّين مسّا عصباً، وأنّ تكتيك القضم المتواصل الذي تمارسه حكومة السيد السنيورة قد وصل مداه ولم يعد استمراره ممكناً. ويمكن إضافة عنصر ثالث، وهو الفارق الزمني في محطات السياسة الأميركيّة، بمعنى أنّ التوريط الأميركي للحلفاء لا يحدث دفعة واحدة، وإنما وفق شروط خلق الظروف الملائمة. ففيما قد يكون حلفاء واشنطن مزهوّين بتحالفهم ذاك، ومطمئنين إليه، ويريدون قطف ثماره فوراً، أو يظنون ذلك، فإنّ حسابات هذه الأخيرة تختلف تماماً، جوهراً وإيقاعاً.
ولا يعني الاختلاف أن واشنطن قد «باعت» أصحابها. بل يعني أنّ المتحكّم بالحركة هو واشنطن وليس السيد سنيورة ولا الدكتور جعجع، وهو ما يُفترض أنّه بديهي، ولكنه يبدو مثيراً لاستغراب هؤلاء ولإحباطهم. وأمّا الأول، فيبدو أن تصدّيه بشخصه للموقف قد منحه ثقلاً يفتقده تعريفاً، علاوة على أنّ افتقاده هذا للقاعدة الاجتماعية يمتلك جاذبية خاصّة في أعين الأميركيّين يؤكّدها «إعجاب» الرئيس بوش به (ممّا قد يفسّر تخطّيه للسيد سعد الحريري أحياناً، في المواقف وفي الشعبية التي تخاطب غرائز مستنفرة، أو ما يبدو من امتلاكه المتعاظم لزمام نفسه بخلاف موقعه كموظف في عهد الحريري الأب). وأمّا الثاني فيبدو أن تراجع شعبية تنظيمه وانفكاك قطاع لا يستهان به من المسيحيّين عنه قد أعاد دفعه إلى أحضان إسرائيل، كما تقول التقارير الإسرائيلية نفسها.
ماذا عن وليد جنبلاط؟ وهو من لم يكفّ منذ باشر السياسة عن تكرار قتل أبيه، وهو هنا الأب الفعلي وليس الرمزي، فقام بكل ما لم يكن متصوراً أن يقدم عليه كمال جنبلاط بأي صورة من الصور، منذ مذابح الجيران المسيحيين في الجبل، وحتى الإقبال على مباهج الدنيا مقابل زهد الأب، والتقلب السياسي البهلواني مقابل مبدئية الأب ورسوخ قيمه وقناعاته، وانتهاءً بالتصدي للوكالة الأميركيّة ينافس عليها الدكتور جعجع والسيد السنيورة، وهو يمتلك جاذبية الوفود من الموقع اليساري (الموروث هو الآخر)، والانتماء إلى إطار عالمي ذي معنى هو «الدولية الاشتراكية»... هل يكفي هذا الحافز سبباً لتفسير سيرورة الرجل؟ بالتأكيد كلا، وإن يكن الأمر لم يعد مهماً بعدما وصلت الأمور إلى نقطتها الحالية. ولكنه في قفزه المستمر، قد يفلح اليوم في المساهمة في تسهيل وصول وفد الوساطة العربية إلى تجميد المسار الانحداري نحو الجحيم، فيتصالح ولو قليلاً مع نفسه... أو مع أبيه! وإنْ كان ذلك لن يُنهي المأزق الكبير الذي يقف أمامه لبنان، وهو مأزق الجميع.
* باحثة لبنانيّة