علاء اللامي *في خضمّ الحملة الدامية والمتواصلة التي تشنّها قوّات الاحتلال والقوّات الحكومية المتحالفة معها لتصفية التيار الصدري، جمهوراً وقيادات ومقاتلين، صدرت ردود أفعال ومواقف مختلفة. فقد احتشدت القوى والأحزاب والشخصيات المتحالفة مع الاحتلال أو حتى الساكتة عنه مع الحكم القائم على المحاصصة الطائفية والعرقية ومع الرجل الأول فيه، رئيس الوزراء نوري المالكي، فأيّدت قراراته وامتدحتها وروّجت لها علناً. وقد أحرز قصب السبق في هذا المضمار الرئيس البروتوكولي للدولة، السيد جلال الطالباني.
أمّا القوى المناهضة للاحتلال، أو التي كانت مناهضة للاحتلال ذات يوم، فقد عبّرت عن تضامنها مع ضحايا هذه الهجمة الشرسة بهذه الدرجة من الوضوح (أو الغموض) أو تلك، وسكتت أطراف أخرى سكوتاً مطبقاً... والواقع فقد كانت ردود الأفعال «الوطنية» في هذا الصدد أقلّ كثيراً من الواجب والمتوقَّع.
وسنتوقّف اليوم عند المواقف التي عبّرت عنها هيئة علماء المسلمين بوصفها أحد الأطراف المهمة المناهضة للاحتلال، والتي كان لها ثقل نوعي في سنوات الاحتلال الأولى، ما لبث ــ هذا الثقل ــ أن تأثّر سلبياً جرّاء المواقف اللاحقة للهيئة، وخصوصاً حضورها مؤتمر المصالحة الأوّل في القاهرة، الذي جرى تحويله إلى المسوّغ الأول والأهم للزجّ بقطاعات واسعة من جمهور مناهضة الاحتلال، وخصوصاً من «مناطق العرب السنّة في غرب العراق» في العملية السياسية الاحتلالية.
ولا بدّ من التذكير بأن هذا الخطأ الكارثي قد سبق التيار الصدريُّ هيئةَ علماء المسلمين إلى ارتكابه، وبشكل أكثر مباشرةً وصراحة، حين دخل العملية السياسية في كتلة واحدة مع الأحزاب المتحالفة مع الاحتلال.
وبالعودة إلى موضوع موقف الهيئة من حملة تصفية التيار الصدري التي بدأت بعملية «صولة الفرسان» في البصرة وعدد من محافظات الجنوب، وانتقلت فيما بعد إلى مدينة الثورة (الصدر) نسجّل أن الهيئة أصدرت بياناً ورد فيه على الخصوص إدانتها لعمليات القتل الواسعة والبشعة التي قام بها طيران الاحتلال وحمَّلته هو وحكومة المالكي مسؤوليّة تلك المجازر. ولكنّها بادرت إلى ما يمكن اعتباره تحريضاً لأهالي المدينة ضدّ التيار الصدري، حيث ورد حرفياً (وعلى أهل المدينة أن يأخذوا العبرة من الأحداث، فهذه الحكومة ومعها رؤساء الكتل السياسية، وآخرون هم أنفسهم الذين استغلوا من قبل كثيراً من أبناء هذه المدينة لتحقيق أهداف خسيسة تحت شعار كاذب قوامه الدفاع عن الطائفة، ودفعوا بهم إلى ممارسة الفعل الطائفي قتلاً وتهجيراً وحرقاً للمساجد والبيوت، بحقّ إخوة لهم في الدين وشركاء لهم في الوطن لم يرتكبوا ما يستحقّون عليه منهم هذا المصير...).
وغير بعيد عن هذه اللهجة، وربما بتحديد وتشنج أشدّ، نقرأ تصريحاً للشيخ حارث الضاري الأمين العام لهذه الهيئة لصحيفة «الشرق الأوسط» يقول فيه «على مدى السنتين الماضيتين، وهو عمر وجود المالكي في السلطة، كان (المالكي) معتمداً على التيار الصدري وجيش المهدي في البقاء بموقعه، بالرغم مما اقترفه جيش المهدي من جرائم قتل واليوم اختلفت المصالح بينهما».
من الواضح أن الهيئة اختارت توقيتاً غير ملائم البتة لتصفية حسابات قديمة أو متأخرة مع التيار الصدري. ففي أجواء المذبحة التي كان يتعرض لها هذا الأخير ومسلحوه وجمهوره المدني من جانب الاحتلال وحلفائه، لا يمكن التسويغ أو التبرير، حتى إذا كان من نوع الغمز واللمز، ضدّ الحليف أو من هو في حكم الحليف، وضدّ أيّ قوة مناهضة للاحتلال تتعرّض للذبح علناً. ومع أنّ التيار الصدري له أخطاؤه، وخصوصاً حين بلغ الاستقطاب الطائفي أشدّه وتحوّل إلى اقتتال طائفي مفتوح بين الميليشيات عقب جريمة تفجير مرقدي سامراء، غير أن فتح هذا الملف بالذات، وفي هذا الوقت بالذات، لا يمكن استيعابه أو تفهّمه وفق أي حسابات سياسية وطنية حريصة على الجهد المناهض للاحتلال.
فحين يلخّص الضاري عملية الاستئصال والتصفيات الجسدية التي قامت بها قوات احتلال وحلفاؤها في القوات الحكومية بأنها مجرد «اختلاف في المصالح بين المالكي وبين حلفائه الصدريّين»، مع التذكير بأن هؤلاء الحلفاء «الصدريين» هم «قتلة ومجرمون، وأن المالكي كان يعتمد عليهم ويعرف بأنهم كذلك»، فإن من العسير فعلاً التفريق بين صوت الضاري وصوت القياديّين في حزب الدعوة أو المجلس الأعلى الذين كالوا هذه الاتهامات للصدريين، وخاضوا عملية حرب نفسية ضارية ضدهم، انتشى لها الاحتلال أيّما انتشاء ...
ألم يكن حريّاً بالهيئة وأمينها العام التركيز على أخطاء قيادة التيار وضعف وارتباك أدائها السياسي للمعركة وهي عديدة؟ ألم يكن مفيداً للتيار والهيئة وعموم القوى المناهضة للاحتلال، النأي عن نكء الجراح وخاصة ذات الأبعاد الطائفية، وعن تحريض الجمهور الصدري على قيادته النازفة والتركيز على جريمة الاحتلال وحلفائه بحقّ الضحايا؟
ألم يكن مفيداً ومبدئياً وإنسانياً إبداء التضامن غير المتحفّظ مع أهالي مدينة الثورة (الصدر) والمقاومين المدافعين عنهم ضدّ الاحتلال والحكومة المتحالفة معه بدلاً من منح خطابهما ــ أي الاحتلال والحكومة المحلية ــ واتهاماتهما «صدقية» ما؟
لقد مرّت علاقات الهيئة والتيار بمراحل وحالات عديدة من التوتر والتشنج تارة، والتنسيق والتضامن الأقرب إلى التحالف تارة أخرى، ثمّ سقطت في مرحلة أو حالة من الجفاء والعداء امتدت فترة طويلة. وحين بدأت حملة تصفية التيار الدموية، جاءت هذه البيانات والتصريحات على لسان الهيئة وأمينها العام لتقيم ما يشبه سوراً عصيّاً على التحطيم بين الجانبين، ولتؤشّر إلى مكامن الخطر التي هدّدت وستواصل تهديد الجهد الوطني المناهض للاحتلال، ومن منطلقات طائفية هذه
المرّة...
لقد حرص الشيخ الضاري طويلاً على أن يكون خطابه وتصريحاته مؤسّسة ومستندة إلى الثوابت الوطنية العامة، مع أن الهيئة شأنها شأن التيار الصدري، تنتمي إلى ما يمكن تسميته الطائفية التكوينية من حيث جمهورهما وجغرافية وجودهما وخطابهما التعبوي. غير أنّ هذه المواقف الصريحة وذات النزوع الطائفي السياسي لهيئة علماء المسلمين وأمينها العام في مضامينها ولغتها، تثير القلق العميق والانشغال الكبير ممّا أحاط بالمعسكر الاستقلالي وقوى مناهضة الاحتلال من أخطار التعادي والجفاء والقطيعة. ولا سبيل إلى تفادي المفاعيل السلبية والتأثيرات الضارة مواقف وممارسات كهذه إلا بإجراء حوار جاد وصريح وعميق بين أطراف هذه القوى يبدأ بين قيادة التيار الصدري وهيئة العلماء ثمّ يتّسع ليشمل كلّ القوى الاستقلالية المناهضة للاحتلال على أساس الثوابت الوطنية. وإذا فشل الطرفان في الخروج من هذه الدوامة العدائية فإن ذلك سيمثّل إفلاساً لكليهما، وسيعطي إشارة بدء العد العكسي لخروجهما من الميدان الوطني وتحوّلهما إلى قوتين طائفيّتين عاديّتين ومتعاديتين بفعل ما يمكن تسميته العائق البنيوي في فكرهما وممارساتهما وتكوينهما التنظيمي. وسيكون الاحتلال ومشروعه السياسي هو المستفيد والرابح الأول من عدائهما...

* كاتب وصحافي عراقي