ورد كاسوحة *كما كان متوقّعاً، انتهت أعمال القمّة العربية العشرين في دمشق، من دون نتائج تُذكَر، وبحصاد فقير وبائس للغاية. حتّى لو انطوت مسبّبات البؤس والفقر هذين على عوامل موضوعية وخارجة عن إرادة الدولة المضيفة، وخصوصاً في ما يتعلق بالضغوط الأميركية المفرطة التي مورست على دول بعينها مثل السعودية ومصر والأردن ولبنان، لحملها إما على مقاطعة القمة كما حصل مع لبنان، أو على خفض مستوى التمثيل في الوفود المشاركة كما حصل مع السعودية ومصر والأردن. وهذا ما يعطي رئاسة القمة التي اضطلعت بها سوريا أسباباً تخفيفية، تدرأ عبرها إخفاقها ومن ورائها النظام الرسمي العربي في ترهين صيغ العمل العربي المشترك وتثميرها، وبالتالي تحويل مؤسّسة القمة العربية إلى مشروع حقيقي لإدارة المصالح القومية العربية، إن من الناحية السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو العسكرية.
وإذا ما أراد المرء الاستطراد في توصيف الطابع الشكلي الذي ارتدته هذه القمة، فلن يجد أفضل من استعراض ملامح الوفود العربية الرسمية التي تقاطرت إلى دمشق سبيلاً إلى ذلك. وهو استعراض يتوزّع على محورين أساسيّين: ما يجمع وما يفرّق، مع التسليم مسبقاً بأنّ الافتراق هو الغالب والمهيمن على صورة المشهد العربي حالياً. ذلك أن الوفود الرسمية التي تقاطرت من كلّ حدب وصوب إلى دمشق، «لتحتفي» بقمتها، لا يجمع بينها عملياً سوى التحلّق حول طاولة رئاسية مستديرة مرّة كل عام. ولولا إشارة الزعيم الليبي معمر القذافي إلى هذه
المفارقة وكسره، كما في كلّ مرة، التقليد الرسمي العربي البليد في التكاذب و«تبويس اللحى»، لفاتنا الكثير من التشويق، ولمرّ تفصيل أساسي ومهمّ كهذا مرور الكرام، من دون أن يعيره أحد انتباهاً.
وهنا لا يجوز إغفال مكمن الطرافة في تصريحات القذافي (شنق صدام حسين والمصير المماثل لباقي الرؤساء العرب، صيرورة الدول العربية محميات أميركية ومستوعبات للنفايات...)، حيث التهكّم اللاذع لا يكتسب معناه ما لم ينسحب على صاحبه بالضرورة، وهو ما أشار إليه القذافي بوضوح حينما وسم نفسه وباقي العرب «بأصدقاء» أميركا المترقّبين بؤس المصير. وهذه عبارة يمكن صوغها بطريقة مختلفة، ولكن بالدلالة ذاتها التي «أرادها» (والأصح أنه لم يردها على نحو مباشر أو سقطت منه سهواً): «أتباع» أميركا الذين، لفرط ما تنازلوا عن حقوقهم، لم يعودوا يمتلكون ما يسوّغ لهم شرعية البقاء، البقاء الأجوف مجرداً من أسبابه وتعليلاته.
ولكن مع هذا، ورغم فداحة المشهد العربي، فقد اجتمع العرب في دمشق. وهنا يجوز القول إن مجرد اجتماعهم ولو من دون «أجندة» مشتركة أو رغبة حقيقية في التلاقي والمصالحة هو إشارة صحية إلى حدّ كبير، أقلّه لجهة كسر الحاجز النفسي الذي ضُرِب حول دمشق منذ اغتيال رفيق الحريري، وحوّلها إلى مدينة أشباح أو مدينة رمادية كما أشار إلى ذلك أخيراً أكثر من معلّق ومراقب في معرض توصيفهم لحال المدينة (وبعضهم انقطع عن زيارتها لأكثر من عقدين أو ثلاثة!). ولا أدري على وجه التحديد مدى صحّة هذا التوصيف، وما إذا كان توصيفاً لحالة زائفة ومفتعلة ولا تمت إلى الواقع بصلة، ما يعني التوصيف بغرض التنميط والتسويق المبتذل لصورة مشوّهة عن المدينة وناسها، أو على العكس من ذلك، أي توصيفاً لحالة حقيقية تتّصل بنمط الحياة المغلَق الذي يفرضه وجود نظام استبدادي يحكم البلد منذ عام 1963.
وعلى أيّ حال، ينبغي الاعتراف، رغم وضعية التنميط السائدة في الإعلام العربي عن دمشق وعن السوريين عموماً، بأن هذا البلد إنما يسير بخطى حثيثة نحو «انفجار» وشيك، تتبدّى ملامحه في صورة الخلط غير المنطقي وغير المفهوم بين ميكانيزمات متناقضة وغير متسقة على الإطلاق:
استبداد سياسي وانغلاق إعلامي تتخلّله انفراجات بسيطة وغير مشجّعة (ظهور منابر إعلامية «خاصة» وإن تكن غير مستقلة) معطوفيْن على محاولات منهجية لتحرير الاقتصاد وتصفية دور القطاع العام، في ما يشبه السعي إلى استنساخ التجربة اللبنانية السيئة الذكر، مع ما يعنيه هذا الأمر من إعادة إنتاج سورية للحريرية الاقتصادية، ولكن على نحو أكثر بؤساً وسوءاً من النسخة اللبنانية، إذا ما أخذنا في الاعتبار التفاوت الكبير في مستوى الدخل بين البلدين، حيث متوسّط دخل الفرد في لبنان يعادل أربعة أضعاف متوسّط دخل الفرد في سوريا.
بهذا المعنى، تكتسب إشارة الصحافيّين لحال الغلاء المستشرية في سوريا هذه الأيام راهنية مضاعفة، لأنها تضع اليد على جرح غائر في الجسد المجتمعي السوري، وذلك لجهة انتفاء «الامتياز» الذي كان يتفاخر به عموم السوريين أمام إخوانهم العرب، ويجدون فيه تعبيراً عن سياسة اقتصادية حمائية وحاضنة للفقراء وذوي الدخل المحدود، وبالتالي متمايزة جداً عن سياسات عربية أخرى نحت باتجاه الخصخصة الشاملة وتحرير الاقتصاد وإخضاعه لشروط الليبرالية المتوحّشة، المعبَّر عنها بسياسات كل من منظمة التجارة العالمية والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
وبهذا، تكون سوريا قد ابتعدت أشواطاً عن الصيت الذي خوّل الآخرين تسميتها «أم الفقير». لذا من غير المستبعد في المقبل من الأيام أن يؤول حالنا في هذا البلد إلى ما آلت إليه حال المصريّين أخيراً من تنازع دام ومؤلم على أبسط أسباب الحياة: رغيف الخبز. إذ من المثير للاهتمام جداً أن يلاحظ ضيوف دمشق وقمتها هذه القفزة الجنونية في أسعار السلع والمواد الأولية بين عام وآخر، وهم الذين لا يأتون البلد إلا موسمياً وفي الملمّات والأحداث «الكبرى»، كانعقاد القمة الأخيرة. فما بالنا بالمواطن السوري الذي يعيش فصول هذه المأساة يوماً بيوم، ويدفع ثمنها من قوته ولحمه الحيّ.
قد يبدو هذا التداعي للأفكار سطحياً إلى حدّ كبير، ومن دون رابط يُذكَر بين فكرة وأخرى، بما يحمل المرء (القارئ) ربما على التفكير في جدوى هذا «التسكّع» غير السلس بين متون قمّة دمشق وهوامشها، ومن دون القدرة على إيفاء كل منهما حقه في المعالجة والاستقراء، لكن قراءة أوفى وأكثر تمحيصاً لما سبق ذكره يمكن لها أن تثبت أن الطريقة المثلى لتكوين انطباعات عن قمة دمشق تكمن في تشتيت هذه الانطباعات وأخذها مرّة إلى المتن الرسمي الباهت والبليد، ومرّات إلى الهوامش الثرية والمنطوية على عمق حقيقي يمكن له وحده أن ينفذ إلى أحوال الناس ومعيشهم اليومي. وهما أمران كثيراً ما أهملهما النظام الرسمي العربي وجامعته وقممه الدورية.
بالانتقال قليلاً إلى متن الموضوع، أي إلى حال الانقسام الشديد وغير المسبوق ما بين «عربين»: عرب «الممانعة» وعرب «الاعتدال»، فإن من الإنصاف القول إنّ هذه القمّة كانت مناسبة جديدة لتعميق هذا الانقسام وترهينه أكثر من أي وقت مضى، وذلك بخلاف ما أشار إليه وزير الخارجية السوري في مؤتمره الصحافي الختامي حينما نفى هذا الانقسام لأسباب تتصل بمصلحة النظامين السوري والسعودي في الحفاظ على شعرة معاوية في العلاقات البينية، وهذا ما دعا أحد الصحافيين الحاضرين في المؤتمر إلى التندّر والتهكّم ووصف حال التهدئة التي سادت القمة بعوارض غزل متبادل سعودي ـــ سوري. غير أنّ حال التهدئة هذه لن تدوم طويلاً على ما يبدو، ما دامت الملفات المتفجرة قد رُحّلت إلى ما بعد القمة بدعوى مقاطعة الدول المعنية مباشرة بها، وخصوصاً في ما يتعلق بالملف اللبناني الذي يرشّحه البعض لمزيد من التعقيدات وامتناع التسويات واستنفاد الحلول، ما دام التنازع السوري ـــ السعودي بشأنه على حاله.
لا شكّ أخيراً في أنّ القمة كانت بمثابة فرصة حقيقية للنظام في دمشق لتثبيت أقدامه وتحصين مواقعه أكثر فأكثر. وقد أسهمت إدارته الناجحة لأعمال القمّة في تظهير صورة مختلفة له، تفترق تماماً عن صورته غداة إلقاء الرئيس السوري خطاب «النصر» عقب انتهاء حرب تموز 2006، إذ حلّ الاتساق والتوازن والخطاب العقلاني البارد والمتجنّب للضغوط الأميركية بملحقاتها العربية محلّ الارتجال والارتباك والمراكمة غير المحسوبة على رصيد الحلفاء في لبنان، الأمر الذي أتاح وقتها لخصوم النظام الفرصة للنفاذ إلى تناقضات هذا الحلف «الممانع» ومحاولة إسقاطه من الداخل، عبر التركيز الخبيث على صبغته المذهبية المفرطة (شيعية حزب الله وعلاقته بإيران الخميني).
ومع سقوط هذا الرهان في كلّ من لبنان والعراق وفلسطين، يبدو أننا نتجه بخلاف الجوّ الهادئ الذي ساد قمة دمشق، إلى مزيد من التصعيد، وربما إلى جولة جديدة من العنف المنظَّم، إذ لم نعتد أن تسلّم الولايات المتحدة الأميركية أوراقها في المنطقة بهذه الخفّة، ودون رغبة تذكر في «الممانعة» وتكبيد الخصوم خسائر تتناسب مع فداحة الضرر الذي ألحقه هؤلاء بالسياسة الأميركية في المنطقة، وخصوصاً أننا على أعتاب نهاية حقبة أميركية يتهدّدها كساد اقتصادي وشيك وتعتريها خيبة كبرى من استراتيجية الحروب الاستباقية. وعليه، يصبح السؤال الوحيد هنا عن وجهة الردّ لا عن توقيته، فهذا الأخير بات شبه محسوم لكثير من المراقبين، بعد جولة ديك تشيني الأخيرة في الشرق الأوسط، ومحاولته تمتين «قوى الاعتدال» وطمأنتها إلى أن الحرب قد باتت على الأبواب.
* كاتب سوري