نسيم الخوري *هل يصحّ حتّى الهمس بتشظيّات الوطن العربي وكأنّه عقار قابل للفرز بين عرب أفريقيا المتردّدة، وعرب الهلال الخصيب، وعرب الخليج الحائر القلق؟
يحفر هذا السؤال في العظم لمن أبصر النور في نائي الجنوب اللبناني منذ ستة عقود، مجبولة بفلسطين جرح العروبة. ويتعمّق الحفر إذ يتأهّب السكّين الإسرائيلي للاحتفال بالذكرى الستين لطعن كسوة القدس، في الوقت نفسه الذي يتدافع فيه العرب ويجاهدون للظفر بنصل السكّين الجديد يتهادى تحت القبضة الأميركية فوق رقعة العرب والإسلام.
لم تحمل المقاطعة غير المحسوبة استراتيجيّاً وقوميّاً ومستقبليّاً، غياباً للبنان عن القمة العربيّة في دمشق، بقدر ما عنت استمرار تعثّر بعض لبنان في تلمّس الطريق العربي المهتزّ بين منعطفين، أولهما منذ ثلاثين عاماً مع نكبة «كامب دايفيد»، وثانيهما مع حرب تمّوز الأخيرة على لبنان المقاومة.
فحجم التمثيل وجدول الأعمال، ومستوى القرارات وقابلية تنفيذها أو استحالته، أمور شكلية في معيار نجاحها، قياساً بنبرتها الحوارية حيال المكابرة والضغوط الهائلة في وجهها لمن لم يكن يريدها أصلاً من العرب والغرب، فجهد لإلغائها ونقلها أو تعثّرها. وبانت دمشق أمويّة أمام من كان يحسبها قد لوت أو تعثّرت أو هدأت. تحسن مخاطبة الزمن العربي المتثاقل، وتعرف بسط الملاعب عند الحفافي وفوق الخناجر المستلّة، على الأقلّ في الوعي المعلَن لتبادل الأدوار التاريخية بين العرب وأعدائهم: أين كانوا وأين أصبحوا؟ وهيهات لمن يريد أن يستذكر قمم اللاءات والصمود والتصدّي لبدايات الانهيار العربي. فإذا طوّع العرب تسعاً من أصابعهم، فليحتفظوا بالعاشرة ليقولوا لا.
كيف نفسّر هذا الكلام؟
في 9 تشرين الثاني / نوفمبر 1977، توجّه الرئيس المصري أنور السادات، بحضور ياسر عرفات، إلى مجلس الشعب المصري بالقول إنّه على استعداد للذهاب إلى الكنيست الإسرائيلي ومخاطبة الرأي العام الإسرائيلي مباشرة. هذا الاقتراح المحرّم آنذاك، والذي لم يراود قبلاً سوى الأمير فيصل بن عبد العزيز والملك عبد الله الهاشمي عام 1949 الذي قُتل في 20 تموز / يونيو على عتبة الأقصى في القدس العتيقة، مع ما لحق بالمملكة الهاشمية، دفع بالسادات إلى تجاوز الترحيب المتردّد والمرتبك لبيغن الذي ما احمرّت وجنتاه أمام انهيار خطّ بارليف، والذهاب إلى دمشق في 17 من الشهر نفسه كي يشرح للرئيس السوري آنذاك حافظ الأسد أبعاد فكرته التي رُفضت ولُفظت، بينما انشطر الوطن العربي بشأن الزيارة بين دول معتدلة شابها صمت ثقيل حذر مثل المملكة العربية السعودية ودول الخليج، ودول رافضة أخرى مثل بغداد وليبيا وسوريا والجزائر واليمن، بالإضافة إلى الفصائل الفلسطينية.
تابع السادات قفزه المحموم فوق المحرّم العربي، وكسره في ما يشبه الجنازة العربية العارمة، مقرّباً موعد الزيارة ـــ الفتق إلى 19، حيث قرع أبواب إسرائيل بعرقه المتصبّب ضيفاً يلتمس في قلب الكنيست الإسرائيلي «السلام العادل والدائم».
ماذا قدّم الريّس الذي بدت حياته خارج جسده منذ قراره الهمّ نحو العدو. قدّم 5 نقاط هي: إنهاء إسرائيل لاحتلال الأراضي التي ضمّتها إليها في حرب حزيران 1967. ضمان الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني بما فيها حقّ تقرير المصير وإقامة دولتهم الخاصّة. حقّ كلّ دول المنطقة بالعيش بسلام داخل حدودها الآمنة والمضمونة. إنهاء النزاعات في المنطقة، وأخيراً التطبيع الكامل للعلاقات بين إسرائيل ودول المنطقة. وبقيت الأمور تعسّ ببرودة حتّى 17/9/1978، تاريخ توقيع سلام «كامب دايفيد»، ومقتل الريّس في 1981.
وصار خطّ الرفض يمّحي في دفاتر بعض الأنظمة، ويتقدّم معه خطّ الاعتدال، حيث تابعنا الثلاثي المصري والأردني والإماراتي يجهد لقرع أبواب «إسرائيل»، بتكليف من القمّة العربية في الرياض لتسويق نصّّ مبادرة السلام العربية التي طرحها الملك السعودي عبد الله على قمّة بيروت العربية في 27 و28/3/2002، وكان وليّاً للعهد آنذاك، وقد حضر تلك القمّة؛ أبو عمّار بالصوت
والصورة.
فما هو الجديد الذي حصل؟ نقاط الريّس بقيت جامدة ولنقل ثابتة من دون حياة أو حراك. أي إنّ الأساس بقي متعفّناً في جموده لمصلحة إسرائيل، بالرغم من تفاصيل الاتفاقيات والوعود السريّة واستراتيجيّات التطبيع الواسعة المجّانية مع العدو الإسرائيلي، والمبادرات والأفكار والجولات والمتغيّرات، في الشكل وفي الزعماء والمسؤولين الذين يوحون مسرحيّاً بالمتحرّكات التي نضعها كلّها جانباً.
راح الصراع العربي ـــ الإسرائيلي يعاين تحوّلات هائلة على الرغم من سقوط بغداد الدموي العنيف، وفَوَران فلسطين في غزّة، وممانعة لبنان وزهوه الذاهب في هذا الصراع عكس الريح الإقليمية والعالمية، وبات الصراع العربي ـــ العربي يتقدّم بمعانيه ومعطياته التفصيلية مقابل انكفاء الصراع العربي ـــ الإسرائيلي بمعانيه وأبعاده الاستراتيجية. وفي هذه المفارقة، تكمن في رأينا هوية العرب المقبلة ومستقبلهم في العقود الخمسة المقبلة!
قد لا نلحظ فرقاً كبيراً بين مبادرة بيروت بنقاطها السبع والنقاط الساداتية الخمس إلاّ باثنتين: الأولى تلك التي أصرّ عليها الرئيس اللبناني إميل لحّود كرئيس للدورة آنذاك، والقائلة بالتوصل إلى حلٍّ عادل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين وفقاً للقرار 194 الصادر عن مجلس الأمن الدولي عام 1948، أي رفض التوطين المنصوص عنه في ديباجة الدستور اللبناني الذي انبثق من اتفاق الطائف عام 1989، والثانية دعوة المجتمع الدولي بكل دوله ومنظّماته إلى دعم هذه المبادرة.
مهلاً! كيف يتمكّن العرب من النصر على قوّة زمن مثقلٍ بعداوتهم؟
بالقراءة الواقعية والهادئة لتحولات النصر والهزيمة لما حصل في لبنان في العامين 2000 و2006 في مسار الصراع بين العرب وإسرائيل، عرف معظم العرب في تشظّيهم في خلال هذه الثلاثين عاماً أربع حروب مع إسرائيل، وفيها صار العدو في ألسنتهم ونصوصهم وأذهانهم واقعاً قائماً غير محرّم.
منذ 1993، وإسرائيل تصدّر الكوادر للأردن مقابل اليد العاملة. الفلسطينيّون في أنفاق أوسلو منذ 13 أيلول / سبتمبر 1993، ثمّ أدخلوا في 28 أيلول 1995 في اتفاق طابا الذي أعاد إليهم 30 في المئة من الضفة الغربية، أي ما مساحته 5 كيلومترات مربعة، أي 7 مدن و450 قرية بشكل جزر متباعدة وأوعية غير متّصلة بل متقاتلة، محاطة بـ120 مستوطنة وفيها 30 ألف مستوطن من دون القدس الشرقية. ماذا يعني الوعد الإسرائيلي لرايس بإزالة خمسين حاجزاً في الضفة الغربية من أصل 508 حواجز، إلى المستوطنات العشوائية التي تجعل قارئ وثائق «خريطة الطريق» والأمم المتحدة يهزأ من نفسه والنصوص!
لن تحقّق رئاسة دورة الجامعة العربية الزعامة لدمشق، وهي لا تتطلّع إلى أكثر من إعاقة السباحة العربية في بحر شيمون بيريز (1994)، حيث المؤتمرات الاقتصادية في الدار البيضاء وعمان وقطر وإسرائيل، وحيث نزع السلاح والحرب على الصحراء والسياحة والمواصلات، وحفر قناة تقوم بين البحرين الأحمر والميت وميناء مشترك عربي ـــ إسرائيلي، يُصار بعدها إلى تحلية مياه المتوسّط وقيام مشاريع الصحراء، بما يجعل واحداً في المئة من عوائد نفط العرب عند تمثال بن غوريون، فيبتسم علامة الرضى في رفاته.
لكن... بصرف النظر عن إحجام لبنان كنيسة العرب من القول بالعربية ما يُفترض أن يُقال في ما يفصل بين العرب والعرب، وتفسير النقطة التي تفرّق بين العرب والغرب. وبعيداً من هذا التطاول المخجل من أبناء بقايا الحكومة في لبنان للقفز فوق السور الدمشقي ورشقه بالحجارة، أو بما يقلق الأضرحة في ساحة الشهداء، لا تجوز الاستهانة بردود فعل الجماهير وتعليقاتها على القمة في شاشات العرب وفي بلاد العرب أوطاني من الشام لبغداد، وخصوصاً في القاهرة والرياض وعمّان التي لا تقول بسلام متوقع وموقّع عليه، بل بتسويات مؤقّتة ضحلة قابلة للطعن القانوني والنضالي. لسبب بسيط أنّ ألف عام في حياة الشعوب وفي عيني الرب هو كأمس الذي عبر، وصوت الشعب هو من صوت الله كما يلقّن أحفاد الكاثوليك أو اللاتين تحت قببهم الديموقراطية والكنائس!
* كاتب لبناني