زياد منىلعلّ من المفيد بداية أخذ العلم بأن الحديث عن التنقيبات في القدس المحتلة سياسي ــ صهيوني لاهوتي عَقِدي، يكتبه أركيولوجيّون، همّهم الرئيس هو البحث عن إثباتات لتاريخ لم يحصل. فكيف يمكن نسيان فضيحة «اكتشاف» نقش هيكل سليمان الذي أعلن العدوّ أخيراً العثور عليه، والذي لم يتطلّب من العلماء المحايدين أكثر من بضع ساعات لإثبات أنه مزوَّر. وقبل ذلك كانت فضيحة «نقش داود»، وقبلها كثير.
أركيولوجيا في خدمة السياسة
إنّ العدو يدرك تماماً أن ثمة علماء يحترمون أنفسهم وعلومهم، ويراقبون كلّ حرف يتفوّهون به، لذا فإنهم غالباً ما يبتعدون عن «الإثباتات» النقشية، ويتمسّكون بتأويل آثار من غير المسموح لغيرهم الاطلاع عليها ومعاينتها ميدانياً، ومنها على سبيل المثال الأنفاق. فحتى يتمكّن عالم آثار من تقويم فترة نفق ما أو أساس مبنى ما، عليه أن يكون مطّلعاً على كل مراحل الكشف عنه، والتأكّد من صحّة توثيق، ليس كل حجر فحسب، بل كل حبّة رمل محيطة به، وخصوصاً عندما يتعلق الأمر بتاريخ القدس القديمة الذي يثير فيضاً من العواطف والمشاعر الدينية.
إن تاريخ مدينة القدس القديمة، يعاني ضغوطاً فكرية ودينية وسياسية أكثر من أن تحصى، وأشدّ لمعاناً من أن يغضّ الطرف عنها. فلكلّ فريق يتناول ذلك التاريخ مصلحة ما فيه، ولا يتورّع معظم العاملين فيه عن تأويل مغزى لقى أثرية محدّدة لتناسب أهواءهم الدينية والفكرية والسياسية. هذا كلّه لا يعني إطلاقاً أنه ليس بإمكاننا قراءة تاريخ المدينة وفق ضوابط علمية صارمة. على العكس، فبين الحين والآخر، تنشر أخبار تنقيبات جرت في مدينة القدس المحتلة، وعلى علماء الآثار تقع مهمّة متابعتها وقراءة كلّ الاستنتاجات ذات العلاقة.
فعلى سبيل المثال، توافرت لعالمة آثار هولندية اسمها مارغريت شتاينر، فرصة نادرة في تسعينيات القرن الماضي لمعاينة آثار مدينة القدس القديمة، العائدة لفترة تنقيبات الأركيولوجية البريطانية الراحلة كاثلين كِنيُن، ورعاية إرثها العلمي. وقد تبين لها، بعد معاينة الآثار ومذكرات العالمة البريطانية، وجود أخطاء كثيرة من استنتاجاتها، حيث أوضحت في مقالات علمية في المجلات المتخصّصة نقاط الضعف وضعف التأويل، لكن طبعاً من دون أن تقلّل من قيمة عملها.
وعندما نشرت مارغريت شتاينر ملخّص نتائج أعمالها التنقيبية في مجلات متخصّصة، أثارت عاصفة واستجلبت لنفسها لعنة الأركيولوجيّين التوراتيّين. لكنها لم تكتفِ بذلك، بل جمعت كلّ تقارير تنقيباتها ونشرتها في كتاب أركيولوجي تخصّصي إلى حدّ ما، على جانب كبير من الأهمية، أصدرته دار نشر جامعة شفيلد البريطانية، بادرت دار قدمس إلى نشره بالعربية تحت عنوان «القدس في العصر الحديدي».
من المعروف أنّ أهل الاختصاص يقولون إنّ أقدم ذكر لمدينة القدس «أورشليم»، يرد في مجموعة من النصوص المصرية القديمة عُرفت باسم (نصوص اللعن)، لأسباب لا تدخل ضمن مجال هذا العرض. المهم في الأمر أن أهل الاختصاص يعيدون تاريخ هذه النصوص إلى القرن التاسع عشر قبل الميلاد، حيث ترد المفردة (روشاليمو). أما «الذِّكر التاريخي» القديم الآخر لها فيقول أهل الاختصاص إنهم عثروا عليها في ما يعرف باسم (رسائل العمارنة/ تل العمارنة) التي يعيدون تاريخها إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد.
وفي الوقت الذي لم يكن لدى علماء التوراة أي شك في الماضي بصحّة تأويلاتهم، حيث لم توجد مدرسة علمية معارضة، فإن الأمر مختلف هذه الأيام، حيث نشأ جيل جديد من كبار الأركيولوجيّين والمؤرّخين وعلماء التوراة على استعداد للتصدّي بالنقد لكلّ مفردة تفتقد أرضية علمية صلبة.
تواريخ لا تاريخ واحد لـ«أورشليم»وتعلّق مارغريت شتاينر على إشارة (رسائل العمارنة / تل العمارنة) إلى (أورو سليمو) كمدينة كبيرة محميّة بأسوار منيعة، فتقول: إنّ الآثار التي عثرتُ عليها في ميدان الحفر والتنقيب تعطي صورة مختلفة تماماً، حيث لم يعثر على أي أثر لمدينة محصنة: لا أسوار كبيرة ولا بيوت ولا حتى أي قطع من أوان فخارية سائبة. هذا يعني: في أثناء فترة (تل العمارنة) لم تقم أي مدينة في «أورشليم». ومن الناحية الأثرية لم تكن مأهولة أثناء العصر البرونزي المتأخر، وهو واحد من الأمثلة الكثيرة التي يبدو فيها أن النصوص وعلم الآثار يناقض واحدهما الآخر.
وتستطرد مارغريت شتاينر فتقول إنّ المسألة الرئيس الخطيرة هي غياب أي استيطان بعد عام (1700 ق. م.)، لذا فمن الصعب تصوّر «أورشليم» كمركز دولة ـــ مدينة حتى بدايات القرن العاشر، أو حتى بعد ذلك (أي: عهدي كل من داود وسليمان، وفق التأويل السائد للنصوص التوراتية). لذا، ففي القرنين العاشر والتاسع قبل الميلاد لم تكن «أورشليم» مدينة كبيرة ولا مدينة إقليمية صغيرة. كانت مركزاً إدارياً إقليمياً فحسب، وربما مدينة صغيرة محصّنة لا يزيد حجمها عن 12 هكتاراً، وربّما تتسع لسكن ألفي نسمة. وقد أرفقت العالمة الهولندية استنتاجاتها هذه بتفاصيل عملها الميداني، في كل حجر، وعند قطعة أثرية وأسباب رفض استنتاجات مغايرة وكيفية وصولها إلى ما وصلت إليه من معارف.
على المرء احترام هذا المنطق الآسر الذي يدعم الأقوال بالبراهين المادية التي لا يرقى إليها أي شكّ، ويستخدم الخطاب العلمي المتماهي في تماسكه. وفي الطرف المقابل، نجد خطاباً «عربياً ساذجاً، لا يختلف في بنيته عن الخطاب الصهيوني المضلّل، لا يحوي أي قيمة علمية. فعلى سبيل المثال، يلاحظ المرء كثرة «الخبراء»، الذين يحسمون أن اسم مدينة القدس كان في العصور القديمة (يبوس)، وأن «اليبوسيين» هم عرب كنعانيون!! (كذا). أصحاب هذا الخطاب التجهيلي، والتضليلي في جوهره، لا يفشون مصدر «معلوماتهم» تلك، لأنهم لا يعرفونها أصلاً.
أسطورة الفينيقيّة ــ الكنعانيّة
لنقل: ليس ثمة من شعب كنعاني/ فينيقي. لم تعرف المنطقة أي مجموعة سكانية عرفت نفسها بأنها (كنعانية). صحيح عثر على قطعة نقدية في الساحل الشامي كتب عليها (ضُرب) بكنعن، أي كنعان، إلا أن الوجه الآخر للعملة المعدنية كتب عليه بالإغريقية القديمة (فينيقيا). وإضافة إلى هذا، لم يوجد شعب عرف نفسه بأنه: (كنعاني). هذه كلها أسماء أطلقها الآخرون على المنطقة وسكانها، تماماً كما العرب لم يعرفوا أنفسهم بذلك الاسم إلا في زمن متأخر جداً. وسكان مدن الساحل الشامي (بالبعد الجغرافي لا الأيديولوجي) عرفوا أنفسهم باسم مدنهم: أهل صور، أهل صيدا، أهل بيروت، أهل أرواد...
أمّا في ما يتعلق بمسألة الاسم «يبوس»، فإننا نشدّد على حقيقة أنه لا يرد بصفته اسماً جغرافياً في وسط فلسطين (القدس) في أي أثر إطلاقاً. طبعاً يمكن للمرء العثور على هذا الاسم بالقرب من الحدود اللبنانية ـــ السورية (قرية الجديدة، المعرفة بأنها جديدة يبوس) لتمييزها عن ما لا يقل عن خمس قرى أخرى في المنطقة اسمها أيضاً (الجديدة)، ومنها (جديدة عرطوز). أما القول: إن اسم المدينة كان (يبوس) فلا يرد سوى في التوراة، وهو ليس مرجعاً تاريخياً. فالمنطلق الصحيح لقراءة تاريخ المدينة القديم هو العودة إلى ما توافر من آثار ونقوش ونصوص قديمة، لكن وجب تقويم كل هذه المرجعيات وفق الأدوات العلمية المتاحة، من دون غض الطرف أو صرف النظر عن أهواء العاملين فيه والضغوط التي يتعرضون لها.
وما هو «النفق» الذي كُشف عنه في تسعينيات القرن الماضي للسياح؟ أركيولوجيو العدو لم يكتشفوا أي نفق. النفق كان معروفاً منذ أيام تدخّل الإمبريالية البريطانية في أمور فلسطين التاريخية عبر (صندوق استكشاف فلسطين)، حيث عرف باسم (نفق وَرَنْ)، على اسم الأركيولوجي البريطاني الذي وصل إليه حينذاك. مارغريت شتاينر ترى أن ذلك النفق شق في بداية العصر البرونزي الوسيط (حوالى عام 1800 ق. م.)، أي: قبل الفترة التي يربطها الخطاب الأركيولوجي ـــ التوراتي والتلمودي ببداية الاستيطان «العبري» في فلسطين.
وما «النفق» الجديد؟ لا يقبل أي أركيولوجي جدّي التحدّث عن الموضوع أو الدخول في متاهات تخمين زمن حفره قبل معاينته شخصياً، وهذا من الأمور المحظورة الآن، لأنّ العدوّ يبحث عن دعائم لتضليلاته لا عن الحقيقة التاريخية، لأن كيانه تأسّس على مجموعة من الأكاذيب والخرافات والأساطير، وهو ما يعترف به حتى بعض أركيولوجيّيه.
ولقد تعرّضت مدينة القدس في العشرين قرناً الماضية إلى أكثر من أربعين مرة للتدمير، سواء بسبب كوارث طبيعية من حرائق وزلازل، أو بسبب أعمال حربية، مما جعل سطح المدينة الحالي يرتفع ما لا يقل عن 14 متراً عن نظيره في مطلع القرن الأول من التأريخ السائد، وجعل مسألة تحديد شكلها الداخلي الأصلي أمراً مستحيلاً، ما دامت المدينة هي القدس لا أورشليم. ومن الأمور المعروفة أن مدينة القدس مبنية على تلتين تحويان العديد من الكهوف، وهذا ما يعرفه أي طفل مقدسي.
أخيراً، علينا فهم أنه لا معنى لكيان صهيوني من دون أورشليم، ولا معنى للأخيرة من دون «الهيكل». إن السكوت عن هذه المسألة أو التراخي فيها يعني منح الكيان الصهيوني شرعية، ليس من منطلق الاعتراف بالواقع الظالم والخضوع له، بل بصفته «تصحيحاً للتاريخ»، أي ذا شرعية تاريخية.
إن القبول بإيقاف تاريخ بلادنا فلسطين عند حدود التأويلات التلمودية، ورهنه بالشعوذات المتسترة بالعلم، والتخلي عن التاريخ الحقيقي، يعني إلغاء الحاضر والانتماء والمستقبل لصالح مقولة «أرض التوراة»، حيث يقف كثيرون متربّصين بانتظار توافر الفرصة لتقديم مطالبهم، بما يرونه من حقوق تاريخية مزعومة في وطننا العربي المنكوب بحكّامه في المقام الأول. وهذا يعني أنّ منافذ النفق متعدّدة، وستنفذ في نهاية الأمر إلى الدامور ودمشق وحلب وتدمر والإسكندرية والمدينة المنورة واليمن وليبيا...
* كاتب فلسطيني