هنري كيسنجر تفيد الحكمة التقليديّة بأن الاستياء من الأحاديّة المزعومة للرئيس جورج بوش هو في قلب الخلافات الأوروبية ــ الأميركيّة. لكن سيظهر قريباً، بعد التغيير المرتقب في الإدارة الأميركيّة، أنّ الاختلاف المبدئي بين ضفّتي الأطلسي، هو أنّ أميركا لا تزال دولة ــ أمّة تقليديّة، يستجيب شعبها لدعوات التضحية لمصلحة تعريف للمصلحة العامة أوسع من التفسير الأوروبي.
إنّ أمم أوروبا، التي استنزفتها حربان عالميّتان، اتفقت في ما بينها على نقل مظاهر مهمّة من سيادتها إلى الاتحاد الأوروبي. غير أن الولاء السياسي، الذي يترافق مع مفهوم الدولة ــ الأمة، أثبت أنه غير قابل للانتقال آلياً. وهكذا، تحيا أوروبا فترة انتقاليّة بين ماضٍ، تسعى إلى تجاوزه، ومستقبل لم تبلغه بعد.
خلال هذا المسار، تغيّرت طبيعة الدولة الأوروبية، وتقلّصت قدرة الحكومات الأوروبية على الطلب من شعوبها تقديم التضحيات، بطريقة دراماتيكية، بعدما لم تعد هذه الدول تعرّف عن نفسها بمستقبل متميّز ولم يُختبر بعد تماسك الاتحاد الأوروبي. ولطالما كانت الدول صاحبة التاريخ الأطول والمستمرّ، شأن بريطانيا وفرنسا، هي الأكثر رغبة في تحمّل المسؤوليات العسكرية الدولية.
ويمثّل عدم التوافق على استخدام قوّات حلف شمالي الأطلسي في أفغانستان، دراسة حالة في هذا المجال. بعد حوادث الحادي عشر من أيلول عام 2001 ، فعّل حلف الأطلسي، تلقائياً ومن دون طلب من الولايات المتحدة، المادّة الخامسة من ميثاقه، والتي تنصّ على المساعدة المتبادلة. لكن عندما أوشك الحلف على تولّي المسؤوليات العسكرية، أجبرت المعوقات الداخلية عدداً من الحلفاء على تحديد عديد القوات المؤمنة، وتقليص بعثاتهم من أجل إنقاذ الأرواح المعرَّضة للتهديد فقط. نتيجة لذلك، يمرّ حلف الأطلسي بعملية تطوير نظام ثنائي المستوى ــ تحالف على الطلب لا تتماشى قدرته على العمل المشترك مع التزاماته العامّة. مع الوقت، يجب اعتماد أحد هذين الخيارين: إمّا إعادة تعريف الالتزامات العامّة، أو وضع نظام رسمي ثنائي المستوى بشكل تكون فيه الالتزامات السياسية والقدرات العسكرية متناغمة عبر نظام شبيه بتحالف الراغبين.
وفيما يتضاءل الدور التقليدي لدول أوروبا بموجب خيارات حكوماتها، فإن هبوط دور الدولة في الشرق الأوسط، متأصّل في كيفيّة بناء هذه الدول. أقيمت الدول الوريثة للإمبراطورية العثمانية على أيدي القوى التي انتصرت في نهاية الحرب العالمية الأولى. خلافاً للدول الأوروبيّة، لم تعكس حدودها المبادئ الإثنيّة أو التمايز اللغوي، وإنما التوازن بين القوى الأوروبية في تنافسها خارج المنطقة.
اليوم، الإسلام الراديكالي هو الذي يهدّد البنية الهشّة للدولة، عبر تفسير أصولي للقرآن، باعتباره أساس منظمة سياسية عالمية. يرفض الإسلام الجهادي السيادة الوطنيّة المبنية على نماذج الدولة العلمانيّة؛ يسعى إلى التمدد إلى أي مكان توجد فيه نسبة سكانية مهمة تعتنق الإسلام. وبما أن النظام الدولي والبنية الداخلية للدول القائمة لا شرعية لهما في عيون الإسلاميين، فإن إيديولوجيّتهم لا تترك سوى مساحة صغيرة للمفاهيم الغربية حول المفاوضات أو التوازن في منطقة ذات مصالح حيويّة لأمن الدول الصناعية وعافيتها. هذا الصراع مستشرٍ: لا نملك خيار الانسحاب. نستطيع التراجع من أيّ مكان، كالعراق، ولكن فقط لنكون مجبرين على المواجهة من مواقع جديدة، نتمتع فيها على الأرجح بقدر أقل من الأفضلية. حتى المدافعين عن انسحاب أحاديّ الجانب من العراق يتحدّثون عن الاحتفاظ بقوّات لمنع نهوض «القاعدة» أو التطرّف.
هذه التحوّلات تحدث في مواجهة نزعة ثالثة، هي انتقال نقطة التوازن في الشؤون الدولية من المحيط الأطلسي إلى الهادئ والهندي. وللمفارقة، فإنّ إعادة التوزيع للقوّة هي باتجاه جزء من العالم، حيث لا تزال الدول تمتلك خصائص الدول الأوروبية التقليديّة. الدول الرئيسية في آسيا ــ الصين واليابان والهند، ويُحتمل أن تنضم إليها إندونيسيا ــ ينظر بعضها إلى بعض كما كان ينظر المشاركون في الميزان الأوروبي للقوّة إلى بعضهم، كمتنافسين متأصّلين، حتى حين تشارك رسمياً في مغامرات تعاونية.
في الماضي، كانت تغييرات كهذه في بنية السلطة تقود عادة إلى الحرب، كما حصل مع صعود ألمانيا في القرن التاسع عشر. اليوم، أخذ نهوض الصين على عاتقه دوراً كهذا بطريقة تثير قدراً أكبر من المخاوف. صحيح أنّ العلاقة الصينية ــ الأميركية ستتضمن، من دون شكّ، عناصر جيوبوليتيكية وتنافسيّة تقليديّة. لا يجب تجاهل ذلك. لكن هناك عناصر معاكسة. العولمة المالية والاقتصادية، الالتزامات في مجالي البيئة والطاقة، والقوّة التدميريّة للأسلحة المعاصرة، كلّها عناصر تفرض بذل جهد ضخم في مجال التعاون العالمي، وخاصة بين الولايات المتحدة والصين. علاقة تخاصم ستترك البلدين في وضعية مشابهة لأوروبا بعد الحربين العالميتين، عندما حقّقت بلدان أخرى تفوّقاً، سعت إليه الدول الأوروبية عبر صراع تدمير ذاتي بعضها مع بعض.
ليس هناك جيل سابق كان عليه التعامل مع ثورات مختلفة تحصل في الوقت نفسه، في أماكن عديدة من العالم. البحث عن علاج، وحيد وشامل، هو أمر خيالي. في عالم حيث القوّة العظمى الوحيدة تعتنق الإرث التقليدي للدولة ــ الأمة، وحيث أوروبا عالقة في حالة منتصف الطريق (ما بين الدولة ــ الأمة وما بعدها)، وحيث لا ينطبق نموذج الدولة ــ الأمّة على الشرق الأوسط، الذي يواجه ثورة يحرّكها الدين، وحيث أمم جنوب وشرق آسيا لا تزال تمارس سياسة توازن القوى، ما هي طبيعة النظام العالمي الذي يمكن له التوفيق بين هذه الرؤى المختلفة؟ ماذا يجب أن يكون عليه دور روسيا، التي تشدد على مفهوم سيادة شبيه بالذي تدافع عنه الولايات المتحدة، وعلى مفهوم استراتيجي لتوازن القوى شبيه بذلك الموجود في آسيا؟ هل المؤسّسات الدولية الموجودة حالياً، ملائمة لهذا الهدف؟ ما هي الأهداف التي يمكن لأميركا تحديدها لنفسها وللمجتمع الدولي واقعياً؟ وهل عملية التحوّل الداخلي للدول الكبرى هي هدف يمكن الوصول إليه؟ ما هي الغايات التي يجب التطلّع إليها عبر الاتفاق، وما هي الظروف القصوى التي تبرر التصرّف الأحادي؟
هذا هو نوع النقاش الذي نحتاج إليه، لا الشعارات التي ترفعها مجموعات الأبحاث لاجتذاب عناوين الصحف.
(عن «واشنطن بوست»)