ناهض حتر *إذا نجحت الترتيبات للمسيرة المليونية العراقية، فإنّ الأربعاء 9 نيسان سيكون يوماً فاصلاً في التطورات السياسية المتسارعة في العراق. فقد دعا مقتدى الصدر العراقيين من كل الطوائف إلى السير نحو النجف، بمناسبة الذكرى الخامسة للاحتلال الأميركي لبغداد، لكي يقول الشعب كلمته ضدّ المحتلين، مطالباً برحيلهم فوراً.
الترتيبات الأمنية المضادّة، الأميركية والحكومية، بدأت مبكراً لمواجهة المسيرة، لإفشالها أو حتى إغراقها بالدم. غير أنه، مهما حدث، فإن الدعوة بحدّ ذاتها، وثقة الصدر بإمكان استجابة مليون عراقي للتظاهر، يمثّلان تحدياً قاسياً لحكومة نوري المالكي التي كانت لأيام خلت، تتوعد بالإجهاز على المنتفضين في البصرة.
لقد فشلت «صولة» المالكي في المدينة التي تنتج معظم النفط العراقي. ويظهر أن تلك «الصولة» لم تكن محسوبة النتائج، ولا كانت التصريحات الحامية لصاحبها في مكانها، بينما كانت قوّاته تتقهقر في بغداد ومحافظات الوسط والجنوب أمام جحافل الانتفاضة. وهو ما يدعو للتساؤل عن واقعية تقديرات الحكومة العراقية لموازين القوى في البلاد.
لا نعرف ما إذا كان المالكي هو الذي غرّر بالرئيس الأميركي جورج بوش لكي يعلن الأخير اقتراب ساعة «نصره» في العراق، أم أنّ هوس بوش بتحقيق إنجاز مستحيل في ذلك البلد هو المسؤول عن لا واقعية المالكي؟
تقف حكومة الدمى العراقية على شعرة، بل العملية السياسية الأميركية كلها في العراق المحتل تقف على تلك الشعرة من تذبذب مقتدى الصدر السياسي، إلى تذبذب الإمدادات بالذخائر اللازمة لمقاتلي الانتفاضة الشعبية العراقية. لقد تجاوز زخم الانتفاضة قيادة مقتدى والعناصر المذهبية والمشاركة في الهيئات الحكومية من تلك القيادة، بحيث أصبح الكلام عن التيار الصدري و«جيش المهدي» ليس مطابقاً للحركة الجماهيرية والمسلَّحة في وسط العراق وجنوبه. يمكننا أن نتحدّث الآن عن حركة الانتفاضة. وهكذا، فإنّ الشعرة السياسية التي تحمل حكومة المالكي أصبحت من الماضي، بينما تصرّ الانتفاضة على المضيّ حتى النهاية في القتال ضدّ العملية السياسية وأحزابها وميليشياتها. وما يعوقها حتى الآن هو النقص في الإمدادات. والسبب الرئيسي في هذا النقص هو أنّنا بصدد حركة شعبية مستقلّة لا تتلقّى دعماً مالياً أو تسليحاً من أي جهة. فالانتفاضة تخوض في الآن نفسه ثلاث معارك: ضدّ المحتلّين الأميركيّين، وضدّ التدخّل الإيراني، وضدّ جيش حكومة المحاصصة وميليشياتها من منظمة بدر إلى البشمركة إلى عصابات الصحوة.
المحتلّون الأميركيّون ما زالوا حتى الآن في حالة دهشة من تطوّر الأحداث، هم الذين كانوا يظنّون، كالمالكي، أنّ مشكلة البصرة تكمن في وجود بؤر خارج السيطرة الأمنية، يمكن معالجتها بـ «صولة» وقعت على رأس أصحابها هزيمة مريرة. وقد تراجعوا، تكتيكيّاً، في محاولة لفهمها والتعامل معها.
أمّا الإيرانيون الذين كانوا يتوهّمون أن جنوب العراق أصبح تحت سيطرتهم، فقد فاجأهم المدّ العروبي الشعبي المعادي لنفوذهم وحلفائهم. وحين طالبهم الأميركيون بالتدخّل لكبح جماح الانتفاضة، سقط في أيديهم. فقوى الانتفاضة هي قوى جديدة صاعدة من صفوف الشعب، انفجر حضورها كالبركان تحت جملة من الضغوط السياسية والأمنية والمعيشية، وخصوصاً إزاء خطر التوقيع على اتفاقية الانتداب الأميركي على العراق، وفصل الجنوب العراقي في محمية ــ إمارة لآل الحكيم.
ظهّرت انتفاضة الربيع الشيعيّة في العراق، صورة كانت مضلّلة وملتبسة حتى الأمس القريب. ونرى، في الصورة، الآتي:
ــ أوّلاً، انفضاض القسم الرئيسي من جماهير الشيعة العراقيين عن العملية السياسية الاحتلالية، والتحوّل نحو الصدام العنيف معها، سياسياً وعسكرياً. ويُعَدّ هذا بحدّ ذاته حدثاً مفصلياً في مسيرة المقاومة العراقية. ذلك أنّ كلّ دعاوى المشروع الأميركي في العراق تقوم على التأييد المفترَض والغامض للأغلبية الشيعية التي اتضح أنها انتقلت نهائياً إلى المقاومة والمعارضة.
ــ ثانياً، نشوء تيار جماهيري عريض في جنوب العراق ووسطه، مناهض للاحتلال الأميركي وحكومة المحاصصة الطائفية وأحزابها، ولا سيما «حزب الدعوة» و«المجلس الإسلامي الأعلى ــ قوات بدر»، ما يمثّل انشقاقاً بالغ الأهمية يكسر صدفة «الائتلاف الشيعي» المذهبية، ويفرز القوى داخل الطائفة على أساس وطني.
ــ ثالثاً، تراجع النفوذ الإيراني في الأوساط الشيعية العراقية، وانحصاره في أحزاب وشخصيات وأجهزة الحكومة الموالية للمحتلّين. فالتيار الجماهيري الشيعي العريض يتراوح بين موقف الغضب من الوصاية الإيرانية، وموقف مقتدى الصدر الذي يقول بـ «الأخوّة» بين البلدين ولكنه يرفض صراحة «الامتداد الإيراني، السياسي أو العسكري، داخل العراق».
وهكذا، لم يعد مسموحاً به بعد اليوم، حَمْل الشيعة العراقيّين على مَحْمَل إيران، أو احتسابهم ببساطة عندها أو عند قرارها. وهو ما يرتّب على كلّ مَن تعزّ عليه عروبة العراق ووحدته وحريته، الكفّ نهائياً عن اتخاذ أي موقف تُشتَمّ منه رائحة المذهبية البغيضة نحو الشيعة العراقيّين، والسعي الدؤوب إلى إنشاء علاقات متعدّدة الأشكال، رسمية وشعبية، مع الهيئات والشخصيات الشيعية العراقية الوطنية، وتصليب مواقفها العروبية، ومساعدتها بكلّ الوسائل على تعزيز استقلالها السياسي عن تأثير القوى المرتبطة بطهران و / أو بالاحتلال الأميركي.
لا أحد يصغي حتى الآن إلى الشيعة العراقيّين. فإلى الاحتلال الذي يضطهدهم بعنف، تقعد ميليشيات الدعوة ــ بدر، المدعومة من إيران، على صدورهم، تنكيلاً وقهراً ونهباً، وتخوض التيارات الوهابية والبن لادنية في صفوف السنة العراقيين حرباً ضروساً ضدّهم. ويحسبهم العرب المعادون لإيران عليها، بينما يصمت العرب المتحالفون معها عن الاضطهاد الواقع على حياة جماهير الجنوب العراقي وعروبتهم وكرامتهم.
لقد آن الأوان، لكي نصغي إلى أصوات شيعة العراق، من دون مستبقات مذهبية معادية، أو ــ على العكس ــ من دون طمس قضيتهم بحجّة التحالف مع طهران. ومن هذه الأصوات الشجاعة، علينا أن نتوقّف أمام صوت المرجع العراقي آية الله فاضل المالكي ــ المقيم في قم «غريباً» لأنّه «مهدّد في بلده» و«لا يجد بلداً عربياً يستقبله». يقول آية الله المالكي: «أفتي بأنه لا يجوز لمرجع غير عراقي الأصل أن يتدخّل في الشأن السياسي العراقي، سواء أكان مقيماً في قم أم في النجف، فوجوده في النجف لا يعني أنه عراقي». ويتساءل: «هل من الإنصاف أن يسمح لعلماء غير عراقيين في النجف بأن يتصرّفوا في الشأن السياسي والفتوى، بينما لا يُسمَح للعراقي الأصيل بأن يعلن رأيه وصوته. هؤلاء المراجع من أصل إيراني يصولون ويجولون في بلادنا، والسبب أنهم جزء من معادلة جرى التفاهم عليها وفق أجندة إقليمية ودولية، أن يكون هؤلاء الغطاء الشرعي لهذه العملية السياسية الخاطئة».
وعلى هذه الخلفية، تتّضح مهمّات عربية عاجلة من أجل تأمين انتصار حركة التحرّر العراقية، وهي:
ــ أولاً، الانفتاح على القوى والشخصيات الوطنية الشيعية العراقية، وتعضيدها سياسياً وإعلامياً ومادياً، وفتح العواصم العربية أمامها، بما يخلق التواصل الفعال بين شيعة العراق وعمقهم العربي.
ــ ثانياً، القيام بمبادرات ملحاحة ــ ليس للمصالحة بين الطائفيّين المؤيّدين للاحتلال وعمليته السياسية في الجانبين ــ وإنما لتوحيد قوى المقاومة والوحدة والعروبة في المناطق السنية والشيعية.
ــ ثالثاً، نبذ وفضح كلّ أشكال وأفكار وممارسات الانشقاق المذهبي الطائفي والاثني والتعصب والنزعات الانفصالية،
ــ رابعاً، اعتبار تجربة نظام الرئيس صدام حسين والقوى المرتبطة بها من الماضي، والبحث مع العراقيين، وفي إطار عربي، عن صيغة حديثة عراقية للدولة الوطنية الشعبية الجديدة، لمرحلة ما بعد الاحتلال الذي يتهاوى. وهنا سوف نصغي، مرة أخرى، إلى آية الله فاضل المالكي، حين يؤكد أن العراق «لا تصلح له حكومة دينية طائفية أبداً، ولا حكومة علمانية مضادّة للدين، وإنما حكومة مدنية تقوم على معايير الأصالة العراقية والاعتدال».
ــ خامساً، لا بدّ من وقفة لم تعد تقبل التأجيل مع الحليف الإيراني حول العراق: فالسياسة الإيرانية الحالية في بلاد الرافدين هي سياسة وصاية ونفوذ ليسا ممكنين من دون التقاطع مع مصالح الاحتلال الأميركي. وهذه السياسة سوف تلحق أشدّ الضرر بالعلاقة المستقبلية بين البلدين الجارين، وتخلق تياراً عراقياً جارفاً معادياً لإيران. وهو تطوّر بدأ فعلاً، ومن شأنه أن يكرّس الصراع العربي ــ الفارسي على حساب الصراع الرئيسي مع الولايات المتحدة، ويحرج القوى العربية الحليفة لطهران.
إنّ تكتيك استخدام العراق بوصفه «ورقة» للتوصّل إلى تفاهم مع الأميركيين بشأن الملف النووي الإيراني، أو حتى لإجبار واشنطن على الاعتراف بالقوة الإقليمية الإيرانية، هو تكتيك انتهازي ساذج وقصير النظر إزاء صراع تناحري لن يُحَلّ بالتسويات، وسوف ينتهي ذلك التكتيك إلى الفشل الذريع في تحقيق أي هدف استراتيجي، سواء على مستوى المساومة أو على مستوى الأطماع.
لدى طهران فرصة جدية لإنهاك الاحتلال الأميركي في العراق، وطرد «الإمبراطورية» السوداء من المنطقة، وتحقيق إنجازات في كل الميادين، لكن استقبال تلك الفرصة يتطلّب من الإيرانيين اتّباع سياسة مبدئية في العراق، تقوم على نبذ الأطماع والوصاية، وسحب الاعتراف بالعملية السياسية الاحتلالية، وبأحزابها وقواها، وتقديم دعم نزيه ومثابر للمقاومة العراقية التي سيؤدّي انتصارها إلى تغيير عميق في موازين القوى على المستوى الإقليمي والدولي.
* كاتب أردني