فايز فارسإنّ المؤسّسة المخابراتية وُجدت يوم وُلدت فكرة الجماعة ونشوء الدولة ــ المدينة، فإذا بها تصبح إحدى المؤسسات الأساسية التي تشكّلت منها الدولة الحديثة.
هي مرتبطة بشكل أو بآخر بالخوف والشكّ والحذر والقلق، والبحث عن الأمن والأمان لدى الحكّام والجماعات على السواء. وإن كانت «شرّاً»، فهي شرٌّ لا بدّ منه.
نجد الفكر المخابراتي في قلب العائلة الواحدة والجماعة والمؤسّسة والمجتمع والدولة. فالرجل يراقب تحركات زوجته وتصرفاتها، والعكس صحيح. والاثنان يراقبان تصرفات أولادهم وسلوكهم. قائد الجماعة، كما رئيس الحزب والأمين العام للنقابة، يكلّف من يمتلك القدرة على «التجسّس» على أعضاء الجماعة أو الحزب أو النقابة. رئيس مجلس الإدارة أو المدير العام، يحرص على معرفة كل شاردة وواردة تحصل في المكاتب والمعامل.
مدير المدرسة كما الناظر والمعلم يمارسون التجسس على تحركات التلامذة باللجوء إلى خدمات زملاء لهم «مؤهّلين». فكيف بالأحرى هي حاجة رئيس الدولة والحكومة وقائد الجيش إلى المراقبة والتنصت، وصولاً إلى التجسس على حياة الناس أصحاب الشأن، والقدرة على اللعب بمصير البلد وأمنه واستقراره. أوليس «كرسي الاعتراف» لدى أتباع الكنيسة الكاثوليكية الغربية هو أقدم نظام مخابراتي عرفته الإنسانية وأكثره فاعليّة؟
والعمل المخابراتي يعتمد على أشخاص يتمتّعون بصفات عالية من الثقة بالنفس، والدقّة والاطلاع المستمر على كلّ المستجدّات بواسطة القراءة، أو حضور المناسبات كلها. يُفترض برجال المخابرات ونسائها أن يتمتعوا بالذاكرة الواسعة والانفتاح على كل الأفكار الثقافية، الدينيّة والسياسيّة، والكثير من الحذر وضبط النفس، والقدرة على الإخفاء والاختفاء، والكتمان والتمويه والاحتماء بعلاقات إنسانية اجتماعية ومهنيّة متنوّعة، وأن يتحلّوا بأعلى درجات التدريب والتأهيل وإن اختلفت المستويات.
هم كغيرهم من أصحاب الاختصاص، يمكنهم استعمال قدراتهم وطاقتهم في سبيل الخير أو في سبيل الشر. وهنا يكمن التحدي الكبير.
لا أحد يستطيع ممارسة الحكم، صالحاً كان أم سيئاً، من دون جهاز لا بل أجهزة مخابراتية. فالولايات المتحدة الأميركية تعتمد على أكثر من ستين مؤسسة، من مهامها جمع المعلومات في كل الميادين والمجالات العسكريّة والسياسيّة والعلمية الصناعيّة والتجارية والثقافية... وصولاً إلى التدخل في شؤون الدول والمجتمعات والشركات، بحجّة المحافظة على أمنها واستقرارها وسيطرتها قدر الإمكان على مقدّرات الشعوب والدول في هذا العالم. وهذا ما تفعله كل الدول بين كبرى وصغرى وأصغر. فقد اشتهرت اليابان مثلاً منذ منتصف القرن الماضي، بقدراتها وتفوقها في مجال التجسس الصناعي. كما عُرف عن البريطانيين والألمان إلمامهم الكبير بتاريخ الشعوب المشرقية وحضاراتها، وقدرتهم على فهم حاضر هذه الشعوب.
وفي زمن الإرهاب المعولم، وهيمنة الشركات الكبرى العابرة للدول والقارات، أصبح هناك نظام معلومات مخابراتي علمي صناعي (اليابان والصين)، وآخر مصرفي مالي (أميركا وسويسرا)، وأيضاً فنّي ثقافي (أميركا وأوروبا). فهل يعلم المواطن على سبيل المثال لا الحصر، أن مجرد حصوله على بطاقة ائتمان مصرفية واستعمالها، واشتراكه بالبريد الإلكتروني على الإنترنت، واستعمال الخلوي، يعرضه إلى مراقبة تحركاته ومعرفة مكان وجوده، والاطلاع على أفكاره، والإلمام بشبكة علاقاته الاجتماعيّة والسياسيّة والمهنيّة، من قبل أجهزة تنصت ومراقبة محليّة وإقليميّة وعالميّة؟