ناهض حتر أشير دون استفاضة إلى حقائق الأزمة الأميركيّة، إلى عناوينها: من العجز في المدّخرات، إلى العجز في الميزان التجاري، إلى المديونية الخارجية، إلى تراجع النمو والإنتاجية وبالتالي التنافسية على الصعيد الدولي. وحتى في المجال النفطي، خسرت الولايات المتحدة، منذ عام 1991 حتى عام 2006 حوالى 25 في المئة من السوق النفطي لمصلحة الشركات الروسية والصينية والهندية.
وعلى خلفية هذه الأزمة بالذات، علينا أن نفهم سياسات العودة إلى الحروب الاستعمارية في غير زمانها، ونرى أيضاً فشلها الحتمي. فالاستعمار في نسخته الأوروبية القديمة، كان يعبّر بالعكس عن فوائض مالية تبحث عن استثمارات بعيدة المدى، وأسواق تستوعب نتائج النمو المفرط وتزايد الإنتاجية واحتدام التنافسية في المراكز الاستعماريّة، وفيما بينها. لذلك يبدو الاستعمار الأميركي كاريكاتورياً رغم أنه دموي. إنّه أشبه بغزوة قطّاع طرق منه إلى الغزو الاستعماري الذي فات أوانه التاريخي.
النظام السياسي في الولايات المتحدة تخشّّب عن المرونة اللازمة للحفاظ على موقع واشنطن العالمي. ويشير هنري كيسنجر في مقال حديث إلى أن الولايات المتحدة تواجه «ثلاث ثورات» عالمية: هجر الدولة الوطنية في أوروبا، والنمو في ظل التعايش في جنوب وشرق آسيا، وأممية الجهادية الإسلامية المتجاوزة للدول الوطنية في العالم العربي والإسلامي. وفي ظل هذه اللوحة، تظهر الدولة الأميركية نفسها متخلفة، سياسياً وثقافياً، عن الركب العالمي. وهو ما لا يقوله كيسنجر صراحة، لكننا نستطيع قراءته من صلب تحليله بالذات.
لا تزال الولايات المتحدة دولة وطنية قديمة في عالم تجاوز الدول الوطنية في مراكزه الأساسية، ولم يعد بالتالي يفكّر في الحرب، بل بالتعاون. أليس مثيراً للعجب أن الشركات الصينية النفطية تحقّق إنجازات تنافسية عالية في العالم من دون بوارج أو حتّى الحاجة إلى إطلاق رصاصة واحدة؟
لكن الدولة الوطنية الاستعمارية الأميركية، الفائتة عالمياً، لا تتطابق حتى مع وطنية الأميركيّين الذين ينفقون أكثر ممّا ينتجون، ولكنهم مع ذلك ليسوا مستعدّين لتحمّل تبعات الحروب، من التجنيد الإجباري إلى الخسائر البشرية والمالية الناجمة عنها.
لم تشر «التوجّهات» إلى مركزية المقاومة العراقية في صدّ وتفتيت الهجمة الأميركية. ولم يتوقف اليسار اللبناني، لحظة واحدة، أمام الحدث الرئيسي في المنطقة خلال السنوات الخمس الماضية، من الفشل العسكري والأمني والسياسي لمغامرة العراق التي كلفت واشنطن حتى الآن مبالغ خياليّة وأربعة آلاف قتيل و22 ألف معاق وخمسين ألف جريح أو مرتجّ الدماغ و100 ألف مريض نفسي وعصبي، تحتاج رعايتهم إلى ما يزيد على كلفة الحرب نفسها (اقرأ مجلة «فورين بوليسي»، العدد الثاني 2008). وفي المقابل، تتعامل «التوجهات» مع الهجمة الأميركية وكأنها هجمة وحش أسطوري غير قابل للفهم. وتكتفي بالقول إنّ «الأهداف الأساسية لهذه الهجمة إنما هي تمكين الإمبريالية الأميركية من استكمال سيطرتها على الثروات النفطية في المنطقة العربية ككل، والبلدان النفطية المجاورة لها، ولا سيما إيران، وتصفية كل بؤر المقاومة والممانعة الباقية أو المحتدمة في المنطقة المشار إليها، مع ضمان أمن إسرائيل عدوانية غاصبة في قلب الوطن العربي، وموقع أيضاً لهذه الدولة في ما تسميه الإدارة «الشرق الأوسط الجديد».
ليعذرني القرّاء على إيراد نصّ مهلهل لغوياً، لكنني وجدته ضرورياً من أجل تسليط الضوء على عقلية فقدت القدرة على المتابعة والتدقيق منذ وقت طويل. وهي تكرّر بلا انقطاع حكاية النفط وإسرائيل كهدفين أميركيّين متلازمين في منطقتنا، تحرّكهما دوافع شريرة معادية للعرب والمسلمين (و«لا سيما إيران») وهو «تحليل» جدير بإسلاميين لا بيساريّين.
لكنّ المنطق الذي يقف وراء هذا «التحليل» هو تأكيد مركزية الصراع بين الولايات المتحدة وإيران، الناجية الوحيدة من السيطرة الأميركية على نفط الشرق الأوسط، ما يجعلها، تالياً، حلقة الاستهداف الرئيسية، وتأكيد استمرار دور إسرائيل في المنطقة، بما في ذلك دور جديد من المشاركة في «إدارة الشرق الأوسط الجديد»!
لكن، هل حقاً أن صراع الولايات المتحدة في العالم والمنطقة يدور حول النفط، أم أن الأزمة الأميركية التي أشرنا إلى بعض عناوينها قبل قليل، هي أعمق وأشمل من ذلك؟ وهل إسرائيل هي في لحظة صعود تاريخي يؤهلها للمشاركة في إدارة الإقليم أم أنها، كما تقول التطورات الداخلية والدولية ــ الإقليمية، تنكفئ داخلياً، وتتحول من خندق متقدّم للإمبريالية إلى محمية أميركية، تأمل طيّ ملف الجبهة الشمالية والتفرّغ لابتلاع نصف الضفة الغربية في إطار دولة يهودية محلية؟
ويمكن المرء أن يستنتج أن «التوجهات» بذلك تنطوي على استهداف تبرير إدامة علاقة «تحالف» استتباعية مع إيران، «القوة الإقليمية الرئيسية المضادة للهجمة الأميركية»، ومع حزب الله، القوة اللبنانية الطائفية المتمحورة على أولوية الكفاح ضد إسرائيل بوصفها، أيضاً، آلية أيديولوجية للصعود الاجتماعي ــ السياسي لـ«الطائفة». أعني أن اليسار اللبناني ينظّر للانضواء، كعادة اليسار العربي المتأصلة، تحت عباءة حليف دولي ومحلي، لا يسائلهما، ولا يرى في نفسه وتحالفاته الموضوعية الممكنة عربياً ودولياً، البديل.
لا يدهشني، بعد ذلك، أن تتجاهل «التوجهات» كلياً، الإشارة إلى سوريا، ولا حتى بكلمة واحدة. فمن الواضح أن الاتجاه الإيراني في اليسار اللبناني قدّم هنا، تنازلاً للاتجاه اللبناني المعادي لسوريا، للحصول على ما يريده من تلك
«التوجّهات».
كيف بإمكان لقاء يساري لبناني، بل لبناني، عدا عن كونه لا يزال متمسّكاً «بالوحدة العربية» ومضاداً «لتفتيت المنطقة» أن يطمس اقتراح بحث القضية الرئيسية بالنسبة إلى لبنان، أي قضية العلاقات مع سوريا في جوانبها المتعددة، التاريخية والجيوسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتنموية؟ هل يمكن، واقعياً، الكلام على لبنان، تكويناً ودولة ودوراً وإصلاحاً، من دون علاقاته مع سوريا؟ يمكن ذلك بالطبع في أوهام الآذاريين المتأمّلين بالاستعمار الأميركي، لكن ليس بالنسبة إلى وطنيين لبنانيين، فما بالك بيساريّين؟
سيغدو مسلياً، بعد ذلك، إلحاح «التوجّهات» على أنّ وسائل واشنطن لتحقيق أهدافها في المنطقة «يمكن اختصارها:
ــ بتفتيت جزء أساسي من دول المنطقة المشار إليها على قواعد عرقية وقومية ودينية وطائفية، كما يحصل حالياً في العراق، ويجري التخطيط لحصوله في لبنان.
ــ وبتحويل الصراع القائم في هذه المنطقة، الذي يضعها في مواجهة العدو، إلى صراع مذهبي وبوجه خاص مع الدولة الإيرانية. فالمناضلون ضدّ «التفتيت»، يطمسون القضية الوحدوية العيانية بالنسبة إلى لبنان، أعني العلاقات مع سوريا، بصفتها، شاءت «التوجهات» أم أبت، الدولة العربية المركزية المحيطة بلبنان إحاطة السوار بالمعصم، والأفق الوحيد المفتوح، موضوعياً، أمام التنمية والإصلاح في لبنان.
لكن بالمقابل، لا تنسى «التوجهات»، بشطارة لبنانية معهودة، التركيز على قضية الوحدة العائمة غير المطروحة واقعياً، وتتناسى الدور الإيراني الفعلي في تفتيت العراق مذهبياً وعرقياً وطائفياً، وتواطؤ إيران ــ الذي أصبح الآن علنياً ــ مع المحتل الأميركي وعمليته السياسية ضدّ الوعي الوطني الشيعي في العراق، واعتبار «الدولة الإيرانية» محل استهداف الصراع المذهبي العربي السني.
نحن نعرف بالطبع أنّ تحالف المعتدلين العرب (السعودية ومصر والأردن) يبرّر انخراطه في المشروع الأميركي باسم مقاومة المدّ الشيعي الإيراني. لكن أن يأخذ اليساريون هذا التبرير على محمل الجدّ يثير التساؤل. فلا الدول العربية السنية وقفت إلى جانب المقاومة العراقية عندما كانت في أغلبيتها سنية، بل وقفت مع واشنطن وطهران، ضدّها، ولا إيران الشيعية وقفت مع تلك المقاومة، عندما أصبحت في أغلبيتها شيعية، بل وقفت مع الاحتلال الأميركي وعملائه من القوى الرجعية التفتيتيّة (منظّمة بدر وحزب الدعوة) ضدّها، معتبرة أن قصف المقاومين الشيعة للمنطقة الخضراء في بغداد «غير قانوني»، ومؤيّدة «صولة» دمية المحتلّين نوري المالكي ضدّ البصرة.
* كاتب وصحافي أردني