strong>سعد الله مزرعاني *في مجرى استعادة الذكرى السنوية للتاريخ الأكثر تأثيراً في محطات بدء الحرب الأهلية اللبنانية، أدلى الأميركيون بدلوهم، هم أيضاً، وعلى طريقتهم الخاصة. اللبنانيون الذين يجتمعون، ظاهرياً، على كيل الهجاء للحرب والعنف، ويقسمون على عدم تكرار اللجوء إلى الاحتراب الأهلي، لا تقوم قواهم المؤثرة سوى بالمزيد من الاستعداد للحرب. بدءاً، ليس الموقف الأخلاقي الممزوج بأطيب النيّات والتمنيات هو ما يقرّر في مثل هذه الأمور. إنّ ما يقرّر هو المصالح، والمصالح الكبرى تحديداً. أي إنّ من يقرّر هم اللاعبون الكبار، وبنسب تتفاوت وفق القدرات والإمكانات والخطط. وتبعاً لذلك، تؤدّي الولايات المتحدة الأميركية الدور الأكثر تأثيراً في تحديد مجريات الأحداث، ومن بين ذلك السلم والحرب. وينطبق ذلك على لبنان والأوضاع فيه، فالإدارة الأميركية لاعب أساسي، بل هي اللاعب الأساسي في هذا البلد، وخصوصاً منذ الخروج السوري منه قبل ثلاث سنوات تكتمل بأيامها ولياليها في السادس والعشرين من شهر نيسان الحالي.
ومن هذا الموقع الأكثر تأثيراً في المشهد السياسي اللبناني (المتداخل بشكل وثيق مع المشهد المتوتر في المنطقة، الذي بلغ ذروة غير مسبوقة منذ الغزو الأميركي للعراق عام 2003)، تمارس واشنطن دوراً نشيطاً في لبنان. ويتركّز جهدها من أعلى الهرم إلى أسفله على دعم حكومة «الرائع» الرئيس فؤاد السنيورة. وأخبرنا ممثلو واشنطن أخيراً، بل وتكراراً، أن بقاء هذا الحكومة إلى ما بعد حسم الانتخابات الأميركية على الأقل، هو الخيار الصائب لنا ولهم. طمأنونا أيضاً إلى أن هذه الحكومة قادرة على الاضطلاع بمهماتها السياسية والأمنية على أكمل وجه. هذا ما كان قد أكده وليام كايسي، وهذا ما عادت وأكدته، جهاراً نهاراً، وزيرة الخارجية الأميركية السيدة كوندوليزا رايس.
ورغم ذلك الدعم غير المسبوق للحكومة اللبنانية، ورغم التمسك بالوضع القائم في لبنان من جانب الإدارة الأميركية (وهو وضع متأزم ومادة صراع وانقسام خطيرين)، فإن ثمة مسؤولين آخرين في الإدارة الأميركية يحذّرون تكراراً من «لبننة» الوضع في العراق. هذا ما أكد عليه، في تصريحات وشهادات متلاحقة، كل من قائد القوات الأميركية في العراق الجنرال دايفيد بيترايوس والسفير الأميركي هناك السيد ريان كروكر.
و«اللبننة» في العراق مسألة يجدر استعادة بداياتها. ويصادف أنها كانت على غير الصورة المشكوّ منها أميركياً اليوم، بالكامل!
في صيف عام 2002 تحديداً، نشطت اللقاءات والزيارات والمؤتمرات، برعاية أميركية وبمشاركة بريطانية، من أجل ترتيب وضع المعارضة العراقية وترتيب العلاقة معها، كجزء من الاستعدادات الأميركية لغزو العراق. وقد جرى استغلال ثُغر فادحة في نظام الرئيس السابق صدام حسين من أجل تحشيد المتضررين من بطش وقمع أجهزته ومن سياساته عموماً. كذلك جرى استغلال التناقض القديم والجديد، الإيراني ـــ العراقي، لكسب الدعم الإيراني لعملية الغزو ولقرار إدارة الرئيس جورج بوش تغيير النظام العراقي وإحلال نظام تابع لواشنطن بديلاً منه، على أن تستفيد إيران موضوعياً، وبالتنسيق، من كل ذلك، بما يثأر لها من سياسات ومعارك الرئيس العراقي ضدها، وخصوصاً الحرب التي وقعت بعد انتصار الثورة الإسلامية.
وفي مجرى هذه العملية، جرى استحضار النموذج اللبناني! وقد أقرّ لقاء المعارضة العراقية آنذاك، استلهام الصيغة اللبنانية، ومعنى ذلك كان إقامة السلطة الجديدة على أساس التقاسم الطائفي الذي يعتمد، إلى العلاقة مع الأميركيّين، التمثيل وفق الأحجام الطائفية والمذهبية والإثنية... ورغم التحذيرات، اندفع أطراف أساسيون في المعارضة آنذاك في هذا المنحى. وأُنشئ بالفعل «مجلس الحكم» على هذا الأساس. وكان هذا أول عوامل الخلل الداخلي الكبير في السلطة الجديدة، وأفدحها، بعد الخلل القاتل المتمثل في بناء سلطة بالتعاون مع المحتل، بوصفه محرراً، وبوصفه حاملاً لرايات الديموقراطية والمساواة وحقوق الأقليات والأفراد على حد سواء.
شاركت إيران في هذا الخطأ لحسابات فئوية ومذهبية. وشارك الشيوعيون العراقيون الذين استمروا يعملون تحت راية الحزب الشيوعي الرسمي، في هذا الخطأ القاتل أيضاً.
لن نتوقف طويلاً عند الوضع العراقي، لكن يجب إعادة الاعتبار إلى الحقيقة في مسألة أن الأميركيين هم الذين كانوا سبّاقين في التوجّه إلى شيعة العراق، ومحاولة تعبئتهم في دعم الغزو الأميركي، ومن ثم في تكوين إحدى ركائز بناء سلطة طائفية منقسمة على نفسها وتابعة للمحتل.
يحمّل الأميركيون الآن المسؤولية للإيرانيين. ويتهم كل من قائد القوات الأميركية والسفير الأميركي في العراق إيران بأنها هي التي «تلبنن» العراق. والمقصود «أن إيران تستخدم أسلوب اللبننة مع بعض القوى الشيعية العراقية (السيد مقتدى الصدر) وغيرها من أجل أن تحقق في العراق النجاح نفسه الذي حققته في لبنان في الثمانينات» من القرن الماضي...
من لبنان إلى العراق، إلى إيران نفسها، ترتكب القيادة الإيرانية بعض الأخطاء الكبيرة والصغيرة. لكن سلاح التفتيت الطائفي والمذهبي إنما هو أحد أنجح الأسلحة التي كثيراً ما استخدمت من أجل تأمين سيادة الأجنبي. وهذا التفتيت يخدم الآن مشروع الولايات المتحدة تحت اسم الشرق الأوسط الكبير أو الجديد، بما هو مشروع هيمنة وسيطرة بالقوة العسكرية وبغيرها. ومن بين استهدافات هذا المشروع أيضاً، إعادة صياغة المنطقة جغرافياً وسياسياً وذهنياً... بما يقلب المفاهيم والقيم والمصالح رأساً على عقب. وعدو الولايات المتحدة في هذه المعركة، هو «الإرهاب». و«الإرهابيون» هم المقاومون للاحتلال الأميركي والصهيوني في العراق وفلسطين ولبنان. أمّا الحلفاء، فهم الإدارة الأميركية والحكومة الإسرائيلية. وهذا ما يجب أن يتكرس في معاهدات وعلاقات وتحالفات. وهذا ما أكدته، ومن قلب دولة قطر في الخليج العربي، وزيرة الخارجية الإسرائيلية التي تولّت تكرار المقولة الأميركية بأن أعداء العرب هم عرب آخرون، وهم تحديداً، العرب المقاومون، فضلاً عن داعميهم وخصوصاً في إيران الفارسية والشيعية.
لقد أخذ الأميركيّون في بداية غزوهم للعراق، وفي عملية بناء أعمدة السلطة فيه، بالنموذج اللبناني. وها هم اليوم يحذّرون من اللبننة في البلد الذي يحتلون، والذي يمسكون بزمام القرار والسلطة فيه. وعلى المقلب الآخر، يخشى اللبنانيون من «عرقنة» الوضع اللبناني. والعرقنة هي تحديداً ما يعانيه ذلك البلد المنكوب بالاحتلال الأميركي من قتل ومجازر وفوضى ودمار وصراعات وعبثية لم يشهد التاريخ لها مثيلاً!
ليست «اللبننة» أمراً قائماً خارج صيغة إطار الحكم الذي أقامه الأميركيون في العراق. وليست «العرقنة» بضاعة أميركية في العراق غير قابلة للتصدير على المستوى الإقليمي والدولي... واللبناني خصوصاً. فحيث يزداد التأثير والنفوذ الأميركي، تزداد بالمقدار نفسه مخاطر «اللبننة» و«العرقنة» اللتين هما، في ظروف «الشرق الأوسط الكبير» أو الجديد، صيغة أميركية مفضّلة للفوضى «الخلّاقة». وهذه الفوضى توسّلها المحافظون الجدد في عملية إعادة فك وتركيب العالم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ومع مجيء إدارة بوش الابن إلى السلطة في البيت الأبيض، مستلهماً «المسيحية الصهيونية»، ومستدركاً حاجات وأزمات الاحتكارات الأميركية الساعية إلى توظيف متغيرات العالم، وبوسائط القوة غالباً، من أجل فرض سياساتها وتغليب مصالحها وحلحلة أزماتها.
ليس في جعبة الأميركيين ما يقدمونه إلا المزيد من الشيء نفسه: أي من السعي إلى الهيمنة والنهب، مستخدمين كل الوسائل والأساليب والأكاذيب. لكن على القوى المعترضة أن تعيد النظر في الكثير من سياساتها وأساليبها لكي لا تسهّل مهمة بوش ومن سيأتي بعده للجلوس على كرسي الرئاسة في البيت الأبيض الأميركي.
* كاتب وسياسي لبناني