strong>يحيى فكري *انتخابات المجالس المحليّة في مصر في 8 نيسان/ أبريل، تستكمل المهزلة التي بدأها النظام المصري مع فتح باب الترشيح لتلك الانتخابات يوم 4 آذار/ مارس، بينما أقرّ القوائم المعدّة سلفاً في مكاتب مباحث أمن الدولة المصرية، وهي قوائم فازت بالفعل في الغالبية العظمى من المجالس بالتزكية، وقبل يوم الانتخاب، حيث لم يكن هناك مرشّحون غيرها، بعد أن مُنع المستقلّون ومرشّحو أحزاب المعارضة الرسمية والإخوان المسلمون بل وحتى أعضاء من الحزب الوطني غير مرضي عنهم، من تقديم أوراق ترشيحهم.
لقد قرّر النظام المصري في سابقة قد تبدو واحدة من الأعاجيب، ألّا يكتفي بتزوير نتائج الانتخابات، وإنما أن يريح نفسه من عناء المعركة الانتخابية، بأن يمنع جميع معارضيه وكل من يسعى إلى ترشيح نفسه في مواجهة قوائمه من حقّ الترشّح أصلاً! فانتخابات المحليات هذه، التي تجري في مصر بعد موعدها القانوني بأكثر من عامين، جاءت لتسحب ما بقي من تنازلات سياسية قدّمها نظام مبارك إلى قوى المعارضة وقت اشتعال معركة التغيير في 2005، أي السماح لأقلية معتبرة من تلك المعارضة بأن تدخل مجلس الشعب والمحليات. والمفارقة أن ذلك الاندفاع في تشديد القبضة الاستبدادية للنظام يحدث في وقت تواصل فيه الحركات الاجتماعية الوليدة تصاعدها، في مشهد لم ترَه مصر منذ عقود، وصل إلى درجة إعلان عمّال المحلّة الدعوة إلى إضراب عام، بينما تتفاقم أزمة طوابير الخبز منذرة بانتفاضة وشيكة.
يبلغ عدد المجالس المحلية في مصر 4500 مجلس، تتوزّع على قرى وأحياء ومحافظات، ويبلغ عدد المقاعد المطلوبة لشغل هذه المجالس 52 ألف مقعد. وبعد فتح باب الترشيح ولمدة عشرة أيام تالية، هي المدة المقررة لتلقي طلبات الترشيح، لم يتمكن عشرات الآلاف من المواطنين المصريين من تقديم أوراق ترشيحهم، حيث رفضت الجهات الإدارية المسؤولة عن تلقّي الطلبات قبول أي طلب ترشيح إذا لم يحصل مقدّم الطلب على شهادة من مباحث أمن الدولة بموافقتها على ترشّحه، وهذا ليس مجرد مخالفة للقانون وإنما هو تجاوز مضحك، يذكّرنا بتشبيه المتنبّي لمضحكات مصر التي تشبه البكاء!
وبالطبع، لم تمنح مباحث أمن الدولة شهادة لأحد، وبالتالي لم يتمكّن الراغبون في ترشيح أنفسهم من تقديم أوراقهم. هكذا، وبمنتهى البساطة تخلّص نظام مبارك من عبء الديموقراطية والانتخابات وحيله في تزويرها، وحقّق إنجازاً في نظم الاستبداد لم تعرفه قبله أي ديكتاتورية في تاريخ مصر والعالم.
لم يخلُ الأمر بالطبع من مقاومة، فقد خرج عشرات الآلاف من أنصار الإخوان المسلمين ـــ القوة السياسية الوحيدة في مصر التي تملك قاعدة انتخابية شعبية ـــ ومعهم الملتفّون حول «كفاية» وباقي قوى المعارضة الجذرية في تظاهرات عديدة خلال الأسابيع الماضية، ما زالت تتواصل حتى اليوم في الكثير من المدن والمحافظات المصرية، تعبيراً عن غضبهم ورفضهم لما حدث. ووصلت الحدة ببعض التظاهرات إلى اقتحام مقارّ المحافظات ومجالس المدن، وجرى التعامل معها جميعاً بعنف شديد من جانب قوات الأمن المصري، كما نال الإخوان قسطاً مضاعفاً من القمع باعتقال المئات من مرشحيهم وأنصارهم.
أمّا الجديد، فكان تظاهرات المغضوب عليهم من أعضاء الحزب الوطني، فقد أبقى الحزب قوائم مرشحيه سرية، ولم يسلّمها إلا قبل ساعة واحدة من إغلاق باب الترشيح، حتى يفوّت الفرصة على غير المسجلين بالقوائم في ترشيح أنفسهم كمستقلين، ما أدى إلى انفجار الغضب في صفوف الحزب، وأسفر عن موجة واسعة من الاستقالات والعديد من التظاهرات والاعتصامات.
ورغم سلسلة الأحكام القضائية، التي صدر منها أكثر من 500 حكم بوقف سير العملية الانتخابية وإعادة فتح باب الترشيح، إلا أن النظام تغاضى عنها جميعاً كأنها لم تصدر، وفي يوم الأول من نيسان / أبريل، أُعلنت الكشوف النهائية للمرشّحين التي ضمّت 57 ألف مرشّح ضمنهم 52 ألف هم قوائم مرشحي الحزب الوطني المعتمدة، وخمسة آلاف مرشح هم من سمحت لهم مباحث أمن الدولة من المعارضة والمستقلين بترشيح أنفسهم في مواجهة قوائم الوطني، حتى يتمكنوا من الادعاء بأن هناك «انتخابات» ستجري بالفعل! وضم الخمسة آلاف هؤلاء 1400 مرشح من أحزاب المعارضة الرسمية و33 مرشحاً من الإخوان ـــ من أصل 10 آلاف مرشح إخواني حاولوا تقديم أوراقهم ـــ والباقي مستقلون هم في الأصل من الحزب الوطني لم تشملهم قوائمه.
وباختصار، ليس هناك انتخابات محلية في مصر يوم 8 نيسان/ أبريل، لأن أكثر من 90 في المئة من الوحدات المحلية فازت فيها قوائم الحزب الوطني بالتزكية!
قد يبدو من الطبيعي، رغم فجاجة ما حدث، أن تطيح ديكتاتورية مبارك معارضيها، إلا أن ذلك لا يصلح لتفسير حدة الصراع الدائر الآن داخل الحزب الوطني حول المحليات. يمكن فهم هذه المفارقة إذا ما وضعنا في الاعتبار طبيعة ودور المجالس المحلية في مصر. صحيح أنّها لا تملك أي سلطة رقابية على المحافظين أو على أي من المسؤولين الحكوميين التنفيذيين في المواقع المحلية، إلا أن أهميتها النسبية تكمن في ارتباطها بالإدارات المحلية وما يستتبعه ذلك من أدوار مؤثرة في شبكة الفساد الواسعة النطاق التي تهيمن على المحليات. فالإدارات المحلية تؤدّي أدواراً شديدة التأثير على الحياة اليومية للمصريين لما تملكه من صلاحيات عديدة تخص تراخيص البناء والرقابة الصحية وتوزيع السلع والخدمات وغير ذلك من الأمور، بما يجعلها مستنقعاً رئيسياً للفساد في مصر. لذا يتكالب أصحاب المصالح المحلية على عضوية تلك المجالس، وهو ما يفسر احتدام الصراع عليها داخل الحزب الوطني.
وما حدث من تصفية لبعض من ذوي النفوذ المحلي هو جزء من عملية إعادة الهيكلة التي تقوم بها القوى الجديدة داخل الحزب، أي جمال مبارك ومعه حفنة الليبراليين الجدد وأصحاب المصالح الاحتكارية المرتبطين به، الذي يأتي على رأسهم أحمد عز أمين التنظيم بالحزب، والمسؤول عن تحديد قوائم المرشحين. هناك عمل على تكوين قاعدة للجناح الصاعد في الحزب، تقوم على شبكة جديدة من أصحاب المصالح تربط ما بين الاحتكارات الرأسمالية ومستنقع الفساد في المحليات.
وبصرف النظر عن كل ما جرى من مهازل في ظل ما يمكن تسميته فرضاً انتخابات المحليات، فإن المفارقة التي تستحق التأمل بالفعل هي جرأة النظام المصري على التصرف بهذا القدر من الاستبداد في لحظة مشحونة بالتوتر بسبب تصاعد النضالات الاجتماعية. حيث يمكن القول بثقة إن موجة الإضرابات العمالية والحركات الاجتماعية عموماً، التي تسير في وتيرة متصاعدة منذ إضراب عمال المحلة في كانون الأول / ديسمبر 2006 حتى اليوم، لم تشهد مصر مثيلها منذ أربعينيات القرن العشرين، بحجمها وتواترها وحدّة مطالبها.
ولا شك أن نظام مبارك يعرف قدر معارضيه السياسيين جيداً، فهو من نجح على مدار ربع قرن في ترويضهم، وما يفعله اليوم مع الإخوان فعله من قبلُ مع حزب التجمع واليسار الإصلاحي، أي القمع الشديد من جانب، وصفقات المهادنة من جانب آخر، حتى ينتهي بهم الحال إلى الرضوخ الكامل لشروطه. ومع الوقت تذوى شعبيتهم ويتحولون إلى قواقع فارغة. لكن لا شك أيضاً أن النظام يواجه اليوم أمراً جديداً عليه، حيث تحتشد قطاعات واسعة من الفقراء للمطالبة بالخبز والأجر العادل والخدمات الضرورية، وينفجر غضبها كل يوم من حيث لا يحتسب أحد. لذا فإن الفجاجة التي تصرف بها النظام في مسألة المحليات، وما نتج منها من صدامات في مدن عدة بين قوات الأمن والجماهير الغاضبة من المرشحين وأنصارهم، تكشف عن قدر من المغامرة، فالأمر لا يتعلق باستثارة رد فعل لدى المعارضة السياسية، بل بتأثير الاحتدام المحتمل على جموع الفقراء الواسعة الواقفة في طوابير الخبز أو المحتشدة في إضرابات واعتصامات لا تتوقف.
قد يكون التفسير أن النظام فقد صبره، وبات متيقّناً أن لا مفرّ من المواجهات العنيفة مع الجماهير في الشارع حتى يضع حدّاً للمعارك الاجتماعية المتصاعدة. وقد يكون القمع الذي يرتكبه إزاء عمال المحلة الكبرى الداعين لإضراب عام مطالبين برفع الحد الأدنى للأجور، كاشفاً لهذا الأمر.
* صحافي مصري