ياسين تملالي أمّا نظامه الاقتصادي فكان أشبه بالقنانة منه بأي نظام آخر. تربى تنزين غياستو في حضن الأديرة، ولما بلغ الخامسة عشرة، تولى «القيادة المدنية والروحية للتيبتيين». لم ينتخبه أحد. اصطفته مشيئة الكهنوت.
وفي 1951، دخلت جيوش ماو تسي تونغ التيبت بهدف «إرجاعه إلى حظيرة الأمة الصينية»، وتصرفت في المنطقة بقساوة بالغة بزعم «القضاء على الإقطاع الثيوقراطي» البوذي. وهي إن لم تجرؤ على تنحية «بحر الحكمة» أو قتله، فبسبب تهديد الولايات المتحدة بالتدخل وتلويحها باستعمال السلاح النووي ضدّ الصين. ظلّ الدالاي لاما في منصبه إذاً حتى سنة 1959. وفي تلك السنة، في خضم انتفاضة مسلحة قمعتها بكين، لجأ إلى الهند وشكّل فيها حكومة منفى، وهو منذ ذلك اليوم يدعو الحزب الشيوعي الصيني إلى منح التيبتيين الاستقلال الذاتي. هل كانت هذه الانتفاضة شعبية عفوية؟ الشهادات اليوم كثيرة عن تدخل الإدارة الأميركيّة فيها لإعطائها وجهة لا تخدم رغبة التيبتيين في «الدفاع عن حريتهم الدينية» بقدر ما تخدم عزم واشنطن على احتواء المارد الصيني قبل أن ينطلق من قمقمه. وتؤكد إحدى هذه الشهادات أن «السي أي أي» هي من دربت المتمردين التيبتيين وساندتهم بالمال والسلاح، فضلاً عن أنها أقنعت الهند باستقبال تنزين غياستو مقابل تكوين دفعة من المهندسين الهنود في المجال النووي، ما جعل المتنكتين يسمون أول قنبلة ذرية هندية «قنبلة الدالاي لاما».
وباعتراف دبلوماسي أميركي بارز في رسالة إلى ترومان سنة 1947، كانت أميركا تستهدف تحويل التيبت إلى أحد «معاقل مناهضة المد الشيوعي في آسيا والاحتفاظ به كجزيرة محافظة في محيط من التقلبات السياسية». ويبدو أن هذه السياسة هي اليوم نفسها لم تتغير كثيراً في ما يناهز نصف قرن.
وبالرغم من أن الحكومات الغربية لا تعترف بحكومة تنزين غياستو، فهي تستقبله استقبالها رؤساء الدول. لو كان مجرد زعيم سياسي لهان الأمر. أمّا وهو قائد ديني يرى سلطته الروحية أزلية أبدية لا داعي لأن تستمد من الانتخاب، ولا يضيره أن يسجد له «رعاياه» إجلالاً لروح البوذا المتجلية فيه، ففي الأمر ما يدعو إلى الريبة. ذلك أن دعوات هذه الحكومات لا تنقطع إلى إرساء الديموقراطية الانتخابية في العالم المتخلف، أي في «العالم غير الغربي».
هكذا إذاً، تبنّى الغرب الدالاي لاما وحوّله إلى صنم من أصنام «التسامح» متناسياً أنه وريث أحقاب طويلة من سلطة ثيوقراطية متغطرسة، سلطة كان التيبتيون في ظلها شبه أقنان. أما من تناقض بين تنديد الحكومات الغربية «بخطر الدولة الدينية» الزاحف على البلاد الإسلامية والعطف الذي تحيط به هذا الراهب الحديث؟ وإذا كان دفاعها عن «حق التيبتيين في الحرية» صادقاً فلماذا تفترض أنهم، اليوم في 2008، يدينون بالولاء لكاهن لم ينتخبوه؟ لا إجابة عن هذه الأسئلة، فلا انشغال لهذه الحكومات بالتيبت في الحقيقة: كل همّها إضعاف الصين، وخصوصاً أنه لا مقارنة بين قوّة هذا البلد الوليد في الخمسينيات ووزنه الجيوسياسي اليوم.
ولو كانت هالة القدسية التي يحاط بها الدالاي لاما من صنع الحكومات الغربية وحدها، لما كان الأمر مثيراً للاستغراب. ما يثير التعجّب هو سعي بعض المثقفين الغربيين إلى إشعال هذه الهالة كلّما خمدت.
يتحدّث هؤلاء المثقفون عن «بوذية التيبت المتسامحة» بكثير من الحنين إلى زمن مفترض، كان فيه الإنسان «ابن الطبيعة» البار ولم تلوّث صفاءه فيه بعد يد الحداثة. وينسيهم هذا الحنين الغرائبي أن تنزين غياستو سليل كهنوت سيّر التيبت كملكيته الخاصة طوال قرون، وأن للسلطات الصينية، بالرغم من سياستها القمعية، الفضل في تخليص هذه المنطقة من ربقة الحكم الديني الجائر. أما أكثر ما ينسون، فالتناقض بين لائكيتهم المفرطة حالما يتعلق الأمر بالإسلام، وتفهّمهم «للخصوصية التيبتية» حتى في أكثر مظاهرها تعارضاً مع حقوق الإنسان.
والملاحظ أن آخر تصريحات سيلفيو برلوسكوني عما يشكّله المهاجرون من «شر» في أوروبا لم تثر حفيظة هؤلاء «المثقفين الجدد» بقدر ما أثارها الوضع في التيبت. ذلك أنهم آثروا التحول إلى «ضمير العالم» بعد أن انعدم دورهم في بلدانهم أو كاد. لم يعد لهم من «قضية» سوي قضايا أبعد البلدان عنهم، ولا فرق لديهم بينها على اختلافها. لذا يبدو اهتمامهم بالتيبت كإحدى مراحل ضجرهم السياسي لا غير. وهنا يحق سؤالهم: أما زالوا يتابعون ما يجري في الشيشان وبرمانيا أم أن الموضة تجاوزت هاتين «القضيتين» منذ أن خفت صوتهما في
التلفزيون؟

* صحافي جزائري