ديما يونسربما من الغريب، بل من غير المألوف، وجود مظهر ديني في عقر دار العلمانية، لكنه حصل.
محجبة في البيت العلماني تقف هناك، وسط الدار حائرة تراقب المكان. تتفحّصه، تحدّق إلى الوجوه. لم يكن هناك أحد مثلها. كانت الوحيدة هناك التي ترتدي حجاباً. اقتربت من إحدى الفتيات هناك وابتاعت كتاباً وانتظرت قليلاً كي تحصل على توقيع صاحبه. إنه «هلوسات نملة»، هو الكتاب الذي بدأت بتصفحه بانتظار توقيعه. لعلّها شعرت للحظة بأنها تماهت مع النملة فباتت هي النملة والنملة هي، ولعلّها شعرت بأن المكان كله هلوسة، ربما سترحل ولن تعود ثانية لأنها مختلفة.
وربما ستعود للمرة الثانية والثالثة والرابعة والعاشرة، لأنها مختلفة، لتفرض اختلافها حتى على العلمانيّين. تريد أن يقبلوها.
فالعلمانية باعتقادها ليست بالشكل بل بالمضمون. العلمانية هي تقبّل الآخر كما هو: بفكره، شكله، لونه، وكل ما يملك. وإلا فلا داعي للعلمانية ولنمحُ الاسم ونغيّره ونضع بيت الطائفية.
كانت المحجّبة الوحيدة هناك. شعرت بالوحدة والجمود، وأسرها الفراغ الرتيب الذي فرضه المكان عليها، لأنها مختلفة شكلاً ومتّفقة مضموناً. وربما هي مختلفة شكلاً ومضموناً. ومع ذلك، أتت إلى هنا، إلى هذا البيت الذي تأمل أن يحتضنها ويحتضن الكثير من أمثالها.
هي المساحة الباقية لتردم الهوة بين البشر وأشباه البشر الذين يتضاءلون يوماً بعد يوم، وتتلاشى صورهم عبر الفضاء في هذا الزمن الرديء والوطن الممزق، حيث باتت الإنسانية في بلد الطائفية تهمة وخيانة عظمى، تعرّض صاحبها للإعدام اجتماعياً ونفسياً وترديه قتيلاً على قارعة الحرب القادمة ربما.
قد تكون العلمانية هي الحل الوحيد أو الأمل الباقي لكي نعيد التوازن بين كفتي الميزان. فهي القادرة على تمزيقنا وإعادة خلقنا من جديد بصورة مقبولة، تشرق من جديد وتعدنا بوطن يملأه الحلم وربيع العطاء وخريف الراحة وشتاء الدفء. قبل أن تمزّقنا الطائفية التي رضعناها منذ أن كنا في المهد فصنعت منّا شحنات قابلة للاشتعال بأي لحظة وبأي وسيلة. نحن أبناء الطائفية بامتياز. هو الشيء الوحيد الذي نتقنه ببراعة لا توصف.
إنّنا نحيا بهيكلية دولة تشبه الغابة إلى حد التطابق، وربما أشد ضراوة وشراسة.
هل سيأتي يوم تسقط فيه المحاصصة الطائفية في بلد الطوائف؟
السؤال هنا يفرض نفسه: هل نحن مؤهلون كي نصبح علمانيين؟ وإذا وجدت هذه القابلية، كم من الوقت سيستغرق تطبيقها؟ متى يقترب الحلم من الحقيقة؟ وما هي مواصفات هذا الحلم وما هي هذه الحقيقة؟
أم إنّ العلمانية نوع جديد من أنواع المذهبية؟ هل ستؤلّف طائفة جديدة، «طائفة العلمانيين» مثلاً؟
هل هي فعلاً القلب الباقي لإعادة نبض الحياة؟ أم إنها ستساهم في إيقافه؟
قد تعيد العلمانية خلط الأوراق وتمحو الطائفية بالكامل، وقد تبقيها وتلوّنها بطابعها الخارجي فقط، وبالتالي ستسقط ونسقط مع آخر أمل نعيش لأجله.
إن لم نكن نملك بذرة التغيير فلن نتغير. فنحن شعب تراثة الطائفية كما أثبتت التجارب والحروب التي تحيا معنا كظلالنا الخفية، والتي تبرز متى شاءت. شوّهتنا ومزّقتنا الحروب بما فيه الكفاية لدرجة التخثر، حيث إننا لم نعد نشعر بوجودنا. وللمفارقة، إننا جميعنا نرفض الحرب، ولكن ضد ماذا؟