علاء اللامي *وبخصوص مجزرة «حلبجة»، يرمي البعثيون بمسؤوليّتها على إيران، أما «حفلات» الإعدام الجماعية لقياديّين بعثيّين اتهموا بالتآمر ضدّ نظامهم، فإن هذه القيادات ترفض أي حديث عنها بدعوى أن هؤلاء كانوا بعثيين ولا يحق لغير البعثيين التدخل في «الشؤون الداخلية».
وعلى هذا الغرار، يمكن الإتيان بأمثلة عديدة تثبت أن القيادات البعثية التي ما زالت تسير دفة الحزب، المنشقّ حاليّاً إلى أحزاب عدّة، منقطعة الصلة بالواقع الحيّ، وتعيش في أوهامها وقناعاتها الحزبيّة الخاصّة، الأمر الذي يمنعها من التفكير بالاعتذار لشعبها أو نقد الذات ومراجعة التجارب التاريخية التي خاضتها. حتى إنّ حدثاً هائلاً كسقوط بغداد واحتلال بلد كالعراق وانهيار الحكم البعثي فيه بصورة بائسة وكاريكاتورية، يُصوّر على أنه «انتصار كبير وصمود رائع»، وفي حالات الكرم السياسي يجعلونه مجرد «كبوة على طريق النضال القومي الظافر»، يخفّف من ثقلها وفظاعتها تجربة المقاومة التي يزعمون تأسيسها وقيادتها، وكأنهم بذلك أصحاب فضل على الشعب العراقي الذين ضيّعوا سيادته واستقلاله وفشلوا في الدفاع عنه وحمايته.
المعضلة الثانية، تتمثّل في الحكم الصنيع القائم على أسس المحاصصة الطائفية والعرقية والتحالف مع المحتل الأجنبي. فأقطاب هذا الحكم أو لنقل أغلبيتهم الساحقة، تفكّر بطريقة الثأر والانتقام واستغلال الفرصة التي منحها لهم القدر لتقتصّ من عدوّهم السياسي الذي أضفوا عليه صفات جديدة لا تخلو من النزوع الطائفي أو القومي. وحريّ بنا القول إنّ عقليات كهذه، هي أبعد ما تكون عن الروح الإيجابية والتسامحية والبحث البنّاء عن حلول تاريخية وديموقراطية تأتي بالمنفعة للشعب العراقي ومستقبله، وتخرجه من مأزقه الراهن وماضيه المثقل بالمآسي والآلام، على غرار تجربة المصالحة العبقرية التي اجترحتها القيادات المنتصرة على نظام التمييز العنصري في جنوب
أفريقيا.
لقد تعرّض حزب البعث طوال سنوات الاحتلال إلى مجزرة إجرامية حقيقية، طالت البعثيين من المستويات الوسيطة خصوصاً، ومن غير القادرين على الدفاع عن أنفسهم وعائلاتهم، فيما هرب أغلب المسؤولين البعثيين الكبار، والمسؤولين المباشرين عن عمليات القمع والتصفيات بما «نهبت أيمانهم» من أموال العراق إلى الدول المجاورة والأوروبية، ليؤسسوا المصانع والشركات التجارية في عمّان وغيرها من العواصم، وسقط في يد المحتلين أو استسلم لها القادة الكبار، وفي مقدمتهم رئيس النظام صدام حسين، فيما تمت تصفية الآلاف من الكوادر الوسيطة والدنيا، وخصوصاً في الجنوب والوسط. ولم يسلم من تلك التصفيات إلا من وضع نفسه وكفاءاته الأمنية والعسكرية في خدمة المنتصرين «الحكام الجدد حلفاء الاحتلال». لقد أدانت بعض الأوساط الديموقراطية، على محدودية صوتها وتأثيرها، تلك المجازر والتصفيات، وعدّتها إجرامية وخارج نطاق القانون، فيما سكتت عنها أوساط وأحزاب كبيرة تسمّي نفسها ديموقراطيّة وإسلاميّة وقوميّة ويساريّة، كان أحدها، بالمناسبة، متحالفاً ذات يوم مع حزب البعث في الحكم، ونعني الحزب الشيوعي العراقي ـــ جناح حميد مجيد موسى، المشارك بنشاط في العملية السياسية الاحتلالية، الذي احتسب في عهد مجلس الحكم السيئ الصيت، رغم شيوعيته الفاقعة المعلنة، على «الكوتا» الشيعيّة.
إنّ رفع الحظر عن حزب البعث وتقديم المجرمين الذين قتلوا عراقيّين بحجة انتمائهم إلى هذا الحزب إلى العدالة، ورفع الحيف عنه، هو مطلب ديموقراطي وإنساني لا علاقة له بأية اشتراطات وخلفيات. ولكن اللافت أن هذا المطلب المشروع يُمدّد من قبل أصحاب النداء السالف الذكر، ليصل إلى المطالبة بإشراك البعث في العملية السياسية الجارية، وهذا أمر مرفوض تماماً، لأنه يعني فرض سياسة معينة على حزب يرفضها، ويعطي الانطباع بأنّ مطلقي النداء الداعي لرفع الحظر عن البعث يريدون حزب بعث من طراز خاص ،أو لنقل بصراحة إنهم يريدون «بعثاً» عميلاً للاحتلال وموافقاً على حكم المحاصصة الطائفيّة والعرقيّة.
من ناحية أخرى، لا يمكن لحزب البعث الاستمرار في نهجه وعقليته المنقطعة الصلة بالواقع، وتكرار أساطيره العتيقة التي لم يعد يصدقها أحد، وخصوصاً بعد انكشاف حجم المظالم والتجاوزات التي ألحقها البعث بالشعب، وعليه أن يستمع لصوت العقل ويراجع تجربته وحساباته ويتخلّى عن العنجهية النظرية والعملية، وعن السلوكية المخابراتية، ويحافظ على نهجه السياسي المعلَن والمناهض للاحتلال وحكم المحاصصة، بل أن يعمّق هذا النهج. ليس ثمّة علاقة اشتراطيّة بين المطلبَين، بل ثمة تلازم تاريخي وأخلاقي يجعل المناداة بأحدهما ملازمة للمطالبة بتحقيق الآخر.
نسجّل أخيراً أنّ المطلب الأول، «رفع الحظر عن البعث»، لا ينبغي أن يكون موجّهاً أو متوسّلاً موافقة الحكم القائم، لئلا يفسر ذلك على أنّه انجرار إلى التعاطي مع العملية السياسية الاحتلالية، بل هو شعار عام ومبدأ ديموقراطي تنبغي المناداة به دون تقييد أو اشتراط مكاني أو زماني.
إنّ الاتفاق على المطالبة برفع الحظر عن حزب البعث هو البوابة الحقيقية لوحدة القوى المناهضة للاحتلال أوّلاً، وهي خطوة كبيرة ومفيدة على طريق استرجاع الوحدة الوطنية الحقيقية، وهدم لركن أساسي في الكيان الطائفي الذي يريد الاحتلال ترسيخه ثانياً. أمّا إقدام البعثيّين على مراجعة تجربتهم والاعتذار لشعبهم بصدق وصراحة لا غبار عليهما، والتخلي عن الرموز والأفكار والسياسات التي قادت العراق إلى ما هو عليه اليوم، فهي خطوة كبرى تقرّب العراق وشعبه من الخلاص. وأما عكسها، فسيعني حتماً جريمة جديدة يرتكبها المسيطرون على قيادات هذا الحزب بحقّ العراق وشعبه، وتضييعاً لسانحة
تاريخية.
* كاتب وصحافي عراقي