عصام نعمان *في 6 أيلول 2007 دمّر سلاح الجو الإسرائيلي منشأة عسكرية سورية قرب دير الزور. بعد نحو سبعة أشهر من الغارة الغامضة، كشفت إدارة جورج بوش أمام لجان الكونغرس صوراً للمنشأة المدمرة زعمت أنها تشكّل قرائن على وجود مشروع مفاعل نووي كانت سوريا تبنيه بمساعدة كوريا الشمالية.
رافق الكشف عن القرائن المشكوك بصحّتها حدثان لافتان: الإعلان عن وساطة تقوم بها تركيا بين سوريا وإسرائيل، وارتفاع وتيرة المعارضة في صفوف الأعضاء الجمهوريين المتشددين في مجلس الشيوخ لثمن الصفقة التي تعتزم إدارة بوش عقدها مع كوريا الشمالية بغية إنهاء برنامجها النووي.
قيل إنّ إدارة بوش أصابت بكشفها الصور المشكوك بصحتها عصفورين بحجر واحد: أظهرت سوريا بمظهر الدولة التي تتأبّط شراً بإسرائيل ما يُفسد مساعي إيهود أولمرت الملتبسة لمباشرة محادثات معها بوساطة تركية لعقد صلح منفرد، وعزّزت الضغوط التي تمارسها الولايات المتحدة وحلفاؤها على كوريا الشمالية لتقديم تقرير مفصّل عن أنشطتها النووية في الماضي ولا سيما لجهة الدول التي زودتها خبرات فنية أو باعتها مواد نووية.
إلى ذلك، هاجم نائب رئيس الحكومة، وزير المواصلات الإسرائيلي شاؤول موفاز، عشية سفره إلى واشنطن للمشاركة في دورة الحوار الاستراتيجي بين الدولتين، هاجم سوريا قائلاً إن «الكرة الآن في أيدي السوريين. فدمشق هي جزء من محور الشر، وهي تسمح لطهران بقيادتها، وهي متورطة حتى عنقها في مساعدة حزب الله ومنظمات أخرى مثل حماس. وينبغي على سوريا الآن أن تقرر ما إذا كانت تريد أن تبقى منقادة لإيران أم تتخلى عن محور الشر».
ولم يخفِ موفاز ما يعتبره القضيتين الأساسيتين الجاري بحثهما في الحوار الإستراتيجي وهما العقوبات الدولية على إيران، وعدم التنفيذ الكامل للقرار الدولي 1701 حول لبنان.
ففي رأيه «إن هذا القرار لم يطبق، ونحن قلقون وسندرس، بين خيارات عدة، احتمال توسيع القرار...».
ماذا يعني «توسيع القرار»؟ ثمة إشارات إلى أن ما تبتغيه أميركا وإسرائيل في هذه الآونة هو خلق حقائق وظروف جديدة على الأرض تفضي إلى توسيع مهمات القوات الدولية المنتشرة في جنوب لبنان بموجب القرار 1701 ليشمل تفويضاً إضافياً بالتمركز على طول حدود لبنان الشرقية مع سوريا بغية وقف ما تسمّيه إسرائيل «تهريب الأسلحة الإيرانية والسورية إلى حزب الله».
وإذ يجري شنّ حملة سياسية وإعلامية واسعة على سوريا وتصويرها كدولة مارقة كما العراق عشية شنّ الحرب عليه ربيع العام 2003، ينهض سؤال: هل تحتاج سوريا فعلاً لقنبلة نووية في صراعها مع إسرائيل؟ أم أنّ الحملة الناشطة ترمي إلى تشويه صورة سوريا إقليمياً وعالمياً كمقدمة لضربها عسكرياً إذا تيسّر لإسرائيل، ومن ورائها أميركا ذلك؟
ثمة بين المحلّلين السياسيين من يعتقد بأن التوازن الاستراتيجي مع العدو الصهيوني كان دائماً هدفاً معلناً للرئيس الراحل حافظ الأسد، وأنّ نجله الرئيس الحالي يرفع الهدف نفسه، وأنّ الغاية المتوخاة من ذلك تحقيق مستوى عالٍ من القوة الردعية في وجه إسرائيل. ويذهب بعض المحللين إلى أبعد من ذلك فيقول إن سوريا كانت وستبقى حاملة هاجس الوحدة، وأنّ من شأن تملّك سلاح نووي منحها قدرةً ووزناً وهالة على الصُعُد الشعبية والسياسية والإستراتيجية، وقد يساعدها كثيراً في سعيها لأن تصبح محوراً مركزياً في دنيا العرب.
يبدو هذا التحليل، من الناحية النظرية، مقنعاً. لكن ثمة حقائق وعوامل يقتضي أخذها في الحسبان. ذلك أنّ التسلّح النووي يتطلب شرطين قد لا تكون سوريا، في وضعها الراهن، قادرة على توفيرهما: التمويل الواسع والحماية الأمنية الرادعة.
على الصعيد المالي والاقتصادي، لا تبدو موارد سوريا وقدراتها الاقتصادية في وضع يمكّنها من توفير التمويل الواسع واللازم للصناعة النووية العالية التكلفة. أما على الصعيد الأمني، فإن ضيق مساحة سوريا نسبياً، وقرب موقعها الجغرافي من إسرائيل المتفوقة عليها عسكرياً وتكنولوجياً بفضل الولايات المتحدة، يجعل توزيع منشآتها النووية على مواقع عدة وتوفير الحماية الرادعة لها مسألتين بالغتي التعقيد ومحدودتي الفعالية.
هل يمكن الاستعانة بإيران لسد النقص وتوفير المال والعون الفني والدعم الأمني اللازم؟
يتوقف الأمر على استراتيجية إيران الإقليمية والدور الذي ترغب في أن تضطلع به إسلامياً ودولياً. فقد تكون إيران راغبة في أن تكون وحدها قوة إقليمية مركزية وقاعدة اتحاد إسلامي عالمي، وفي هذه الحال فإنها ستتعاطى مع سوريا كحليف لا كشريك. مَن يُعطَ صفة الحليف، لا يؤتمنْ على تسليمه سلاحاً نووياً ولا تالياً قدرة على استعماله، لكونه السلاح البالغ التأثير.
أمّا الشريك الذي يكون عادةً ذا أهداف مماثلة وقدرات متكافئة مع الشريك الآخر، فقد يكون في وضع يمكّنه من الاستحصال على قدرات نووية من شريكه النووي. سوريا ليست، في الوقت الحاضر، متكافئة مع إيران من حيث الأهداف والقدرات، الأمر الذي يُضعف إمكان اعتبارها شريكاً وبالتالي أهلاً للحصول على أسلحة نووية متقدمة من إيران في حال توافرها.
هل تحتاج سوريا لقنبلة نووية كسلاح رادع؟
أرى أن سوريا في الوقت الحاضر والمستقبل المنظور قادرة على امتلاك قوةٍ رادعة بديلة من السلاح النووي، أقلّ تكلفة وأكثر فاعلية. هذه القوة الرادعة متاحة في الوقت الحاضر وقابلة للتطوير والتوسيع والتزخيم. إنّها المقاومة بنوعيها الشعبي وشبه النظامي. فالمقاومة الفلسطينية، بمنظّماتها جميعاً ولا سيما «حماس» و«الجهاد الإسلامي»، نجحت على مدى السنين الستين الماضية في إبقاء جذوة الرفض للاستعمار الاستيطاني الصهيوني متقدة، ومكافحته ناشطة وفاعلة، واستنزافه ممكناً ومجزياً ومتعظماً. والمقاومة اللبنانية، ولا سيما حزب الله، أصابت في مكافحة التمدد الصهيوني نجاحاً أكبر وسجّلت انتصاراً لافتاً في حرب إسرائيل الثانية على لبنان، يمكّنها من التحول سريعاً إلى قوة شبه نظامية وبالتالي إلى تحقيق فاعلية أكبر في مواجهة العدو ودحره في عقر داره.
إنّ المقاومة اللبنانية والفلسطينية، بنوعيها الشعبي وشبه النظامي، حليفتان قويتان لسوريا في الوقت الحاضر، وستبقيان حليفتين بفاعلية أكبر إذا ما استمرت سوريا ناهضة بدور الراعي والحليف الرئيس لهما. فهل تبقى سوريا كذلك؟ وما مدى جدية ما يشاع ويذاع عن إمكان اتجاهها إلى مفاوضة إسرائيل، بوساطة تركية، لعقد صلح منفرد معها؟
يبدو التفاوض، نظرياً، خياراً متاحاً لسوريا التي سبق لها في عهد حافظ الأسد أن فاوضت إسرائيل من دون أن تنتهي المفاوضات إلى نتيجة مرضية. لكن، عملياً، خيار ضعيف ودونه عوائق شتى. فالاستعمار الاستيطاني الصهيوني لم يبلغ بعد حدوده القصوى المرتجاة، وتوازن القوى الإقليمي من جهة ودعم الولايات المتحدة غير المحدود إسرائيل من جهة أخرى يسمحان للقيادة الإسرائيلية بالمراهنة على سياسة التوسع وإرهاب العالم العربي، وفي مقدمه سوريا، بمزيد من العنف وتوظيف تفوّقها العسكري والتكنولوجي لتحقيق المزيد من القضم والهضم للأرض والموارد العربية.
في المقابل، تشعر سوريا عند المفاضلة بين ما يمكن أن تحصل عليه من مكاسب محدودة للغاية جراء صلح منفرد غير آمن وغير مأمون العواقب مع إسرائيل، وما يمكن أن تتقوّى به ومعه جراء تحالفها الاستراتيجي مع إيران وشركتها الكفاحية مع المقاومتين اللبنانية والفلسطينية، بأنّ الخيار الثاني أفضل وأوزن وأكثر اتساقاً مع طموحات الأمة وحركة التاريخ.
إلى ذلك، فإن الأمثولات المستمدة من تجارب الأمم وحروبها تجزم بأن أهم من ميزان القوى في الصراعات الكبرى هو ميزان الإرادات. عسى أن تكون إرادات القادة والمقاومين العرب في صراعهم مع إسرائيل وأميركا أقوى وأصلب من إرادات الأعداء الذين يراهنون غالباً على موازين القوى.

* وزير سابق