علي محيي الدين *للأوّل من أيّار، فلسفته ومفهومه ومعانيه، لكونه يختلف كلياً عن كل الأعياد. إنّه ذكرى لتخليد شهداء الطبقة العاملة، إنّه عيد الصراع الطبقي، إنّه محطّة سنوية للحركة النقابية الجذرية، لتقويم نضال سنة مرّت، ولتضع برنامج نضال لسنة مقبلة.
الأوّل من أيار، عيد العمّال العالمي، وبالتالي وجب إعادة التذكير كيف حُدّد هذا العيد:
على أثر انعقاد المؤتمر السنوي لاتحاد المنظّمات النقابية في الولايات المتحدة وكندا عام 1884 في مدينة شيكاغو في أميركا، قُرّرت الدعوة لتنفيذ الإضراب والتظاهر، في الأوّل من أيار عام 1886. وحصل ذلك من أجل المطالب التالية:
1ــ ثماني ساعات عمل. 2ـــ بناء المساكن الشعبية للعمّال. 3ـــ سنّ قوانين للوقاية والحماية واعتماد الحدّ الأدنى للعمل. 4ـــ تحريم تشغيل الأطفال والنساء في الأعمال المتعبة.
نُفِّذ القرار وحصلت المجزرة العمالية وقُتل وجرح وأُعدم وسجن العديد من المتظاهرين.
وفي عام 1889، عُقد مؤتمر نقابي أممي في فرنسا وقرّر تنفيذ التظاهرات في كل أنحاء العالم من كل عام ابتداءً من عام 1890. ومنذ ذلك التاريخ، والمنظّمات النقابية في العالم تحيي هذه الذكرى تخليداً لشهداء الطبقة العاملة ووفاءً للالتزام بالدفاع عن حقوق العمال بهدف تحقيق العدالة الانسانية وترجمة للأممية الأولى التي أسّسها كارل ماركس عام 1864. وكلّ ما تنعم به الشعوب ولا سيما العاملون بأجر اليوم، من مكتسبات وحقوق في الحرية والديموقراطية والضمانات الاجتماعية، ليس سوى نتاج لهذه تضحيات.
إنّ نظام العولمة بمضمونه وجوهره وأدائه النيوليبرالي المتجدد، هو انقلاب على مفهموم الدولة لمصلحة نظام الشركة، بوحشية رهيبة. نظام يقوم على تأييد للاحتكارات العالمية بتسليم الاقتصاد العالمي لهذه الشركات عابرة القارات، مستخدمين المؤسّسات الدولية ولا سيما صندوق النقد والبنك الدوليين، وخاصة منظمة التجارة العالمية التي من مرتكزاتها إلغاء التنظيم النقابي. حتى بات واضحاً بعد عقدين من الزمن، أنّ قلّة مستأثرة برأس المال تزداد غنى يوماً بعد يوم، وفي المقابل يزداد الفقر والجوع ويطال أكثرية سكّان الارض. إنّه الغزو المعولَم للانسانية جميعاً.
وفي لبنان، وبعد اتفاق الطائف، تم الالتزام بالمشروع الأميركي الصهيوني الجهنّمي. واستخدمت السلطة مؤسّساتها الدستورية التنفيذية والتشريعية والأجهزة العسكرية لهذه الغاية، وفرضت القوانيين والانظمة المناقضة للدستور اللبناني، منتهكة السيادة والاستقلال. كما تعدّت السلطة على الحريات وعطّلت الديموقراطية، وألغت حرية التعبير عبر إلغاء التظاهرات ونشرات الاخبار، وانقضّت على الحركة النقابية، وسيطرت على هياكلها، ونالت من دورها وزجّت في السجن الياس أبو رزق وياسر نعمة سنة 1997، وبعد عشر سنوات من المحاكمة صدر حكم براءتهما.
ثمّ افتُعلَت الأزمة الاقتصادية والاجتماعية عبر اعتماد المحاصصة المذهبية بتوزيع الثروة الوطنية وبتشجيع الهدر والسرقة للمال العام، وأصبح الفساد سمة المرحلة، كما الضرائب والرسوم من خلال برامج دوليّة للبنان، آخرها كان باريس (3). الفوضى تبقى السمة الحقيقية لما يُسمى اقتصاد السوق. ولمواجهة هذه التحديات والمخاطر لا بدّ من استعادة مفهموم الاول من أيار ووظيفته، وهذا يتطلب الإفراج عن الحركة النقابية وسائر مؤسّسات المجتمع المدني. فمصادرة الحركة النقابيّة حوّلت عيد العمال إلى مناسبة سياسية خطابية فارغة من مضمونها، وأُلغيت الشخصية المعنوية والاعتبارية لجميع العاملين بأجر. وعن قصد أو بغير قصد، ألغت هذه الإجراءات التعسفية الحركة المطلبية، وانقلبت على الديموقراطية.
وفاءً لشهداء الطبقة العاملة وللمناضلين النقابيين ولمن بقي من القيادات النقابية المؤمنة بالعدالة والمساواة، على هؤلاء أن يتجمّعوا في اطار جديد لإطلاق حملة ثقافية ونضالية عبر منبر مستقل، للمساهمة بإعادة بناء حركة نقابية جماهيرية ديموقراطية مستقلة لبناء حركة شعبية ديموقراطية تعتمد مقاومة مدنية ديموقراطية تجدّد الصراع ضدّ وحوش المال.
صراع ضروري للكشف عن وحشية هؤلاء، ولوضع حدّ لهذه النظم والسياسات الخاطئة والمجرمة بحق الوطن والمواطن ولفرض الديموقراطية الشعبية، وإنشاء مدخل لقيامة وطن وبناء دولة لا يمكن تحقيق العدالة إلا عبرها.
وفي هذه اللحظة التي تتكشّف فيها مخاطر الامبراطورية الاميركية بالشراكة مع الحركة الصهيونية التي أعادتنا الى ما كان عليه سوق العمل والاستغلال والنهب المنظَّم، يجب العودة إلى روح تظاهرة شيكاغو وبرنامجها المطلبي المحدّد أعلاه. فأهداف تلك المرحلة باتت مادّة يجب أن نناضل لتحقيقها اليوم.
استعادة الاول من أيار يجب أن تكون من منطلق وضع حدّ للمتسلّقين والانتهازيّين الفاسدين والتجار، حيث النضال لا يصنعه إلا المناضلون الاوفياء الملتزمون بخيارهم عبر ممارستهم المؤمنة بالعدالة الانسانية. فدم شهداء وجرحى تظاهرة شيكاغو ومئات الألوف الذين قضوا على درب النضال والحرية في الانتفاضات والثورات والإضرابات والتظاهرات، يدعونا الى وصل ما انقطع باستكمال مسيرتهم النظيفة لاستعادة الحقوق المسلوبة.
فإلى وردة بطرس ويوسف العطار وفاطمة الخوجة ونعمة درويش ونعيم حايك وشهداء حيّ السلم وكنيسة مار مخال كلّ التحيّة والوفاء. وإلى رموز النضال من فؤاد الشمال الى مصطفى العريس والياس البواري وسعد سمهون والياس الهبر واللائحة طويلة، ألف تحية. نجدّد العهد والوعد بمتابعة المسيرة حتّى تحقيق الاهداف النبيلة التي استشهدتم من أجلها لتحقيق العدالة الانسانية.
أمّا التعزية، فهي للعمّال والفلاحين وذوي الدخل المحدود حتّى يصبح من جديد عيداً للعمّال العالمي وللنضال.
لا حلّ لجميع العاملين بأجر ومن فُرض عليهم الجوع والفقر إلا بالانخراط في العملية النضالية الديموقراطية الشعبية لإنهاء دور الفاسدين والمتاجرين بدم الناس وعرقهم وذلك كي نعيد لأوّل أيّار مضمونه.
الظلم بدأ بأميركا واليوم المشكلة في أميركا، لكونها رمزاً لإرهاب الدولة. شعار «يا عمال العالم اتحدوا» يعود ليفرض نفسه اليوم، بعدما عاد اضطهاد الشعوب بأبشع وحشية من قبل وحوش أصحاب رأس المال المعولم. لذلك، فإنّ بناء أمميّة النضال لمقاومة العولمة لا بدّ منها، وذلك من خلال تطوير آليات بناء الحركة النقابية بما يتلاءم مع سمات المرحلة وتعقيداتها لاستعادة الحماية الاجتماعية وتحقيق هدف العدالة والمساواة والتقدم على أسس فكرة الدولة.

* رئيس الاتحاد الوطني لنقابات العمّال والمستخدمين في لبنان