محمد سيد رصاص *يفصل عقد من السنين بين «البيان الشيوعي» (1848) وكتاب جون ستيوارت ميل: «في الحرية» (1859)، المعلنين ولادة الماركسية والليبرالية، بعد مسار حمل مشترك، بدأ من عقلانية ديكارت وتجريبية جون لوك الحسيّة، وصولاً إلى أفكار عصر الأنوار الفرنسي والاقتصاد السياسي لآدم سميث، ليحصل افتراق الجنينين، غير التوأمين، بين محطّتي فلسفة هيغل وفلسفة أوغست كونت الوضعية، التي كانت الحاضنة الفلسفية لأفكار (ميل) الاقتصاديّة ــــ الاجتماعيّة ــــ السياسيّة.
لقد أتى العديد من قادة الحركة الماركسية من مواقع ليبرالية، مثل فرانز مهرنغ، الذي كان مع روزا لوكسمبورغ وكارل ليبنخت، من مؤسّسي (عصبة سبارتاكوس) عام 1918، التي شكَّلت نواة الحزب الشيوعي الألماني، بعد أن كتب ألمع سيرة لكارل ماركس، فيما ذهب الكثير من الماركسيين إلى نقطة وسط مع الليبرالية، كما فعل إدوارد برنشتين في عام 1898 عندما أسّس (التيّار الاشتراكي الديموقراطي)، ليظلّ ماركسيّاً رغم ذلك، وبالرغم من اتهامات روزا لوكسمبورغ ولينين له بـ«التحريفية». في المقابل، وجد الكثير من مفكّري الليبرالية السياسيّين والاقتصاديّين، مثل جوزيف شومبيتر وجون كينز، أنفسهم في حالة انجذاب وتأثّر واستعارة من
الماركسية.
ظلّ هذا الكوريدور قائماً بين الماركسية والليبرالية، رغم وجودهما على ضفّتي المواجهة في الحرب الباردة، حتى أتى ليو شتراوس (1899ــــ1973)، فيلسوف المحافظين الجدد، الذي استطاع، من خلال تراث فلسفة أفلاطون السياسية في مواجهة مكيافللي، وفلسفة إدموند بيرك الناقدة لأفكار الثورة الفرنسية، أن يفصل بين الليبراليّة المعاصرة والفلسفة الوضعية وكلّ تراث ديكارت وهوبز وجون لوك وعصر الأنوار، مستبدلاً ذلك بمزج أفكار (ميل) الاقتصادية ــــ الاجتماعية ــــ السياسية مع نزعة ناقدة للحداثة الغربية، استقاها من نيتشه
وهايدغر.
كان تأثير فلسفة شتراوس السياسية، عبر منبره الأكاديمي في جامعة شيكاغو، كبيراً ومتنامياً، وبدأت مفاعيله السياسية بالظهور منذ عام 1964مع حملة المرشَّح اليميني الجمهوري باري غولد ووتر الذي كان منافساً قوياً للرئيس جونسون في الانتخابات، حيث كان كاتب خطبه هو هاري جافا، أحد تلاميذ شتراوس، ثمّ ليظهر ذلك بقوّة في إدارة ريغان، عبر المنظّر الاقتصادي ميلتون فريدمان الذي أراد هدم كل الليبرالية الكينزية لصالح ليبرالية جديدة أثّرت كثيراً أيضاً على مارغريت تاتشر، ونزع كلّ تدخلية الدولة الاقتصادية التي بدأت مع سياسة الـ«نيو ديل» للرئيس روزفلت في الثلاثينيات، وتُوّجَت بإصلاحات الرئيسين كينيدي وجونسون الاقتصادية والاجتماعية وفي مجال الحقوق المدنية.
هنا، كان عهد كلينتون ميداناً، فاصلاً قصيراً، للمجابهة بين ليبرالية مستمدّة من كينز وبين تلك المستمدّة من شتراوس: كان انتصار بوش الابن تكريساً لانتصار الأخيرة في الفكر والسياسة. ويبدو أنّ فقدان المنافس الدولي الموازي، بعد انزياح السوفيات، قد جعل كلّ مقيّدات الداخل الأميركي، والساحة الدولية، تنزاح من نظر الواصلين الجدد إلى البيت الأبيض في أوائل الألفية الثالثة، حيث أصبحت «الشتراوسية» مقرِّرة للأفكار والسياسات، من خلال تلاميذ شتراوس، مثل بول وولفوفيتز، نائب وزير الدفاع، وأبرام شولسكي رئيس مكتب الخطط الخاصة في البنتاغون، وريتشارد بيرل رئيس مجلس تخطيط سياسات الدفاع في البنتاغون، وكلّهم تروتسكيون سابقون، مثلهم مثل منظّر المحافظين الجدد الحالي، ويليام كريستول، حيث نقلهم ليو شتراوس من أحضان ليون تروتسكي ونزعته التغييرية اليسارية الجذرية إلى شيء مشابه
لليمين.
يمكن القول، عبر انتصار (الشتراوسية) وهيمنتها على الفكر الليبرالي المعاصر ــــ وهو شيء لا يشمل فقط الغرب الأميركي بل يمتدّ إلى نماذج مثل بيرلسكوني وساركوزي ــــ إنّ ذلك الكوريدور بين الليبرالية والماركسيّة قد أُغلق وانسدّت منافذه، بعد قرن ونصف من التفاعل والتبادل والتأثير والصراع.
الآن في الغرب، يذهب الشيوعي المتحوِّل، مثل ماسيمو داليما زعيم حزب اليسار الديموقراطي في إيطاليا، نحو موقع إدوارد برنشتين كموقع وسط بين ماركس وميل، فيما يذهب الحزب الغريم، أي حزب إعادة التأسيس الشيوعي، إلى موقع ماركس بدون لينين. فيما نجد عندنا، عربياً، كيف يذهب معظم التلاميذ السابقين لستالين وسوسلوف وخالد بكداش (وأيضاً ياسين الحافظ ؟..) إلى موقع المراهنة على النزعة «التغييرية الديموقراطية» للإدارة الأميركية الغازية للمنطقة: هل هم في موقع الناقل للنزعة التغييرية من اليسار إلى اليمين، مثل تروتسكيّي المحافظين الجدد السابقين، أم إنّهم يستمرّون في وظيفيتهم السابقة، أي البحث عن دور سياسي محلّي من خلال الارتباط والمراهنة على قوّة دولة عظمى، من دون أيّ تأسيس معرفي يُذكَر لاتجاههم السياسي، مثل ذاك الذي كان يُجلَب آنذاك من بعض الكتب التلخيصيّة الضحلة للماركسية التي كانت تطبعها دار التقدم في
موسكو؟
* كاتب سوري