علاء اللامي *أدلى القيادي في التيار الصدري والناطق الرسمي باسم زعيمه السيد مقتدى الصدر، الشيخ صلاح ‏العبيدي في لقاء مع صحيفة «الحياة» بتاريخ 24 شباط 2008 بكلام غير مسبوق يتناول ظاهرة ‏العنف الطائفي وكيف حوّله الاحتلال إلى نوع من «توازن للرعب» بين الشيعة والسنّة.‏
فعن ظاهرتي «أبو درع»، أحد قادة جيش المهدي سابقاً، و«مجالس الصحوة»، قال الشيخ العبيدي ‏إنهما «بدعة أميركية هدفها زرع الفتنة، ويراد منها تأجيج الصراع الطائفي السني ـ الشيعي تحت ‏ذريعة إيجاد ما يسمونه توازن الرعب في العراق». وقال إن «شخصية أبو درع تعرضت في حينها ‏إلى التهويل وحدث ذلك بالتوازي مع تفاقم جرائم الزرقاوي ضد الشيعة، ليظهروا للرأي العام وجود ‏زرقاوي لدى الشيعة يرعب السنة، وجاءت الصحوات هي الأخرى بعد فراغ الساحة السُنية من ‏الزرقاوي، إذ لا بد من وجود كيانات لإحداث توازن الرعب».‏
أهمية هذه التصريحات تأتي أولاً من كونها صادرة عن قيادي رفيع المستوى في التيار الصدري ‏الذي كثيراً ما تلافى مسؤولوه الخوض في هذه الموضوعات الحساسة، تاركين الحبل على الغارب ‏للمستنتجين والمستنبطين والمؤوّلين. وثانياً لأنها على درجة عالية من الوضوح والصراحة، الأمر ‏الذي يجعلها مختلفة تماماً عن النثر السياسي العراقي السائد والعائم، حيث الحروف بلا نقاط أو أسماء ‏أو حيثيات في الغالب.‏
ومع ذلك، فقد انطوت هذه التصريحات على ما يمكن اعتباره مغالطات وأخطاء سياسية لا يمكن ‏السكوت عليها، ومن ذلك أن المتحدث يساوي بين ظاهرتي مجموعات القتل الثأري، «فرق الموت»، ‏كمجموعة «أبو درع» التي يربط المتحدث بينها وبين جرائم الزرقاوي بحق الشيعة، بما يوحي كأنه ‏يجد لنشاطاتها الدموية المدانة نوعاً من التبرير في جرائم من النوع ذاته قامت بها مجموعات ‏الزرقاوي، ثم مع مجالس الصحوة مع أنها ظواهر مختلفة من حيث التاريخ والنوع والمدى. فمن ‏حيث التاريخ، برزت ظاهرة مجموعة «أبو درع» بعد جريمة تفجير المرقدين في سامراء واشتداد ‏الهجمات الإبادية على المدنيين (الشيعة خصوصاً)، بالسيارات المفخخة والأحزمة الناسفة من جانب ‏تكفيريي القاعدة وحلفائها الذين لم ينكروا أفعالهم، ومن جانب عملاء المخابرات الإقليمية أو تلك ‏المرتبطة بالاحتلال مباشرة. أما ظاهرة مجالس الصحوة، فحديثة العهد تماماً، ونشأت بعدما بلغت ‏سكين القاعدة من لحم جماهير المنطقة الغربية التي كوّنت الحاضنة الأوسع والأكرم لها طوال سنين، ‏فانقلبت عليها العشائر العربية في محافظة الأنبار، ثم اتسعت الظاهرة لتشمل مناطق واسعة من ‏العراق. هذا من حيث التاريخ، أمّا من حيث النوع، فمجموعات من قبيل مجموعة «أبو درع « ‏تخصصت في استهداف المدنيين من العرب السنة في أعمال انتقامية وثأرية لن تخفف من شناعتها ‏بشاعة الجرائم التي ارتكبتها القاعدة وأنصار السنة وفيلق عمر وغيرها من المليشيات الطائفية، أما ‏مجالس الصحوة، فهي ظاهرة دفاعية بالدرجة الأولى، لم تنشأ لاستهداف الجماهير المدنية (الشيعية) ‏بل للدفاع عن النفس في وجه حرب إبادية هستيرية قامت بها «القاعدة»، وقد أحسن الاحتلال ‏استغلالها.‏
‏ نسجل هنا، أننا في توضيحنا للفارق بين الظاهرتين، لا نقصد بأي حال من الأحوال الدفاع عن ‏انحدار مجالس الصحوة إلى درك التحالف والقتال إلى جانب المحتلين. فذلك عمل مرفوض جملة ‏وتفصيلاً، وكان بإمكان القائمين على هذه الظاهرة كسر الخيارين اللذين أراد المحتل حبس الوضع ‏والناس بينهما، واللذين خلاصتهما: إما الاحتلال أو «القاعدة»!‏
إن محاولة الشيخ العبيدي التخفيف من بشاعة ما ارتكبته مجموعة «أبو درع»، والقول إن هذه ‏الشخصية «المجموعة» تعرضت في حينها إلى التهويل وكانت بالتوازي مع تفاقم جرائم الزرقاوي ‏ضد الشيعة غير مفيدة على الصعيد التحليلي. فما معنى أن يُدّعى أن هناك «تهويلاً» بخصوص ‏جرائم طائفية اشتهرت ووثّقت بالصور والأشرطة والشهود العيان؟ وهل تخفف جرائم التكفيريين ‏بقيادة الزرقاوي منها، أو تعطيها تبريراً أخلاقياً أو جنائياً معيّناً؟ لسوء الحظ، تتشابه محاولة الشيخ ‏العبيدي هذه مع محاولات الطائفيين في الخندق المقابل، والذين لا ينبسون ببنت شفة عن جرائم ‏الزرقاوي وتنظيمه، ويلقون بالمسؤولية كاملةً عنها على عاتق الاحتلال والموساد في محاولة بلهاء ‏لتبرئة القتلة التكفيريين، مستدركين هنا بأننا نؤكد مع ذلك قناعتنا بمشاركة مخابرات الاحتلال والدول ‏الإقليمية، وفي مقدمتها إسرائيل، في تلك الجرائم والتفجيرات التي استهدفت العراقيين، لكن تبقى ‏حصة الأسد فيها لمن كفَّر الملايين علناً وأباح دماءهم بالصوت والصورة والبيان.‏
بعد هذه المجموعة من التحفّظات والملاحظات النقدية، نسجل للشيخ العبيدي أنه قارب معضلة شائكة ‏وفتح باباً مهماً لمناقشة ظاهرة حساسة كثيراً ما تفادى بعض المحللين والسياسيين وأفراد النخبة ‏العراقية الخوض فيها، ألا وهي قضية دور الاحتلال في إطلاق شيطان التفتيت والاستقطاب الطائفي ‏بين الشيعة والسنة، بدءاً بتأسيس مجلس الحكم السيّء الصيت على أساس المحاصصة الطائفية ‏والعرقية، صعوداً إلى الاحتراب والقتل والقتل المضاد قبل تفجير المرقدين وبعده، وصولاً إلى ‏التراصف الراهن بين مجالس الصحوة والميليشيات الشيعية والكردية «البشمركة».‏
غير أن مقاربة المشكلة الخطيرة والحساسة بعيون مؤدلجة ومتحزبة، وعلى طريقة إدانة الطرف ‏المقابل وتبرئة الذات و«كل حزب بما لديهم فرحون»، لن تكون مفيدة أو صحيحة، هذا أولاً. ثانياً، ‏إن أيّ معالجة لظاهرة «توازن الرعب الطائفي» لا بد أن تجري بالتوازي مع معالجة مسألة الاحتلال، لكونها واحدة من إفرازاته، وأن هناك من يدافع عن الاحتلال ومن يستفيد منه ومن يحاول تكريسه ‏للحفاظ على مصالحه الفئوية الطائفية ممثلةً في حقيبة وزارية أو مصنع أو رصيد مصرفي سري». ‏
كما أن محاولة الدفاع عن جرائم طائفية ارتُكبت رداً على جرائم من النوع ذاته، أو القول مثلاً إن ‏الطائفة الشيعية العراقية ومرجعيتها الدينية ضبطتا نفسيها طويلاً، وتحملتا الكثير حتى أعلنتا «لن ‏نرد ولو قتلوا نصفنا» (كما صرح السيد السيستاني ذات مرة)، ثم فلت العيار كما يقال، وخرجت ‏الأمور عن السيطرة، إن هذا القول وهذه المحاولات التبريرية لن ينفعا في الخروج من الأزمة ‏الدموية العاصفة التي تأخذ بخناق الشعب، بل هي تجمّد وتعرقل أي مسعى للتصدي للتفتيت الطائفي ‏والاحتراب الناجم عنه وتوحيد القوى الشعبية بعيداً عن الأحزاب والقوى الطائفية الحليفة للاحتلال. ‏
وأخيراً فقد كان المنتظر والمتوقع أن يتبرأ التيار الصدري علناً وبشجاعة من القتلة والضالين ‏والمخترقين لصفوفه، وفي مقدمتهم السفاح إسماعيل حافظ «أبو درع»، ويقطع الصلة بهم عوضاً من ‏التخفيف عن جرائمهم ومحاولة تلميعهم واعتبارهم مجرد مضللين بحاجة إلى دروس في التوعية. ‏ولقد فعل التيار الصدري شيئاً كهذا في الماضي القريب، وتبرّأ فعلاً من عشرات الأسماء القيادية ‏والقاعدية في بادرة سرعان ما اتضح للأسف الشديد أنها قصيرة العمر والمدى والتأثير. فهل يقوى ‏على استعادتها.‏
‏* كاتب وصحافي عراقي