معتصم حمادة *أطلقت القيادة الإسرائيليّة كذبة قالت فيها إنّ عدوانها على قطاع غزة، وما رافقه من مجازر بشعة في صفوف المدنيين والأطفال منهم خاصة، إنما يأتي ردّاً على إطلاق الفلسطينيين للصورايخ على سديروت وغيرها من الأهداف الإسرائيلية خلف الخطّ الأخضر. وإذا كان طبيعياً أن تبحث إسرائيل لنفسها عن ذرائع تبرّر بها عدوانها الإجرامي، وتبدو من خلال ذلك كأنّها تمارس ما تسمّيه «الدفاع المشروع عن النفس»، فإن من غير الطبيعي أن ينزلق بعض الفلسطينيين، وفي موقع المسؤولية، لتبنّي الذرائع الإسرائيلية ويبدأوا بلوم المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة وتحميلها مسؤولية المحرقة التي أشعلتها إسرائيل في اللحم الحي لأطفال فلسطين ونسائها، فتنشب إلى جانب الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة والضفة الفلسطينية، حرب إعلامية، لكن فلسطينية ـ فلسطينية، يتراشق فيها المنزلقون إليها، بأبشع التهم، من التواطؤ مع العدوان، إلى توفير غطاء له، إلى توفير ذرائعه ومبرّراته، وهي كلّها مواقف تبيّن إلى أيّ مدى انحدرت بعضالقيادات الفلسطينية في التحلّل من المسؤولية الوطنية، وانجرفت وراء خصوماتها الفصائلية. فبدت الحالة الشعبية الفلسطينية، في ظلّ هذا المشهد المرير ضحية مرّتين: مرّة لمجزرة يرتكبها جيش الاحتلال بدم بارد، ومرة أخرى ضحية لحالة من الفوضى السياسية، تسبّبها حالة انقسامية امتدت منذ 14/6/2007، ولا يبدو في الأفق أننا مقبلون على وضع حدّ لها.
وتبيّن الوقائع، أن الانقسام أفقد الفلسطينيّين القدرة على رسم استراتيجية سياسية، يشتقّون منها تكتيكاتهم اليومية. فأخذوا يتخبّطون على غير هدى، كالتائهين في الصحراء، لا يملكون الدلائل والإشارات لتصويب مسيرتهم، يركضون خلف السراب.
بعضهم يركض خلف سراب المفاوضات العبثية المتولّدة عن مؤتمر أنابوليس وسراب الوعود الأميركية الفارغة والمفتقرة إلى الإرادة السياسية. وبعضهم الآخر يركض خلف سراب محاولة فرض وقائع ميدانية في قطاع غزّة، تفتح له الباب ليكون جزءاً من المعادلة السياسية في أيّ تسوية قادمة.
وعندما يفتقد الفلسطينيّون استراتيجية سياسية، فمن الطبيعي أن يفتقدوا استراتيجية للمقاومة، بمعناها القتالي، بكلّ ما يستدعيه ذلك من بنى وهياكل وآليات عمل وعلاقات يومية، وصيغة لاتخاذ القرار.
فالمقاومة ليست برنامجاً متكاملاً، بل هي جزء من برنامج لا تنفصل عنه في العمل لتحقيق أهدافه المنشودة. وعندما يغلّف الغموض هذا البرنامج، ويغلّف أهدافه، تبدأ المقاومة هي الأخرى بالتخبّط. فتصبح، والحال هكذا، قضية جانبية وجزئية كقضية الصواريخ، ومتى تطلق ومتى لا تطلق، هي القضية التي لا تعلو عليها ولا تتقدّمها قضية أخرى. وهذا أمر معيب بحقّ الشعب الفلسطيني وقضيّته وقيادته.
وخطورة ما يجري الآن في غزة، لا تقف عند حدود ما سوف يُلحقه العدوان من أضرار في الجسم الفلسطيني، من قتل وتدمير، بل تمتد لتطاول مستقبل المقاومة نفسها في القطاع (وكذلك في الضفة) لأن هناك من يحاول أن يقدّم المقاومة باعتبارها خسارة صافية، ينطلق في ذلك من حسابات مسطّحة، عبر المقارنة بين ما تلحقه المقاومة الفلسطينية من خسائر في الجسم الإسرائيلي، وما يلحقه العدوان الإسرائيلي في الجسم الفلسطيني، متجاهلاً أن المقاومة تتجاوز مسألة إطلاق النار لتطاول بناء مجتمع المقاومة نفسه، بكل ما تحمله هذه العبارة من معنى: برنامج بأهدافه الواضحة، بنية تحتية لتوفير الصمود، سلطة وطنية بالمعنى الحقيقي للكلمة، نظيفة، لا ينخرها الفساد، ولا تتربّع على رأسها شريحة غلّبت مصالحها الفئوية على حساب المصلحة الوطنية العليا، فبات كلّ شيء قابلاً لإعادة النظر فيه، ما دام ذلك يضمن لها مصالحها وبقاءها على قمّة هرم السلطة دون أن تدفع مقابل ذلك الضريبة الغالية التي يجب على أي حركة تحرّر وطني أن تدفعها.
وإذا كانت قيادة الرئيس أبو مازن تجاهر في موقفها ضدّ ظاهرة المقاومة وتدعو علناً إلى ما يسمّيه محمود عبّاس وقف عسكرة الانتفاضة، وتدفع باتجاه جمع سلاح عناصر «كتائب الأقصى»، وخاصّة المطاردين والمطلوبين لسلطات الاحتلال، فإن حركة «حماس» لم تثبت حتى الآن أنّها جادّة في مسألة توحيد المقاومة في غرفة عمليات موحَّدة، ذات مرجعية سياسية عليا تضمّ الفصائل المنخرطة في العمل المقاوم. ونعتقد أنّ استنكاف «حماس» عن هذه الخطوة (وخاصّة بعد سيطرتها على قطاع غزة) إنما مردّه إلى رغبتها في عدم تقييد نفسها بأطر ذات طابع وطني جامع، تضع حدّاً لسياسة التفرّد لدى قيادتها في غزّة، وخاصة أن «حماس» تعمل على الدوام على تقديم نفسها على أنها هي المقاومة وهي رمزها الفلسطيني، وهي المتحدث باسمها، وتعمل أيضاً على تقزيم أدوار الآخرين وتهميشها...
يبقى أن نشير إلى أنّ الصواريخ ليست هي سبب العدوان الإسرائيلي، وإلّا فكيف نفهم الاجتياحات الإسرائيلية لنابلس، وجنين، ومناطق أخرى في الضفة الفلسطينية التي لم تنطلق منها لا صواريخ ولا مجموعات فدائية ضدّ أهداف إسرائيلية. لكن تظهير هذه المسألة لا يحتاج إلى نشاط إعلامي ذكي فحسب، بل كذلك إلى سياسة متكاملة، لأن ما يجري في القطاع هو جزء من عملية صراع، تعرف إسرائيل ماذا تريد من هذه العملية، بينما يتخبّط الفلسطينيون في تحديد مواقفهم، وهذا ما يعزّز قدرة الجانب الإسرائيلي أكثر فأكثر على النجاة بجريمته.
* عضو المكتب السياسي للجبهة الديموقراطيّة لتحرير فلسطين