ياسين تملالي *تدافع الأحزاب والجمعيّات الدائرة في فلك السلطة دفاعاً شرساً عن تعديل الدستور بزعم «إصلاح النظام السياسي». والسؤال: هل طُبِّق الدستور يوماً؟ الجواب طبعاً لا، فدوس القوانين بالأقدام هو الهواية المفضَّلة للمسؤولين الجزائريّين، من رئيس الجمهوريّة إلى رئيس أصغر بلدية في القطر.
في صيف 2000، لم يرَ الرئيس عبد العزيز بو تفليقة حرجاً في الاستيلاء على بعض صلاحيات رئيس حكومته أحمد بن بيتور، فأصدر دون اسشارته أمراً رئاسياً يقضي بإعادة تنظيم القطاع الصناعي العمومي، بالرغم من أنّ المادّة 124 من الدستور تنصّ على واجب صياغة مثل هذه النصوص في مجلس الوزراء. وقد علم رئيس الحكومة بصدور هذا الأمر الرئاسي عن طريق الصحافة، مثله في ذلك مثل أي مواطن، ما دفعه إلى الاستقالة احتجاجاً على الإهانة.
وقبلها بشهور، في بداية 2000، ابتدع الرئيس لنفسه صلاحية جديدة بذريعة السعي إلى بسط السلم ونشر الطمأنينة. كيف له أن يقنع جيشَ الإنقاذ الإسلامي ورابطةَ الدعوة والجهاد بالتخلّي عن العمل المسلَّح والمادة 77 من الدستور لا تخوّله صلاحيةَ العفو في غير القضايا التي صدر فيها حكم قضائي نهائي؟ ما الحلّ؟ لم يؤرقه السؤال، وكانت إجابته عنه في منتهى البساطة: الحلّ في الاستحواذ على إحدى سلطات البرلمان بنصّ المادة 122 من الدستور، سلطة إصدار «العفو الشامل»، أي إلغاء المتابعات الجزائية من غير أدنى إجراء قضائي. وليس أدلّ من التسيير الجماعي للحكم في الجزائر، من مساهمة معظم الوزراء في تعديل الدستور المستمرّ عن طريق خرقه اليومي. وزير الطاقة، شكيب خليل، مثلاً لم يبالِ في سنة 2001 بالمادّة 17 التي تنصّ على أنّ «الملكيّة العامّة هي ملك المجموعة الوطنيّة» وأنّها «تشمل باطن الأرض، والمناجم، والمقالع، والموارد الطبيعية للطّاقة، والثّروات المعدنية الطبيعية والحيّة، في مختلف مناطق الأملاك الوطنية البحرية والمياه والغابات». وكان نتيجة حسّه الدستوري المرهَف مشروع قانون أعطى الشركات الأجنبية حقّ استغلال حقول النفط والغاز من دون شراكة مع المؤسّسة العمومية سوناطراك. وبالرغم من إلحاح النقابات على لا دستورية النص، فقد طُرح على البرلمان وصادقت عليه «الأغلبية الرئاسية» (لحسن الحظ، عدّله عبد العزيز بو تفليقة سنتين بعد ذلك بأمر رئاسي، ما ذكّر المعارضة ــــــ على ابتهاجها ــــــ بإسرافه في التشريع عن طريق الأوامر الرئاسية وتهميشه كلّ المؤسّسات بما فيها البرلمان الموالي له).
وعدا شكيب خليل، يسهم وزراء آخرون في تعديل الدستور اليومي بما يتطابق ومصالح السلطة الآنية. أحد هؤلاء الوزراء لم يتحرّج في التصريح لمريديه المأجورين خلال حملة «شرح ميثاق السلم والمصالحة الوطنية» في 2004: «لا يمكن الإدارة أن تبقى محايدة عندما يتعلّق الأمر بمصلحة البلاد العليا». ولم يبالِ هذا الوزير بأنّ المادة الـ22 من الدستور تنصّ على أن «القانون يضمن عدم تحيز الإدارة»، وأن لا ذكر فيها لشيء اسمه «مصلحة البلاد العليا»!
وتضمن المادة 41 من الدستور حقّ التعبير والاجتماع، فيما تحمي المادة 42 حق المواطنين في إنشاء جمعيات مدنية. وتُخرَق هاتان المادتان بانتظام مملّ من جانب وزير الداخلية، فالمسيرات والتجمّعات الشعبية محظورة في العاصمة بقرار من واليها صدر في 2001. أمّا في باقي المدن، فيرفض الولاة الترخيص للتجمّعات والتظاهرات بذريعة الحفاظ على النظام العام، ولا يسمحون بالتظاهر لغير المنادين بترشّح عبد بو تفليقة «لعهدة رئاسية ثالثة ورابعة وخامسة». كذلك الأمر بالنسبة إلى الجمعيات المدنية، لا يصرَّح بإنشائها إلا لأحباب النظام ومحابيه. أمّا خصومه، فيحرمون مجرّد الحصول على وصل يثبت تسلّم الإدارة ملف منظمتهم! هذا ما حدث لجمعية «مبادرة المقاومة الاجتماعية» المناوئة لسياسة تحرير الاقتصاد، إذ رفضت السلطات مجرّد تسجيل طلب الترخيص الذي تقدّمت به، وهذا ما يحدث لكلّ من تُشتمّ فيه رائحة أخرى غير رائحة الموالاة.
وتضمن المادّة 56 من الدستور «حق العمل النقابي». هل هذا الحق محميّ في الجزائر؟ طبعاً لا. «مجلس ثانويات الجزائر» نقابة أثبتت بجدارة تمثيليّتها الواسعة، ليس بخوضها إضرابات طويلة ناجحة فحسب، بل كذلك بإجبارها وزارة التربية على التفاوض معها. بالرغم من هذا، ترفض وزارة العمل الاعتراف بها ويُلاحَق قادتها أمام المحاكم بذريعة مخالفتهم القانون والنشاط من غير ترخيص. والحال نفسها بالنسبة إلى نقابات عديدة أخرى.
وتحمي المادّة 57 من الدستور حقّ الإضراب. غير أن ذلك لا يمنع الكثير من الوزراء من الضغط على القضاء لاستصدار أحكام عاجلة بعدم شرعية الاحتجاجات العمّاليّة، حتى ليخيَّل إلينا منذ سنوات أن نصّ هذه المادّة الحقيقي هو: «لا يسمح مطلقاً بالإضراب، ويجب على النقابات التفاوض مع الحكومة بشروط الحكومة»! وكانت آخر هذه الضغوط على النقابيّين قرار إحدى محاكم العاصمة، بناءً على شكوى من وزارة الصحّة، باعتبار إضراب الأطبّاء والممرّضين أواخر شباط 2008 غير مسند قانونياً والدعوة إلى إيقافه الفوري. وتنصّ المادّة 35 من الدستور على أنّ الدولة تقمع كل «المخالفات المرتكبة ضد الحقوق والحرّيات وكلّ ما يمسّ سلامة الإنسان البدنيّة والمعنويّة». وبما أن الدولة تتماهى مع هؤلاء المسؤولين المختصّين في خرق القوانين، فلا أمل أن تطبَّق هذه المادة يوماً على
أحدهم.
هذه حال الجزائر قبل تعديل دستورها. ترى كيف ستكون حالها بعده؟.
* صحافي جزائري