هيفاء زنكنة *أصغيت منذ أيّام في جامعة لندن إلى لبنى سمارة من «منظّمة راصد الإعلام العربي»، متحدّثة في أمسية نظّمتها مجموعة نسوية عراقية تُدعى «تضامن من أجل عراق حرّ وموحَّد». وكان عنوان الأمسية «الكارثة الصحيّة والبيئيّة في العراق المحتلّ». قدّمت لبنى في حديثها حقائق موثّقة عن استخدام إسرائيل للأسلحة الكيميائيّة والمشعّة: الفوسفور الأبيض، واليورانيوم المنضَّب، والقنابل العنقودية المعبّأة أحياناً باليورانيوم المنضَّب والمتميّزة ببقاء نسبة عالية منها على الأرض، إلى أن يلمسها طفل يظنّها لعبة، أو فلّاح يحرث أرضه، فتنفجر. تحدّثت بعدها مديرة منظّمة «ميد ـ آكت» الإنسانية التي تُعنى بالصحة والبيئة، والتي أصدرت في الشهر الماضي تقريراً بعنوان «الصحة في العراق 2003 ـ 2007»، عن تدهور الوضع الصحّي تحت الاحتلال، ثمّ عُرض فيلم عن الآثار الكارثيّة لاستخدام الغزاة الأسلحة الإشعاعيّة، خاصة اليورانيوم المنضَّب، ضدّ المواطنين العراقيّين.
شعرت وأنا أقارن بين ممارسات إسرائيل في فلسطين ولبنان وممارسة أميركا في العراق منذ عام 1991 وحتى اليوم، بأنّ الحالة واحدة، وكأنّ هناك صفحة إرشادات مستنسَخة وموزَّعة على العسكريّين المحترفين/ البرابرة لتطبيقها حرفياً. فمن القصف الجوي المكثف، وكان آخره رمي زنة 40 طناً من القنابل خلال عشر دقائق فقط على منطقة سكنية في حي عرب جبور، قرب بغداد، في شهر كانون الثاني (يناير) من العام الجاري، إلى استخدام 320 طناً مناليورانيوم المنضَّب في عام 1991، و2000 طن في عام 2003، إلى القنابل العنقودية والفوسفور الأبيض والـ«أم كي 77» أو الجيل الجديد المطوّر من النابالم، إلى حرق الأشجار والبساتين في ديالى والمحمودية والحبانية، إلى استخدام أسلحة أخرى، لم يتمّ الكشف عنها، لتجربتها لأوّل مرّة في العراق، وعلى أبنائنا، لمعرفة مدى صلاحيّتها وتسويقها مستقبلاً. فكم يتشابه سلوك البرابرة أينما حلّوا! لقد أرادت ناشطات الجمعية النسائية العراقية البحث عن حلول للكارثة البيئية والصحية، وأن يوثّقن معنى أن همجية المحتلّ واحدة مهما اختلفت أرديته، وأنّ الكيان الصهيوني هو صنو المحتلّ الأميركي، وأسلحة الإبادة الجماعية التي يستخدمها الاثنان واحدة في بلادنا وفي بلدان أخرى، مثل كوسوفو وأفغانستان، وأنّ تفتيت القضية لن يفيد أيّاً من الشعوب.
ولأنّنا نعلم أنّ البرابرة لا يستطيعون دخول بلد مهما كان، ما لم يساعدهم ضعفاء النفوس من أهل البلد ذاته، يبدو من الطبيعي أن يتعاون الاثنان على تغطية آثار جرائمهما. ولعلّ العراق هو الأوضح بين الأمثلة، حيث لم تكف منظومة الاحتلال الانغلو ـ أميركي عن إنكار الأضرار الناتجة من الأسلحة ذات الإشعاع، والتي رميت بالأطنان، على الرغم من مثابرة عدد من علمائنا وباحثينا الوطنيّين المخلصين، على مدى عقود، على التنبيه إلى ضرورة تحديد أماكن التلوث الإشعاعي وكميته، وإيجاد السبل للتوعية من مخاطره، والعمل على إجبار الدول المسؤولة على تنظيفه وإزالته، وعلى الرغم من الحملة العالمية المساندة لجهود الشعب العراقي.
من بين الباحثين المذكورين د. كاظم المقدادي، رئيس قسم إدارة البيئة بالأكاديمية العربية في الدنمارك، الذي لم يكفّ، منذ سنوات، عن الكتابة بلا كلل للتوعية من حجم الكارثة وطرح الأسئلة على غرار: من له مصلحة بالتستر على التلوّث الإشعاعي الذي يهلك الآلاف سنوياً، ويتسبّب بولادات مشوّهة وأمراض سرطانية متزايدة؟ متى يتمّ تنظيف العراق من التلوّث الإشعاعي؟ وهل سيتمّ تنظيفه؟ وبقيت أسئلته بلا جواب. بل، حسبما يذكر في بحث له نشر في نهاية العام الماضي، نشر في مجلة «البيئة والتنمية»، لقد ازداد الوضع الآن تعقيداً وسوءاً. وهو يقرّ بأنّ البنتاغون وحلفاءه، وفي مقدّمتهم وزارة الدفاع البريطانية، يتستّرون على الحقائق، ويلفّقون، مع سبق الإصرار، «الأدلّة» و»البراهين» النافية للأضرار البيئية والصحية الناجمة عن استخدام ذخائر اليورانيوم المنضَّب، لسبب واضح هو التنصّل من مسؤولية استخدام سلاح مشعّ وما قد يترتّب على ذلك من نتائج وتداعيات، من بينها تكلفة التنظيف الباهظة الثمن. ويشير المقدادي إلى مسؤولية حكومة الاحتلال استناداً إلى أنّه «إذا كان تصرّف البنتاغون هذا عاديّاً، فليس عادياً وغير مبرّر إطلاقاً، بل غريباً ومستهجناً، أن تتّخذ حكومة الدولة الضحية لأسلحة اليورانيوم المشعّ، مواقف مماثلة لمواقف البنتاغون، أو متوافقة معها، متغاضية عن نتائج الجريمة، متستّرة على كوارث وفواجع ما سبّبته لشعبها، وهي متواصلة، مانعة الكشف عن معالمها».
وكانت نرمين عثمان، وزيرة البيئة في حكومة العراق الموالية للاحتلال، قد صرّحت في تموز 2007، بأنّ «هناك 350 موقعاً ملوَّثاً بالإشعاع نتيجة استخدام أميركا وبريطانيا اليورانيوم المنضَّب. والنتيجة 140 ألف حالة سرطان مع زيادة 8000 حالة سنوياً». وهي المرّة الأولى التي يذكر فيها وزير في حكومة الاحتلال مسؤولية أميركا وبريطانيا المباشرة في ازدياد حالات الإصابة المخيفة بالسرطان. وكان الأميركيّون والبريطانيون قد اعترفوا باستخدامهم حوالى 13 ألف قنبلة عنقودية، وبأن هناك في بغداد وحدها 800 موقع، فيها قنابل غير منفجرة تجب إزالتها.
ويذكّرنا المقدادي بدراسة صدرت في أوائل أيار (مايو) 2007، أجراها باحثون من كلية الطب في جامعة البصرة بالتعاون مع باحثين في وزارة الصحة، وعنوانها «زيادة حالات السرطان نتيجة لمخلّفات الحرب»، جاء فيها أنّ أمراض السرطان تُعَدّ الآن أحد أهم الأسباب لمعدّلات الوفاة العالية في المحافظات الجنوبية. وأفاد خبير صحّي من معدّي الدراسة بأن 45 في المئة على الأقل من الوفيات في المحافظات الجنوبية سببها السرطان. وأشارت الدراسة إلى تسجيل عدد كبير من الوفيات المرتبطة بهذا الداء بين النساء والأطفال في محافظتي البصرة وميسان، حيث ارتفعت معدّلات سرطان الدم بين الأطفال بشكل كبير، لتزيد عن 22 في المئة، كما أصيب عدد كبير من النساء بسرطان الثدي، بزيادة تصل إلى 19 في المئة، مقارنة بعام 2005.
كما يولد يومياً 3 أطفال كحد أدنى، في مستشفيات المحافظات الجنوبية، دون أطراف أو أعضاء. ونسب الخبراء الظاهرة لسنين الحرب. وثمة حالات لأطفال ظهرت عليهم أعراض الأمراض السرطانية بعد أربعة أسابيع فقط من ولادتهم. ومثل هذه الحالات لم تكن معروفة سابقاً. وكما هو معروف، هناك مستشفى واحد في عموم البلد هو مستشفى الإشعاع والطب النووي متخصّص بعلاج الأورام الخبيثة وتشخيص بعض حالات الأورام. والمستشفى في حالة سيئة، من قلّة الكادر إلى قلّة الأدوية والمعدّات، إلى صعوبة استيعاب الأعداد الكبيرة من المصابين، ما يتطلّب نقل المريض المصاب بالسرطان إلى الخارج للعلاج، وهو أمر شبه مستحيل لمعظم المواطنين.
وعلى مدى سنوات الغزو، بقيت الدبّابات المحترقة، مصدر الإشعاع، متروكة في البصرة وغيرها من المدن، يلعب عليها الأطفال ويستنشق الجميع الدقائق المتطايرة كالغبار، ولم يحاول المسؤولون رفع هذه الأنقاض الخطرة.
وقد طُرحت في الندوة بعض الحلول التي ستساعد على التخفيف من وجود دقائق اليورانيوم، استناداً إلى تقرير الأمم المتحدة المنشور عام 2003، والذي أثبت وجود الإشعاع في كوسوفو بعد مرور 7 سنوات على استخدامه. إذ أوصى التقرير بتغطية المناطق المشعّة بالإسفلت ورفع الطبقة العليا من التربة واستبدالها بغيرها. وكان الاقتراح المطروح هو رشّ النفط الخام الثقيل على المناطق المشعّة وكشطها في ما بعد. وقد أكّد عدد من خبراء النفط العراقيّين جواز استخدام الطريقة، مع تذكيرهم بأنها طريقة للتخفيف من الكارثة ومن انتشار دقائق اليورانيوم المتطايرة من الجنوب إلى الشمال مع هبوب الريح، وليست حلّاًَ جذرياً. ويأتي طرح الحلّ كأسلوب لتشجيع المبادرة، وللتأكيد أنّ إمكانيات الحلول موجودة ومتوافرة إذا ما كانت النية موجودة. ويبقى مسار الحل الجذري مرتبطاً بإنهاء الاحتلال الذي جلب إلينا الخراب والدمار والموت البطيء على مدى أجيال مقبلة، كما فعل في فيتنام عندما رشّ الغابات والحقول والأراضي الزراعية بالسموم والمبيدات التي لا يزال أطفال فيتنام يولدون مشوهين من جرائها.
كم يتشابه سلوك الغزاة البرابرة أينما حلوا! قتلاً وتخريباً وتعطشاً للهيمنة. يريدون أن يسلبوا حياة الناس في البلدان المحتلة ويمتصوا نسغها. ولا يكتفون بذلك بل ينتقلون من خراب الإنسان إلى اجتثاث الأشجار، إلى تسميم الهواء والماء. إنهم يقتلون المرأة والرجل لأنهما قادران على إنتاج الحياة، ويقتلون الطفل لأنه المستقبل. كم يتشابهون في بربريتهم في بلادنا: في فلسطين ولبنان والعراق! وكم هو صعب، وضروري في آن، أن نحافظ على إنسانيتنا، نحن الضحايا، في مواجهة بربرية الديموقراطية، وأن نستمرّ في معالجة المتطلّبات الإنسانيّة، قدر الإمكان، في الوقت نفسه الذي ندعم فيه قوى الرفض والمقاومة المسلّحة للاحتلال.
* كاتبة عراقيّة