نسيم ضاهر *تكتسب بعض الأمكنة رمزيّة خاصّة في جغرافيا الصراع، وتكاد لا تغيب أسماؤها عن واجهة الأحداث في مراحل معيّنة. فمنذ انسحاب إسرائيل، الشامل نظرياً، من قطاع غزة، وإخلاء جميع المستوطنات القائمة قبل ذاك في القطاع، الفعلي عمليّاً، أخذ اسم بلدة سديروت المحاذية للشريط الحدودي، يتردّد منذ عملية خطف الجندي جلعاد شاليط، الى أن باتَ يتصدّر الصحف ونشرات الأخبار بعد سيطرة الحركة على غزة وانفرادها بدفّة الإدارة والتوجيه.
تعود أصول سكّان سديروت إلى المغرب، وهم في غالبهم من طائفة السفرديم الذين ما زالوا على عاداتهم وملبسهم وروابطهم وطقوسهم المُميَّزة، وهي شديدة الطابع الشرقي. ومن حيث موقعها، لا تحظى سديروت بالموارد والامتياز، بل تتثاءب في الحديقة الخلفية للدولة العبرية معلَّقةً خارج الزمان تلفحها الشمس. قِسمة الفقير المُبعَد والمنسي الى حدّ. ولأن سديروت محطّ صواريخ القسّام المفترض غدت صاحبة شهرة وسيرة ومنطلق حملات تأديبيّة انتقامية شرسة طاولت القطاع برمّته، وملأت صفحات اليوميّات بسجلّ الضحايا الفلسطينيّين.
فرغم إحجام «حماس»، لفترة، عن معاودة إطلاق الصواريخ، سقطت الهدنة غير المعلنة، وانضمت كتائِب القسَّام إلى «الجهاد الإسلامي» في لعبة الموت القاتلة، ولم يعد من حاجة إلى الأقنعة لإصدار بيانات المسؤولية عن القصف باسم المقاومة الشعبية وألوية الناصر صلاح الدين وسواها.
بانت سديروت حديثاً على خريطة الصراع، ولم تُعرف لها، إسرائيلياً حمية سابقة في دورة الاقتصاد وصناعة النخبة، إنما صنِّفت مثالاً على إهمال الوافدين من الرثّة ذات المنشأ الريفي الخالص من أهل الشتات. فللأمس القريب، دأب قاطنو سديروت على مطالبة السلطات بإنصافهم والالتفات إلى معدّل بطالتهم ومستوى معيشتهم المتواضع قياساً بالمعدلات الإسرائيلية، وافتقار البلدة إلى التجهيز ومُقوِّمات الإبقاء على الأجيال الشابّة، وتوفير الحياة الكريمة لهم. على هذا المعنى، يمكن القول إنّ الطرف الحمساوي أوجد لسديروت مكاناً في الجغرافيا ومنزلاً في الذاكرة، وإلّا لاستمرت خجولة من تواضعها، غارقة في سباتها، مهتمّة ببعث هويتها، وبيان أصالتها الثقافية المختلفة، الأقرب إلى الأندلس منها إلى مدار الغرب والاشكيناز.
ثمّة معالم تراجيدية تخترق التاريخ في لحظات مفصلية، لا يهيّء لها سبب جوهري مقنع، بل يقود إليها منطلق الأحداث في وجهه القدري ومفارقاته. لكن حكم التاريخ ذاته أنّ المصادفة تُضْحي جزءاً من كتابه، وتمدّه بقسط من موادّه وفقّاعاته. وكأنما دفتر آلام فلسطين يعوزه مزيد شهادات، استحكمت العبثية بموقف من خارج الزمن، منتجه الوحيد دم ودمار، قياسه رقمي عجيب يقارب بين أعداد الضحايا من جهة والصواريخ الساقطة عشوائياً من جهة أخرى، ويقارب البشر بالحجر. المُخيف والمخجل، استواء فريقي الحساب والاحتساب على فكر سحري، منغلق على ذاته، وقبولهما المتبادل بهذه المعادلة الغريبة غلافاً لمنازلة لا هدف محدَّد لها إلا كيل الضربات.
تتوسّل «حماس» جهاداً فرض عين، يمزج في واقع الأمر، الغيبية الدينية والممارسة التاريخية المؤسطرة. بذلك تختلف معايير أحكامها وتقويمها للأفعال، عن معهود حركات التحرّر الوطني، وتفاجئ لناحية القدرة على امتصاص الضربات والتعويض التصويري عن الخسائر البشرية المؤلمة، وتأبيد أساليب قتاليّة بالغة المردود السلبي، في كنف منظومة تحتفل بالشهادة وتبارك لصاحبها علامة على فوزه بالآخرة أعلى جائزة، فيما تسبغ، من قداسة القضية، القدسية على السلاح.
تدرك الحركة الوضع المأساوي الذي يلفّ القطاع في عهدتها، تماماً كما تتوقّع ضراوة البطش الإسرائيلي فيما تعتبره المؤسّسة العسكرية الإسرائيلية متّصلاً بهيبتها ومندرجاً وفق مفهومها للأمن وراء الخطّ الأخضر، لكن «حماس» تواجه معضلة دائمة وكأْداء في المواءمة بين المراجعة الميدانيّة والموانع العقيدية، وتضيق على إدارتها للشأن العام، وقد انفردت به، بقيود من صنع حرّاس الهيكل وترتيبات الجناح العسكري.
تستهدف دفعات صواريخ القسّام بلدة سديروت في المعظم (عسقلان في صورة متفرّقة) إلى بعض العمليات على المعابر، ولا تتعدّى حصيلتها بضع إصابات في كلّ جولة، وبعض الأضرار المادية في منشآت مدنية. في المقابل، تختلف اللوحة جذرياً، وتطارد إسرائيل المجموعات وعناصر الأجهزة حيثما شاءت وتلحق الدمار الواسع في ما يشبه التصفية المنهجية للنشطاء. يطرح عدم التكافؤ هذا، الفظيع في نصابه وميزان ضحاياه، أسئلة صادمة ومُلحَّة وجيهة، حيال نمط الاشتباكات، وتكرار المكرّر المؤذي والغاية المتوخّاة من الذهاب بعيداً في التضحيات البشرية، والتقاطع مع الذرائعية الإسرائيلية عن غير قصد، إنفاذاً لهندسات يعرف قادة «حماس» أنّ لها حدوداً وسقفاً زمنياً لا بدّ من بلوغه، والعودة إلى إرساء لون من الهدنة المتبادلة والتفاهمات.
ولا يكفي القول، في هذا الصدد، إنّ أفعال إسرائيل الدمويّة جزء من مسلسل قدري لا حول للقيادة الفلسطينية به، وإنّ مسرح العمليات الغزّاوي قائم بكفاية ذاتية أيّاً تكن السياسات، حيث تبغي إسرائيل إعادة احتلال القطاع ويغريها القيام بذلك تكراراً حتى إفراغ القطاع.
قزَّمَتَ سديروت الكفاح الفلسطيني وألبست الاشتباكات حولها النزاع حلّة الثأري الجانبي، وكأنما هذه البلدة مفتاح الانهيار الإسرائيلي الشامل، وبوّابة العبور الى تحقيق الحلم الفلسطيني الكامل.
الحقيقة أن ثمة خطأً فادحاً يُسجّل على «حماس» في اختيارها لهدف ثانوي مدني الطابع، وجعله حلقة مركزية ونقطة عقدية، ما ينمّ عن ضُعف مخيّلة، ويشي بانتفاء سائر الوسائل، وبالتالي تقليص الخيارات الحمساوية إلى رقعة ضيّقة أشبه بحصّة الفقير. فحين يقارن مضمون خطاب «حماس» قبل «تحرير» القطاع من الفساد والانهزاميّة، بما وفَّرهُ إخراج السلطة من مساحة حراك وحرية تصرّف، يتبيّن مدى ضمور العمل الفلسطيني الواعي، وانعطاف القطاع برمّته نحو الهلاك المعنوي والعوز الشديد، وقفز قيادته الجديدة فوق المعطيات والوقائع، وإمعانها في فصل صراعي عبثي حرم القطاع الراحة وأوقع أهله في دوّامة العنف.
إنّ إدارة القطاع على نحو الوقفيّة، وإيكال أمر النذور وظيفة دائمة لأبنائه، لقاء مشاغلة إسرائيل في الأطراف، ورؤية الغبار يتصاعد من حول سديروت، كمثل حياكة حبال من رمال. ومن الفاضح أن تقديم عشرات القرابين الفلسطينية، ومئات المصابين لن يفلح في تخصيب حفنة من التراب أو تحريره، إذ إنّ تلك المهمّة ليست ملحوظة أصلاً في جدول العمليات، والغاية القصوى إرباك المفاوضات الجارية أو المفترضة بين السلطة الوطنية وإسرائيل، برعاية دولية، على خلفية بيان المظلومية الفلسطينية والامتياز في الشعور بها والتعبير عنها، بما فاتَ الأجيال الفلسطينية المتعاقبة، عُدَّ اكتشافاً حمساوياً وجهادياً
محضاً.
على غرار الجولات السابقة، سوف تثمر بواعِث الحكمة، المؤيَّدة بحجم الأكلاف وهول النتائج، وتنجب تسوية موضعية مؤقَّتة تقضي بالهدنة ولملمة الوضع مرحليّاً. ويمكن استشعار بوادر هذه النقلة المتواضعة من خلال المتداوَل بين أسطر الديباجات النضالية والبيانات. ولكم تبدو الخلاصات المرجوّة (والأهداف المحقَّقة) على مسافة فاصلة من الطموحات والمبادئ المُعلَنة، تقلب آية المبتدأ لتصل إلى حماية محدودة ودفع للضرر.
هكذا لا تعود صواريخ القسّام تنهمر على سديروت مقابل إيقاف العدوان الإسرائيلي، ويصبح تزويد غزَّة بالكهرباء والمحروقات، وربما المواد الغذائية والطبية، جلَّ انتظارات أهلها، ومقياس انتصارات قادتها.
* كاتب لبناني