سلام الكواكبي *
إن كنّا قد عرفنا أشخاصاً يتمتّعون بقدر عالٍ من الحنكة والإلمام بأمور العالم عموماً، وبأمور البلاد العربية ومنطقة الشرق الأوسط خصوصاً، فقد كان هذا عهدنا كملاحظين بالقائمين على الدبلوماسيّة الفرنسية خلال عقود، التي تدخل الآن في مرحلة الغياب حتى إشعار آخر. ولا تتبع هذه الملاحظة المستجدّة شعوراً عمومياً بضرورة أن تكون دبلوماسية أي دولة في العالم تناصر «قضايانا العادلة» بل على العكس، فإن العقل العلمي يفرض الاعتراف لكل عمل دبلوماسي، ولأي دولة كانت، بواجب الدفاع أوّلاً و أخيراً عن مصالح بلده، لا عن مصالح نظامه أو من يشخصن هذا النظام بذاته كما هي حال مجمل البلاد العربية. فلقد عرفت فرنسا الحديثة أسماءً لامعة في حقل العمل الدبلوماسي، تركت بصمات واضحة في تمييز الدور الفرنسي وإعطائه أبعاده الذاتية بعيداً عن الفلك اللصيق بالسياسة الأميركية، على الرغم من إمكان تلاقيهما في بعض الملفّات من خلال التحالف الموضوعي القائم بين الدول الغربية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
وكان الأكثر تميّزاً في عملية إعطاء البعد الخاص للسياسات الخارجية الفرنسية، هو الجنرال شارل ديغول الذي رسّخ خلال عهده، تقليداً قديماً يمنح رئاسة الجمهورية الدور الأساس في رسم وتخطيط السياسات الخارجية بتعاون وثيق مع الوزارة نفسها، لا في تضادّ معها. ومن خلال هذه العقلية، قامت الوزارة بإعداد كوادرها التقنية خلال عشرات السنوات مستندةً إلى إرث عريق يمتدّ قروناً، وأصبح لها «إشعاع» على مستوى المفاوضات السياسية، لكن أيضاً في ما يخصّ العلاقات الاقتصادية والثقافية الخارجية لفرنسا.
فلا أحد ينسى كلود شيسون وهوبير فيدرين الاشتراكيَّين. وفي عهد اليمين، عرفت الخارجية الفرنسية مواقف متّزنة وحازمة لهيرفيه دو شاريت، وساءت من دون أن تسقط مع دوست بلازي... لكنّ مجيء نيكولا ساركوزي و«انفتاحه» الموهوم تجاه التيارات الأخرى، أتيا بحامل أكياس الأرز في الصومال، الطبيب الإنسانوي «اليساري» ذي الصداقات العابرة للقارات، وذي الإطلالة الإعلامية المتكرّرة والمتحمّسة، برنار كوشنير. وهذا الاشتراكي المتيمنن، سعى طوال عمره السياسي إلى البروز والحصول على دور ما في مكان ما عزّ عليه حتى في زمن زملائه الاشتراكيين. وكان ساركوزي قد طلب بداية من هوبير فيدرين تولّي هذه الحقيبة، لكنّ حنكة الأخير ومعرفته بعوائقها الرئاسية، وخصوصاً مع وجود نابوليون ـ أوّل أو ثالث ـ في قصر الإليزيه، دفعته إلى النأي بنفسه عن هذه «الورطة»، ليتابع إنتاجه الفكري والتحليلي اللامع.
كوشنير إذاً، يشغل منصباً يخوّله الظهور في الإعلام بكثافة، كرئيسه، وبالتصريح أيضاً دون التقرير أو حتى المشاركة في اتخاذ القرار ولا حتى في تقديم المشورة. والأنكى من ذلك كلّه أن الطبيب الإعلامي حامل أكياس الأرز ـ نسبة إلى ما دعا إليه لمساندة الصومال أيام مجاعتها ـ يتدحرج في الطحين كما يحلو للمثل الفرنسي أن يقول، كلما أدلى بتصريح. فمستشارا ساركوزي المقرّبان، ليفيت وغيان، هما من يقرّر كلّ شاردة وواردة في ما يخصّ مجمل الملفّات الخارجية، ودور كوشنير الذي يؤدّيه على مضض ومن دون احترافية، هو جعل وزارته ضمانةً لمثل تلك التوجهات رغماً عن أنف أعمدتها وخبراتها غير المشكوك في مقدرتها على فهم وتحليل المسارات الدولية بمختلف أطيافها.
وهنا تبرز علامة فارقة لأصحاب الإيديولوجيات القابلة للتحوّل والتبدّل، التي يتشارك فيها أفراد نخبويّون من شمال المتوسّط وجنوبه، وهي تتمثّل بأنّ صاحب المنصب الجديد الذي بُشّر بالجنة السياسية بعدما هُمّش لسنوات، ينحو لممارسة التملّق السياسي والفكري «لأسياده» الذين ليسوا بالضرورة طالبين لهذا التصرّف، والذين ليسوا بالضرورة المسؤولين المباشرين عنه. وربما استطال تملّق هذا النوع من الساسة إلى ما بعد المحيط، ليجد تبريرات سطحية وهلامية لسياسات المحافظين الأميركيّين الجدد أو لكوندوليزا رايس، الحبيبة الجديدة لجزء من يسار متيمنن في بلادنا العربية.
وفي هذا الإطار، فإنّ «صاحبنا» ينفّذ حرفيّاً توجّهاً رئاسياً بطلب الغفران الأميركي عمّا اقترفته لعشرات السنين دبلوماسية ميّزت نفسها عن الخضوع وعن اللحاق وعن التبرير للسياسة الخارجية الأميركية الخرقاء والمتعجرفة، باعتراف أهم الباحثين الأميركيين في العلاقات الدولية.
ومؤخّراً، أهان أحد الصحافيين المقرّبين من الرئيس، وهو جان بيار القباش، الوزير كوشنير في مقابلة متلفزة حينما سأله عن الحوار مع سوريا بعد لقاء له مع وليد المعلم في اسطنبول، فأجاب كوشنير أن لا حوار بعد الآن مع سوريا إن هي لم تلتزم كذا وكذا... فرفع القباش ورقة صغيرة ليقول حرفياً وعلى الهواء مباشرة: لكنني حصلت الآن على معلومة مؤكّدة وهي أن الرئيس السوري يستقبل هذه اللحظة في مكتبه السيدان ليفيت وغيان، فما قولك في هذا، هل كنت تدري؟ فامتعض الوزير الشبح وقال متلعثماً، بالطبع أدري، وربما كانت هناك دبلوماسية موازية! ويعدّ هذا الحادث مثالاً عن تكرار شبه يومي للتعارض الشديد بينه وبين الإليزيه دون أن يدفع به هذا الأمر إلى الاستقالة، لكنه انفجر في مقالة بالانكليزية ضدّ مستشاري الرئيس متهماً إياهم بعدم الخبرة، وهو صاحب الخبرة الأكبر في حمل أكياس الأرز للظهور على التلفزيون، وفي توظيف زوجته الصحافية المتوسّطة المستوى، كريستين أوكرنت، مديرةً عامّة لمؤسّسة ساركوزي الإعلامية الجديدة والفاشلة قبل أن تبدأ: «فرنسا العالم».
إنّ غياب السياسة الفرنسية التقليدية في العالم، وخصوصاً في الشرق الوسط، لن يؤدي فقط إلى أن تعبر باريس حقبة بليرية متمسّحة بأجواخ البيت الأبيض، لكنه سيؤدي أيضاً إلى انعدام الثقة بحيادية نسبية ميّزتها لسنوات، وإلى فقدانها تأثيراً ثقافياً هو في انحسار مستمرّ.
فمن كان يتصوّر، حتى على المستوى الشكلي، أن تلتزم الدبلوماسية الفرنسية صمتاً مخجلاً شبه متآمر مع ما يحصل في غزة؟ ومن كان يتصوّر أن تخفي الدبلوماسية الفرنسية رأسها في الرمال حينما تجهض «معلّمتها» الأميركية كلّ المبادرات على الساحة اللبنانية، وخصوصاً المبادرة العربية التي صرّح دايفيد ساترفيلد بوضوح بأنها غير موجودة؟ ومن كان يتوقّع أن تكون الدبلوماسية الفرنسية في يوم من الأيام «تابعة» للإملاء الأميركي، ليس على مستوى المنطقة العربية فحسب بل وأيضاً في إيران، التي هدّدها كوشنير نفسه بالحرب، وما لبث أن اتهم الصحافة بعدم فهم ما كان يقصد.
إن الدول العربية الدائرة في الفلك الأميركي لم تعد تعلّق أي اهتمام على حوار من أي نوع مع فرنسا، اللهم إلا بإعطائها بعض فتات المائدة العسكرية التي يتركها الأميركيون بعد شعورهم بالتخمة. أما الدول الأخرى الباحثة عن فلك تدور في فضائه أو الممانعة رغبةً في فلك مناسب، فهي ستحيد عن المحطّة الفرنسية لأنها عرفت، وبدعم فرنسي، أنّ القرار الأوّل والأخير يظلّ في واشنطن، ومن الأفضل لها إذاً التفاوض مع «المعلّم» عوضاً عن إضاعة الوقت بالحديث مع «الهامشيّين».
لربما عادت الدبلوماسية الفرنسية إلى رشدها وإلى الاعتماد على تاريخها وعمق خبرتها في المنطقة العربية، وعملت على استعادة دورها السابق الذي كان يعطيها تمايزاً إيجابياً. لكن قد يكون الوقت متأخّراً وينتقل برنار كوشنير من حامل أكياس الأرز إلى مصفّق للمدمّرات، التي ستدمّر في طريقها إلى سواحل الشرق إرث بلده في المنطقة.
* باحث سوري