أمين محمد حطيط *منذ توقّف الأعمال العسكرية عام 2006 بموجب القرار 1701، تجهد إسرائيل لمعالجة الثُّغر الأمنية والعسكرية الخطرة التي كشفتها أو فضحتها حربها تلك على لبنان ومقاومته، ثمّ أكّدتها لجنة فينوغراد. ثُغر تتمثّل أساساً بنقطنين اثنتين هما الأخطر في ما كُشف: الأولى عدم جهوزية الجيش الإسرائيلي للنمط الذي فُرِض عليه من المواجهة مع تنظيمات شبه عسكرية، والثانية عدم جهوزيّة الجبهة الداخلية لتحمُّل مخاطر حرب تتخطّى المعتاد منذ أن نشأت إسرائيل. وقد انصرفت الدولة المغتصِبة لفلسطين منذ أن توقّفت الأعمال العسكرية إلى معالجة هاتين الثغرتين الجسيمتين، تمهيداً للدخول في حرب جديدة أو استئناف الحرب المتوقفة أعمالها بانتظار استعادة إسرائيل جهوزية المنازلة.
وقد تبجّحت إسرائيل في الفترة الأخيرة بنجاحها في معالجة وضع الجبهة الداخلية، بعدما نقلت المسؤوليّة عنها إلى وزراة الدفاع (كانت بيد الداخلية) وفعّلت الأجهزة المختصّة بالأمن والدفاع المدني والحماية المباشرة من أمن فردي وعام، وبدأت تتحضّر بعد مناورات جزئية، لأكبر مناورة مركَّبة للجبهة الداخلية أعلنت عنها، وقرّرت تنفيذها في نيسان المقبل. ثمّ، وبنتيجة اتهام حزب الله لإسرائيل باغتيال الشهيد عماد مغنية، رفعت إسرائيل جهوزيتها الأمنية في الداخل والخارج إلى المستوى الأقصى غير المسبوق ـ كما ذكر إعلامها ـ في تاريخها. تدابير بلغت حدّ تأمين الحراسات الفردية وتشديد التدابير الأمنية في كل نقطة أو مكان يمكن تصوّره هدفاً من جانب حزب الله في عملية الردّ المحتومة.
في ظلّ هذا الواقع، تأتي عملية «مركاز هراف» في القدس. ينفّذها فلسطيني واحد في العقد الثالث من العمر، فيصيب بنار بندقيّته 43 إسرائيلياً وأميركياً، يوقعهم بين قتيل وجريح. عملية جريئة صاخبة ناجحة بكلّ معايير النجاح العسكري، تطرح الأسئلة الكبرى عن دلالاتها ومفاعيلها.
فمن حيث الدلالات، نرى أنّ هذه العملية تجاوزت بدون شكّ، الكثير ممّا اعتادته المقاومة في فلسطين من أعمال المواجهة والمقارعة مع العدو، سواء في ذلك العمل العسكري المباشر ضدّ وحدات الجيش لدى تنفيذها لمهماتها، أو في عملياتها التي أصابت أهدافاً شبه عسكرية أو ذات تأثير في الواقع العسكري والأمني في إسرائيل. ونسجّل هنا من الدلالات ما يأتي:
المكان
إنّ تنفيذ العملية في القدس، بعدما أعلنت إسرائيل، ومن طرف واحد، توحيدها واتخاذها عاصمة «أبديّة» لها، يعني وبكلّ بساطة، أنّ الرفض الفلسطيني (وخلفه العربي والإسلامي) لهذا القرار، لن يكون لفظياً بل إنّ القدس بجزءيها، كما فلسطين، هي أرض محتلّة، وأنّ العمل العسكري لتحريرها لم يسقط من بال أحد. وإذا كانت إسرائيل تستطيع أن تفاخر بقدرتها الأمنية والموسادية، للوصول إلى عواصم العرب وتنفيذ عمليات القتل ـ كما فعلت في بيروت سابقاً وفي دمشق مؤخراً ـ فإنّ العاصمة التي اتخذتها لكيانها المغتصَب، لم تعد آمنة وليست بمنأى عن اليد المقاوِمة التي عرفت كيف تطوّر ذاتها وتصل إلى أهدافها مهما كان موقع هذه الأهداف.
الهدف
إنّ استهداف معهد أو مدرسة ـ تعدُّ الفكرَ الصهيوني لاستمرار احتلال فلسطين وإبقاء أهلها في الخارج مشتّتين، والتحضير لإخراج من بقي منذ عام 1948، مدرسة تتّخذ شعارها: «اُقتل واستَعِدْ»، أي اُقتل واستَعِدْ أرض الأجداد (والأصحّ القول اقتل واغتصب)، مدرسة تعدّ مصنع إنتاج قادة الفكر الصهيوني الإجرامي الاحتلالي، هذا الاستهداف أو هذا الانتقاء يُعدّ بذاته نجاحاً بالغ الأثر للمقاومة، إذ يؤشّر إلى عمق فهم المقاومة لطبيعة هذا الكيان ومواطن قوّته وضعفه. وإنّ ضرب مصنع القادة الصهاينة يعني ضرب رأس إسرائيل، فيكون في ذلك ما يشبه التوازن الذي تقيمه المقاومة مع عدوّها الذي استباح القادة المقاومين منذ عام 1973، بقتل كمال عدوان ورفيقيه، ثم فتحي الشقاقي، وأحمد ياسين، وياسر عرفات وأخيراً عماد مغنية. و كأنّ المقاومة تقول بعمليتها هذه، أنتم تقتلون قائداً فنردّ عليكم، في مصنع القادة لديكم. وهنا يجب ألّا نقع فريسة إعلام الغرب بأنّ الهدف هو مدرسة دينية، حيث الحقيقة أنّ المكان مركز حرَّف التوراة وأقام التلمود وجعل القتل أساس التعاطي مع الآخر بدل الاعتراف به وبحقوقه. (طلّابها مسلّحون وأحدهم أطلق النار في المواجهة).
الزمان
إنّ تنفيذ العملية في توقيت وجدت فيه إسرائيل نفسها في أعلى درجات الحيطة والحذر والجهوزية الأمنية، مؤشّر واضح على أنّ الأمن لن يكون لإسرائيل مهما بالغت في تدابيره، لأنّ المنطق الأساس للأمن هو أنّه وليد الوفاق الذي يصنع السلام، ولا سلام مع مغتصِب ولا يمكن أن يسالم من طُرِد من أرضه، أو اغتُصِب حقّه، أو فُرض عليه القلق والخوف من خطر داهم يمثّله هذا المغتصِب.
لقد فاخرت إسرائيل كثيراً بقدرتها على تحقيق أمن شعبها وسكّان المستعمرات فيها، وطرحت يوماً معادلة السلام مقابل الأمن، لأنّ الأمن كما تقول هي، هو ثروة إسرائيل الأولى التي بها يمكن إسرائيل أن تجذب وتجمع فيها يهود العالم. وجاءت هذا العملية في توقيت لا يستطيع مسؤول إسرائيلي واحد فيه الادعاء بأنّه لم يكن يتوقّع خللاً في الأمن، فإسرائيل موضوعة في حالة إنذار تامّ واستعداد شامل، ثمّ تنفَّذ هذه العملية لتسفّه كلّ ادعاءات إسرائيل بشأن قدرتها الأمنية!.
المنفّذ
لقد نفّذ العملية فرد مقاوم واحد، من سكّان القدس الذين اضطرّوا إلى حمل الجنسية الإسرائيلية والبطاقة الزرقاء، وهنا تكمن الخطورة وتتعمّق الدلالة. فالمقاوم لم يتمّ تبنّيه من جانب أي تنظيم من التنظيمات الكبرى، ما يقود إلى القول بواحد من الأمور الآتية:
ـ الأوّل ظهور تنظيم مقاوم جديد في الداخل الفلسطيني (الأراضي المحتلّة عام 1948) وسيبقى عنواناً لا يعرف قادته، وفي هذا سلوك تقدّر خطره إسرائيل (وهو يحرمها تحديد الجهة التي تردّ عليها لتنتقم).
ـ الثاني أنّ التنظيمات القائمة اختارت أسلوباً جديداً من العمل غير المعلَن عنه، وفي هذا أيضاً تغيير في أسلوب المواجهة تحسَب إسرائيل له ألف حساب.
ـ الثالث وهو الأمر الأخطر من كل ذلك، ويتمثّل بنشأة الخلايا الصغيرة ذات الأعداد المحدودة والقادرة على التنسيق مع تنظيمات أخرى للتزوّد بالتقنية والسلاح والتدريب، مع الاحتفاظ بهامش الحركة والمناورة وانتظار الفرص للانقضاض فعلاً أو ردّ الفعل. فإذا كان الأمر كذلك فإنّ إسرائيل ستقضي الليالي الطويلة بحثاً عن العدو الشبحي الجديد، ولن تصل إليه.
الظرف الميداني العملاني
نُفِّذت العملية مباشرة في الأيام الثلاثة التي تلت المرحلة الأولى من «المحرقة» التي بدأتها إسرائيل بحقّ الفلسطنيين في غزة، وبعد ثلاثة أسابيع من عملية اغتيال الشهيد عماد مغنية، وهما عمليّتان ضحكت فيهما إسرائيل طرباً وفرحاً لإنجازها الدموي الإرهابي، وكادت أن تسوّق فكرة تسلّمها زمام الأمور مخابراتياً في عملية الاغتيال، وميدانياً في محرقة غزّة، لكنّ منفذ العملية قال برصاصاته القاتلة وبوضوح كلّي، إنّ زمن البكاء الفلسطيني المترافق مع الضحك الإسرائيلي، ولّى، وإنّكم تبكون الآن كما أبكيتم، لكن نرجو من الله ما لا ترجون، وأضاف إن فاخرتم باختراق أمن عاصمة عربية من مدن المقاومة والممانعة ونلتم من قائد مقاوم هناك، فإنّني أخترق أمن ما اتخذتم زوراً عاصمتكم وأقتل وأصيب 43 من مشاريع عتاة قادتكم الصهاينة التلموديّين العنصريّين. كما أنّ مجزرة الـ120 شهيداً في غزة لن تمرّ بغير حساب. وفي ذلك دلالة واضحة على أن القتل باليد الإسرائيلية لن يكون من غير ردّ أو عقاب بل إنّ الفعل سيتلوه ردّ الفعل من نفس الطبيعة والنوع والأسلوب لكن بحجم قد يتعدّاه، والنصر لمن يحتمل ولصاحب النفَس الأطول.
مفاعيل العمليّة
هذا بعض ما يمكن أن يُذكر اليوم من دلالات عملية المصنع الصهيوني في القدس. يبقى أن نطرح السؤال عن مفاعيلها فما هي؟
في دراسة مناسبة للحدث نستطيع أن نخلص أو نترقّب المفاعيل الآتية:
ـ على صعيد الأمن والهيبة الإسرائيلية: فاقمت عملية «مركاز هراف» في القدس المأزق الإسرائيلي في ناحيتين: أمن الجبهة الداخلية، وهيبة «الدولة الإسرائيلية» التي جهد قادتها على استعادتها بعد حرب تموز 2006. وأدخلت الوافد إلى إسرائيل أو المقيم عليها في دوّامة جديدة من القلق والخوف لن يبدّلها تصريح أو تهديد من هذا المسؤول المدني أو ذاك القائد العسكري. فالدم الذي شاهده الإسرائيليون في معقل من معاقل إنتاج القيادة العسكرية والسياسية للصهيونية، أبلغ من الكلمات التي لا تقترن بالتنفيذ ولا تحمي الخائفين.
ـ على صعيد ملهاة المفاوضات وما يُسمى العملية السلمية: أظهرت عملية المقاومة في القدس، أنّ من سيحدّد مسار الحدث، ومستقبل الكيانات في المنطقة هم شعوبها لا نظام حاكم أو سلطة مفروضة أن تغيّر هذه الحقيقة. فكلّ ما كُتب وما سيُكتب من وثائق الإذعان والاستسلام سيحرَق بطلقة نار من فوهة بندقية مقاوم، وعليه، فإنّ سلطة أوسلو، ستستمرّ في تآكلها إلى أن يقتنع الجميع بأنها باتت جثّة لا حراك فيها ويطبّقون عليها القول «خير الميت دفنه».
ـ على صعيد قرار الحرب الإسرائيلية ضدّ غزة أو لبنان (حماس أو حزب الله): أكّدت عملية القدس، ما كان قد سطّره حزب الله في نصره عام 2006، أنّ إسرائيل لم تعد حرّة في اتخاذ قرار الحرب التي تنتصر فيها حتماً، بل باتت على القرار قيود، وإنّ هناك قوى تواجه وتستطيع أن تؤلم كما تتألّم، وألزمت إسرائيل قبل أن تتوجّه إلى الحرب أن تضمن أمن الداخل، وهو أمن ليس مضموناً حاليّاً.
ـ منذ أن جاهر جورج بوش بيهودية الدولة في فلسطين، وأنّ إسرائيل هي لليهود فقط، كان الخوف من إقدام إسرائيل على طرد مليون ونصف مليون عربي من الأرض المحتلة عام 1948. بعد هذه العملية أعتقد بأنّ إسرائيل ستراجع حساباتها في كثير من القرارات التي ستُتَّخذ بحق هؤلاء، ولا أجاري من يقول إنّ قيوداً جديدة ستكبّلهم بها السلطة، لأنّ كلّ ضغط يتبعه انفجار، ومثل هذه العملية نوع من أنواع الحماية للعرب في إسرائيل، لجهة الوجود أو الحقوق لا كما يُظنّ خلاف ذلك.
ـ على صعيد العالم الخارجي، من عرب وغرب وسواهم، سيكون للعملية أثر بالغ في نظرة العالم إلى ما يجري في فلسطين، ومختصرها القول إنّ سياسة التحيّز لإسرائيل، وتجاهل حقوق الفلسطينيّين لن تجدي ولن تلغي الحقيقة، فالحقّ ما زالت وراءه مطالب وبالدم. ولن تلغي هذا الأثر إدانة من هنا أو استنكار من هناك يحصل لإرضاء إسرائيل.
إنّ عملية «مركاز هراف» في القدس معطوفة على حرب تموز 2006، نطقت بدلالات، وأكّدت مفاعيل، نختصرها بالقول إنّ زمن الحرية الإسرائيلية والاستعلاء الإسرائيلي في الأمن والميدان، زمن ولّى، وإنّ الشعب المقاوم بات يمتلك من القدرات الأمنية والعسكرية ما يجعله يقول لإسرائيل: تستطيعين المبادرة إذا شئتِ حرباً لكن لن يكون لكِ أن تكتبي النتيجة لك نصراً أكيداً، وهو قول أدخل الصراع مع إسرائيل في مرحلة جديدة لم يكن من اتخذ قرار الحرب والاغتيال يتوقّعها.
* عميد ركن متقاعد