أسعد أبو خليل *‏تتابُع السجالات في لبنان. بعضها سياسي وبعضها شخصي، وجلّها مدفوع ومطلوب من المربّع الأمني في قريطم. يصيبك بالدوار أحياناً لكثرة التقلّبات والتحوّلات. تذكر أنّ تمام سلام قال قبل أقلّ من سنتين عكس ما يقوله اليوم، وتذكر أنّ فؤاد السنيورة وفريق الحريري قالوا كلاماً في المقاومة قبل أقلّ من سنتين عكس ما يقولونه اليوم. يبرّرون مواقفهم بأنّ التغيّر نتج من تحرير الجنوب في عام 2000، لكن تذكر تصريحاتهم وخطبهم بعد عام 2000، والبيان الوزاري لحكومة السنيورة (المنتخبة ديموقراطياً مثل الحكومات في الأردن ورام الله والرياض والقاهرة وكل بقعة يحكم فيها ـ أو قل يحاول ـ حلفاء ووكلاء أميركا) لم يُكتب قبل عام 2000.
سجالات وادعاءات وبيانات وتصريحات... كان الراحل الكبير جوزف سماحة يسعى إلى تحرير الصحافة اللبنانية من تلك التصريحات: كان يقول إنها تنتمي إلى الفضائيات المرئية، لا إلى الصحافة المكتوبة. وترى وليد جبنبلاط يُفتي في الفقه الشيعي متى يريد، ويستذكر هو وإبراهيم شمس الدين (والأخير يقود جماهير الشيعة بالتعاون مع زعماء جماهيريّين آخرين مثل غازي يوسف وباسم السبع) كتابات محمد مهدي شمس الدين. يغفل الاثنان بعض الحقائق: أنه تأخّر قبل أن يُفتي بالمقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، وأنه تحالف مع عهد أمين الجميل (وتأخّر في دعم المعارضة ضدّ حكمه، كما يروي نبيه بري في السيرة التي كتبها نبيل هيثم)، والأهم أنّ الثنائي ـ جنبلاط وشمس الدين الابن ـ لا يذكر أن شمس الدين نفسه أفتى بالعنف ضد «الأجنبي الكافر الغازي والمحتلّ» (فقه العنف المسلّح في الإسلام، ص. 23). أين هذا من حبّ الحياة الذي تفنّن فيه جنبلاط. وجنبلاط هذا، الحريص على المقاومة الفلسطينية، يدعوها إلى ضرب إسرائيل في الجولان فقط، كما تدعو صحافة النفط العربية الى احترام حقوق الإنسان في سوريا فقط. تظن وأنت تقرأ الصحافة العربية أن ميشيل كيلو هو السجين السياسي الوحيد في طول العالم العربي وعرضه.
اصطناع الحياء
ويتّسم الكثير من السجالات والتصريحات في لبنان بالبذاءة والسوقيّة والتعييرات الشخصيّة. وثمّة من يحاول اصطناع الحياء عبر الإيحاء أن لبنان كان مهذّباً في تاريخه. يحاولون أن يختلقوا تاريخاً خياليّاً للبنان. يحاولون أن يجعلوا من رجالات لبنان في مرحلة ما قبل الحرب الأهليّة عظاماً وعمالقة. من؟ الأمير مجيد ارسلان الذي في تبوّئه منصب وزير الدفاع مثّل نكتة سمجة أثقل من تبوّء مصطفى طلاس (الخبير في شؤون الزهور والشعر والقراصيّة ـ من أين، من أين؟) لوزارة الدفاع السورية؟ كميل شمعون الذي (كما يصف لويس الحاج في كتابه القيّم «من مخزون الذاكرة») كان كلامه في أكثره نابياً وطائفيّاً؟ الشيخ بيار الجميل الذي لولا تشذيب جريدة «النهار» لتصريحات طائفية له لاندلعت الحرب قبل أوانها؟ أم إميل إده الحليف المبكر للصهيونية، أم الفرد نقّاش المعيّن من جانب المُستعمِر، والمُعجَب ـ كما كشفت وثائق إسرائيلية منشورة ـ أشدّ الإعجاب بالصهيونية؟ أم بشارة الخوري الذي كانت نساء البلاد يسعين إلى تجنّب لقياه كما تجنّبت نساء دمشق، ولعقود، لقاء رفعت الأسد (العائد؟)؟ أم رياض الصلح الذي يذكر محرّر الأوراق الخاصة لحاييم وايزمن أنه كان «مدفوعاً من جانب الصهاينة»؟ أم كامل الأسعد الذي مثّل نموذجاً فاقعاً في الزعامة الإقطاعية وعجّل، لحسن الحظ المتأخّر، في سقوطها عند الشيعة (بالرغم من محاولات حثيثة لإحيائها من جانب عائلة «من يحسب أنّ ماله أخلده»)؟ نسي مختلقو تاريخ زائف للبنان طبيعة السجالات، مثلاً، بين كمال جنبلاط وصائب سلام إبّان الحرب، وتبادل الأوصاف من طراز «حبقوق» و«هرطوك»، إلخ... لكن اختلاق الوقائع وتزييف التاريخ ـ القديم والمعاصر ـ سمة من سمات الثقافة السياسية والشعبية في لبنان.
الكراهية «البنّاءة»
سجالات، سجالات من كل حدب وصوب. لا تدري من أين تبدأ. تلهث وأنت تتابع. تودُّ لو أنك تهرب من هذه الأجواء، لو أنك في وطن يزهو بأشجار الزيتون بدلاً من الأرز، مثلاً. هذه السجالات تلاحق اللبنانيين واللبنانيات حتى في المهاجر والمنافي نتيجة غزو الفضائيات المتوحّشة. هناك من يجزم بأن المهاجرين غارقون في الهمّ ـ الوحل ـ وكلنا في الهمّ شرقُ إلا في لبنان فهم في الهوى غربُ ـ اللبناني أكثر من المقيمين. يتابعون نشرات الأخبار عن بعد كمتابعة أمراء الزيت الأسود لسوق الأسهم من على شاشة «العربية» (التي تحظى برضى صهيوني، وإن كانت تخدم «القضية العربية» كما حكم أمين الجميّل مؤخراً، وآل الجميّل مؤتمنون على القضية العربية منذ تسلّم حزب الكتائب أموالاً من الدولة اليهودية في الخمسينات). تقلّب الأقنية وتشعر بأنك ملاحق من دعاة وأبواق الكراهية والاستزلام والارتزاق والتعصّب. واحد ينظّر لنموذج من الكراهية «البنّاءة»، على نسق الطائفيّة «البنّاءة»، كما نظر كمال يوسف الحاج. ومصباح الأحدب يناشد الملك السعودي إنقاذ«نا». أيّ جماعة هو يقصد، ببراءته، وبراءة الأطفال في عينيه؟ تتذكّر أنه نفسه كان يرقص طرباً لوصول بشار الأسد إلى لبنان، وكان يطري على حسن أداء الرئيس السوري وإدارته لملف العلاقات السورية ـ اللبنانية. ثم تتذكر مأساة مرافق مصباح الأحدب، الذي بعدما أشبعَ نفسه ضرباً مبرّحاً، وبعدما أفرغ رصاص بندقية حربية في ظهره، قام بشنق نفسه من علوّ لا يطوله من لم يستعن بسلّم في زنزانة.
ووليد جنبلاط، مثال الصداقة في العمل السياسي بالرغم من اضطراره إلى الكذب لمدة لم تزد، تالّله، على خمسة وعشرين عاماً، لا يستقر على موقف (وهو لا يزال يمارس عائدة بائدة: يطيّر البرقيّات يميناً وشمالاً، إلى رؤساء وزعماء في كل أنحاء المعمورة. فتارةً يهنّئ رئيساً في أميركا الجنوبية، وطوراً يهنّئ زعيم حزب في جنوب آسيا على إعادة انتخابه. يظن أن رؤساء الدول وزعماء الأحزاب يعرفونه، ربما لأن شخصية كمال جنبلاط كانت عالمية، لكن هناك ما لا يُورّث، مع احترام الجميع لزعيم 90% من 6% من شعب لبنان «العظيم»؟ ولاحظنا أنه عزّى بوفاة النائب الأميركي توم لانتوس، وهو كان من أعتى أعداء فلسطين والعرب والإسلام داخل الكونغرس. نتساءل: هل طيّر جنبلاط في برقيته دموعاً على لانتوس أيضاً؟). هو يعتبر حزب الله مقاومة في أسبوع، ثم يعود ليعتبر الحزب إرهاباً في أسبوع آخر. وحزب الله يقع في الفخ بسرعة، إذا كان منصوباً من آل الحريري أو من وليد جنبلاط. الحزب يظن أن تصريحاً متناقضاً لجنبلاط يعني أن الأخير يرعوي، أو أنه هُدي هكذا فجأة. ثم يعود إلى قواعده في حب الحياة والوئام، وإن هدّد بحرق الأخضر واليابس (لفت أنه لم يذكر الأحمر القاني).
ثم ترى سعد الحريري. بالكاد يستطيع أن يكمل جملة مفيدة من دون الاستعانة بخدمات اليساري السابق، هاني حمود. شارل رزق، هذا الذي مثّل قمّة في التقلّبات الانتهازيّة طمعاً بكرسي أغروه به، هزلاً واحتيالاً. هو يقول إنه بتصرّف «الرأي العام» لا بخدمة صديقه السابق الذي نصّبه وزيراً. وكأنّ «الرأي العام» هو الذي نصّبه وزيراً، بعدما عيّنه مندوباً في مؤتمر الفرنكوفونية. قبل سنوات فقط، حدّثني هو نفسه في كندا عن خطفه وإذلاله في صندوق سيّارة من جانب بشير الجميّل، وها هو اليوم يزعم أن بشير الجميل كان صديقاً له. لعلّها الصداقة التي أدّت به مخطوفاً في صندوق سيّارة. وجب تحذيره من صديق له يضعه في صندوق سيارة. هو حاضَر مؤخراً في واشنطن. كاد أن يقول إن سعد الحريري هو خوارزمي عصرهوتشعر بمتعة فائقة عندما ترى منظّرين قادةً لحركة اليسار الحريري على شاشة المستقبل ـ وعدد القادة في هذا التنظيم، وهو غير تنظيم جورج عدوان الذي اعترض على إبقاء التحالف مع إسرائيل سريّاً، يساوي عدد الأعضاء في هذه الحركة المظفّرة. تجدهم يجهدون في خدمة العائلة الحاكمة في لبنان. وتتساءل: لماذا يعترف اليسار الذي يتحوّل إلى يمين في الغرب بأنه أصبح يميناً، في الوقت الذي يصرّ فيه اليسار الذي يتحول الى يمين في لبنان على أنه لا يزال يساراً؟ ويرى أحد منظّري الحركة المذكورة أنّ أفظع جريمة للنظام السوري هي في «استفزاز المملكة العربية السعودية» ـ لا في القمع الداخلي والخارجي ولا في تنصيب الوزراء والرؤساء في لبنان، ولا حتى في التدخل العسكري للنظام السوري في عام 1976. لن نتعجب إذا ما أصدر تنظيم الرفيق السابق، الياس زهرا، كرّاساً خاصّاً بعنوان «رؤية يساريّة لحكمة وعدل خادم الحرمين». لمَ لا؟ قد يغدق سعد الحريري عليهم مقعداً نيابياً آخر. هذا هو الموسم. وفيما تعترف وسائل الإعلام الأميركية بعد تسريب وثائق رسمية إلى مجلة «فانيتي فير» بأنّ انقلاب «حماس» (وهي بالفعل حركة غير ناجحة لا في الخطاب ولا في النضال) جاء ردّاً على انقلاب لعصابات محمد دحلان وفق خطة أميركية ـ إسرائيلية، يصرّ أقطاب اليسار السابق على أنّ الطامة الكبرى في فلسطين لم تعد كامنة في الاحتلال، بل في انقلاب «حماس».
التوحّد حول العنصريّة
وسط كلّ ذلك، لفت تصريحان لنائب حركة أمل، علي بزي، وقائد جحافل البعث السوري في لبنان، فايز شكر، في نقد أنطوان أندراوس. طبعاً، يستحق النائب أندراوس النقد والسخرية والتقريع. فهو كان لئيماً في الدفاع عن النظام السوري، وأصبح لئيماً في نقد سوريا بعدما انقشعت الرؤية أمام ناظر معلّمه. والضبابيّة في الرؤية معدية في اللقاء الديموقراطي ـ وهو لقاء ديموقراطي بالفعل، إذ إن وليد جنبلاط لا يتّخذ قراره قبل استشارة «جيف»، كما كان يستشير أبو عبده من قبل. إنّها الديموقراطية الحقّة والشورى بعينها وأذنها. تستطيع أن تقارن أحاديث أندراوس قبل سنتين فقط، ثم تتذكّر سجلّه في صندوق المهجّرين، عندما عانى وليد جنبلاط «زنقة» خانقة. وهذه «الزنقة» كانت تؤدّي به الى انتقاد رفيق الحريري لأسبوع أو أسبوعين، وسَوْق شتّى التهم ضدّه، والتذكير بضحايا الرأسمالية المتوحّشة. وسرّب مجلس بيروتي قبل بضع سنوات كلاماً لرفيق الحريري مفاده أن جنبلاط يسهُل إسكاته بالمال. وحرد جنبلاط يومها، وعادت المياه (والأموال) إلى مجاريها بعدما نفى رفيق الحريري ما نُسب إليه.
لكن يجب التوقّف عند الكلام النافر لعلي بزي وفايز شكر. ومن قال إن العنصرية والطائفية (واضطهاد السريلانكيات) حكر على 14 آذار؟ ورأَيْنا التوحُّد العنصري بين اللبنانيّين (واللبنانيّات، حتى لا ننساهنّ في أسبوع يوم المرأة العالمي) عن دكّ مخيم نهر البارد. والعنصرية سائدة بين أوساط الفريقين، وإن كان فريق 14 آذار قد امتهن ممارسة الطائفية والمذهبية، واعتنق عقيدة عنصرية بغيضة استعارها من حزب الكتائب العريق في هذا الصدد. وضرب بائعي الكعك والقتل العشوائي للعمّال السوريين ـ والحكومة السورية آخر من يعلم أو يكترث ـ لم يأتِ عفواً. بل هو جزء من عقيدة 14 آذار، لا بل جزء من الثقافة الشعبية في لبنان المستقاة من أحزاب اليمين الطائفي أثناء الحرب. كما أن التسويغ الشعبي اللبناني لضرب وحرق مخيم نهر البارد كان نتيجة منطقية لبثّ العنصرية ضد الشعب الفلسطيني ولتدريس عقيدة التفوق اللبناني المزعوم في المدارس اللبنانية وفي الثقافة السياسية والشعبية اللبنانية. فعلي بزي عيّر النائب أندراوس بأنه مُجنّس لبنانياً، وكأنّ المُجنّس لا يتساوى مع المولود بالجنسيّة في لبنان. واتّهمه أيضاً بأنّه «ملتوي» الجنسية، وكأن للعبارة معنى قانونياً أو دستورياً. هم ـ في 8 آذار ـ ناصروا المجنّسين عندما انتخبوا مرشح التيار الوطني الحر في المتن، ويعيّرون المُجنَّس عندما لا يسير في مسارهم.
وزاد فايز شكر، زعيم حزب البعث السوري في لبنان، على كلام بزي وقال إنه يجب على المُجنَّس في لبنان أن ينتظر مئة عام قبل أن يدلي بدلوه في مسائل وطنية. هذا القول جاء على لسان حزب يدّعي القومية العربية. هنا تكمن حقيقة هذا الحزب. وحزب البعث في لبنان كان تاريخياً موالياً للجناح العراقي (الصدّامي) منه، إلا أن النظام السوري أمعن في قياداته وكوادره تقتيلاً وذلك من أجل تنصيب فرع الحزب الموالي للنظام السوري. ولا تذكر وسائل إعلام 14 آذار لسبب من الأسباب، في تعدادها لمن تعتبره شهيداً للوطن، كلمة عن موسى شعيب. هذا الذي كتب عن هيفاء وهي تنتظر الباص في تل الزعتر (صدرت المجموعة الكاملة لأشعاره مؤخراً). لم يكن موسى شعيب يملك طائرة خاصة، ولم يملك شبكة إعلامية لتذكره ولتستشهد بأقواله، وإن اختلف المرء مع خياره الحزبي وعقيدته. ووجب على فايز شكر أن يقوم بجردة حساب ليُعلم الرأي العام اللبناني بفضائل حزبه الوطنية، إذا وجدت. وكيف يمكن حزباً يدّعي أنه لا يؤمن بوجود الحدود بين الدول العربية أن يميّز بين مواطن وآخر على أساس سنة التجنيس التي يجب ألّا تكون ذات بال؟ وهل القومية العربية وفق عقيدة هذا الحزب ترتئي أنّ المساواة بين مواطني «القطر» نفسه غير مُحبّذة، وأن التمييز واجب بناءً على سنة التجنيس؟ لكن هذا الكلام بليغ في تعبيره عن أزمة هذا الحزب البعثي الذي بدأ مبشّراً بقومية جامعة وانتهى الى أفعل تنظيم (في فرعه السوري والعراقي على حد سواء) في الشرذمة وفي الانشقاق وفي الشلليّة الطائفية. لو كان فايز شكر يؤمن عن حق بالقومية العربية الجامعة، لاعتذر عن كلامه. ولو كان حزبه يأخذ عقيدته المكتوبة على محمل الجد، لأصدر اعتذاراً في اليوم التالي. لكنه زمن إظهار الحقائق من دون قصد في لبنان.
فاليساري يميني، والقومي شوفيني والوطني ينتظر وصول المدمّرة كول على أحرّ من الجمر، وعتاة السيادة يستنجدون تدخّلاً من الخارج، وسمير جعجع يقول لـ«الأوريان ـ لوجور» أن لا علاقة بين زيارته لواشنطن وبين الأحداث في لبنان، إذ إن الزيارة مرتبطة بالأزمة بين فنزويلا وكولومبيا. والحريص على فلسطين يدعم حلف إسرائيل والدحلان وآل سعود، والعلماني متحالف مع الجوزو، والاشتراكي يتساءل عن سبب عدم التطبيق الفوري لوصفات البنك الدولي، والكتائبي المتحالف مع إسرائيل يُفتي في القضايا العربية، والقواتي يتحدث عن العروبة الحضارية، والمقاوم يوصل صولانج الجميل إلى المجلس النيابي، والذي نُصّب بواسطة المخابرات السورية في أرفع المناصب يحدّثك عن السيادة، وشارل رزق يقول إن «الرأي العام» هو الذي أصرّ على توزيره، وبطريرك أنطاكية وسائر المشرق يسعى نحو قانون انتخابي على أساس الحارة، وإن كان يفضل الدائرة على أساس الزقاق، والسنيورة يحدثك عن الدولة المدنية بعدما حوّل السرايا الحكومية إلى مصلّى، وأحمد فتفت بُرّئ في موضوع ثكنة مرجعيون بعد تحقيق دقيق من قبل... أحمد فتفت، ومصباح الأحدب ما عاد يرقص جذلاً لرؤية بشار الأسد على أرض لبنان، وفارس خشان توقف عن التحدث عن «الكوّة» التي تحدثها خطب بشار الأسد في الجدار الصهيوني، ومعارض أميركا يوالي الفقيه المناصر للاحتلال الأميركي في العراق، ومثقّفو الليبرالية (واليسار الحريري) يستنكرون دعوى ميشال عون (وهي مُستنكَرة) ضد بول شاوول (صاحب القول البليغ: «برافو سنيورة يا صخرة الدولة والديموقراطية والسيادة»)، وهم أنفسهم يؤيدون دعوى فخري كريم ضد سماح إدريس، ووديع الصافي شكر بشار الأسد والسنيورة معاً على محبّتهما له. وبشكر السنيورة تدوم النعم في لبنان هذه الأيام.
لكن فايز شكر يوزّع شهادات ويصدر معايير الوطنية الحقة. هذا الحزب الذي لم يكن يوماً محبوباً أو عريقاً أو متجذراً في لبنان. أويظن فايز شكر أنه أتى وزيراً بإصرار جماهيري؟ أويظن أن عقيدة البعث هي التي حتمت توزيره؟ هو يعلم أن منظمة الصاعقة وحزب البعث لم يمثّلا يوماً إلا مصالح النظام السوري في لبنان، لا غير. كما أن المنظمتين ساهمتا (مع أحزاب اليمين الطائفي) خلال الحرب في ممارسات باتت معروفة في تقويض الأفكار القومية وفي تقويض قضية فلسطين. يذكر اللبنانيون كيف مارست منظمة الصاعقة قناعاتها في شارع البنوك، في الوقت الذي كانت فيه أحزاب في الحركة الوطنية تدافع عن البرنامج المرحلي للحركة. ويتذكر اللبنانيون أن حزب البعث دشن تبوّءه للوزارة في لبنان في ضرب الحركة العمالية العلمانية بأوامر من النظام في سوريا ومن أجل تسهيل مهمة الحريري المُنصّب طازجاً آنذاك من جانب النظام السوري. فايز شكر اعترض على حقّ مُجنّس في التعبير عن رأيه.
لكن واقع حزب البعث في لبنان يمثل: 1) حقيقة واقع حزب البعث في كل العالم العربي برمته، إذ تحوّل الحزب من مبشر بأيديولوجية حالمة وضع لبناتها الأديب ميشال عفلق إلى رمز لكل ما يتناقض مع الشعارات اللفظية للبعث. 2) كما يمثل هذا الواقع حقيقة العمل الحزبي في لبنان، حيث تتحوّل العقائد وتتقولب المبادئ مثل العجين. والقيادات تعاني غشاوات قاتلة، وبعضها يعاني كذباً عضالاً. والشوق إلى الحرب (الأهلية والخارجية) يعتري أوصال فريق الحريري، وغيره. هم وُعدوا بحرب على إيران في ربيع السنة الماضية، ثم عادوا ووُعدوا بحرب في الصيف الماضي. ورأينا أخيراً الصحافي الرصين رفيق خوري ينقل كلاماً عن «خبير استراتيجي» حاضَرَ في دبي مفاده أن الحرب ضد إيران قادمة لا محالة في هذا الربيع. والخبير هذا، أنتوني كوردزمان، وصف السلاح الإيراني بـ«الخردة». لكننا رأينا، ورأت أميركا، أفعال سلاح أضعف من السلاح الإيراني في العراق. والرئاسة الأميركية في آخر أيامها، لكن هذا لا يمنع البعض من أن يمنّي النفس حتى آخر يوم من ولاية بوش بحرب ضد إيران أو ضد سوريا أو ضد الاثنتين معاً. هم يتضرّعون من أجل أن يُلهَم محبوبهم بوش ليشنّ حرباً شعواء ضد سوريا وضد إيران معاً. يحلمون. وعبد الحليم خدام، الداعي الديموقراطي المعروف، يعد الشعب السوري مرّة كل شهرين بسقوط وشيك للنظام. يبدو خدّام أشبه بواحد من بقايا عائلات مالكة بائدة يحلم بملك مُتخيّل. وإذا كانت الحرب هي ما علم اللبنانيون وذاقوا، فهناك في لبنان من يتذوّق ومن يتلمّظ، المرّة تلو الأخرى.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)