اسكندر منصور *أدّى الإخفاق الأميركي، العسكري والسياسي في العراق، إلى تراجع حضور المحافظين الجدد وانحسارهم في الحلقات الضيقة التي تخطّط السياسة الأميركيّة وترسمها. وتُرجِمَ هذا التراجع في أفول بعض الأدوار التي كانت موكَلَة لأنصار هذا التيار في الإدارة الأميركيّة الحاليّة وخارجها. فكان لإزاحة كل من بول وولفتز وريتشارد بيرل ودوغلاس فايث من مراكز القوة والأضواء، إلى الخطوط الخلفيّة، واعتلاء كوندوليزا رايس وزارة الخارجيّة، وتراجع حضور ديك شيني النسبي، أول تلك المؤشّرات. أمّا على الصعيد الفكري والثقافي، فبدأت أصوات بعض المنشقّين تخرج من خلف الكواليس إلى وسائل الإعلام. فعلى سبيل المثال، صرّح فرنسيس فوكوياما بأنّ حركة المحافظين الجدد «تطوّرت في اتجاه لا أقدر أن أؤيّده بعد الآن»، كما أنه أصبح من أهم الأصوات المحافظة المنتقدة للحرب على العراق، فكتب في العدد ما قبل الأخير من «أميركان أنترست» «إنّ المغالاة في مستوى التهديد الناشئ من القاعدة والدول المارقة، كان بهدف تسويق الحرب على العراق».
لقد فُهمت هذه التطوّرات على أنها ضربة للمحافظين الجدد وتأثيرهم على الأحداث المستقبلية على الساحة الدوليّة. ما درجة هذا الانحسار في دور المحافظين الجدد في ظلّ التهديدات الأميركيّة المستمرّة ضدّ إيران والاستعداد لغزوها؟ من هم المحافظون الجدد وما هي جذورهم الفكريّة؟ وكيف أثّرت التحوّلات السياسية والاجتماعيّة والثقافيّة في الحياة الأميركيّة على بروز تيّار المحافظين الجدد كتيّار فاعل ومؤثّر في السياسة الأميركيّة، وخاصة في السياسة الخارجيّة؟
ما بعد الفشل
بدأ المحافظون الجدد في ترتيب بيتهم وأوضاعهم الداخلية، حالمين بمستقبل قريب ربما يعيد إليهم هيبتهم وتأثيرهم في رسم سياسة الولايات المتحدة الخارجيّة من دون منازع. فها هو نورمن بدورتز، مستشار السياسة الخارجيّة في حملة رودي جولياني للانتخابات الرئاسيّة، يفقد أمله في العودة إلى مركز القرار بعد النكسة الانتخابيّة التي تعرّض لها جولياني، التي أدّت به إلى سحب ترشيحه للانتخابات. كان بدورتز راديكالياً في ستينيات القرن الماضي، وها هو يمهّد الطريق لابنه جان، ليحلّ محلّه في رئاسة تحرير مجلة «كومنتري»، المجلّة الفكريّة للمحافظين الجدد طيلة الثلاثين سنة الماضية، في ظل رئاسة تحرير نورمن بدورتز بين عامي1930 و1995.
لقد لعبت هذه المجلّة في ظلّ رئاسة بدورتز الأب دوراً فاعلاً ومؤثراً في صياغة خطاب المحافطين الجدد وبلورته في الوسط الثقافي والسياسي الأميركيّين.
أمّا وليم كريستول، رئيس تحرير مجلة «ويكلي ستاندرد»، المعروفة أيضاً بتوجّهاتها اليمينيّة المحافظة، وبكونها منبراً للمحافظين الجدد إلى جانب مجلّة «كومنتري»، فخلَفَ والده إيرفين كريستول اليساري التروتسكي في أربعينيات القرن الماضي، وهو الذي تحوّل ليصبح أحد أعمدة المحافطين الجدد. لقد اتّجه كريستول الأب للتحرير والنشر، فكان أحد مؤسّسي ومحرّري مجلة «إنكونتر» البريطانيّة من سنة 1953 إلى 1958، كما أسّس مجلة «بابلك إنترست» وكان أحد محرّريها، وكان أيضاً المؤسّس والناشر لـ«ذا ناشيونال إنترست». وعلى العكس من بودورتز، مثّّل كريستول الأب نظرة المحافظين الجدد في السياسة الداخليّة، في حين وجّه بدورتز اهتمامه نحو السياسة الخارجيّة.
جذور المحافطين الجدد
يقول نورمن بدورتز «كنّا جدداً في تبني الفكر المحافظ. لقد أتينا من خلفيّات يساريّة وليبراليّة، وحملنا جديداً للفكر المحافظ في ما يتعلّق بالصراع الأميركي ـــ السوفياتي الذي أصبح في فكر المحافظين الجدد صراعاً بين الخير والشرّ». ما هي الشروط التاريخيّة التي أدّت بفريق من اليساريّين الرديكاليين إلى تحوّلهم نحو «الدين» الجديد؟ وثانياً، ما دور يهوديّتهم، نظراً إلى انتماء أكثريتهم إلى اليهودية، في تحوّلهم من الخطّ اليساري والليبرالي إلى صياغة خطاب المحافظين الجدد وبلورته؟
يشدّد بودرتز على أنّ حركة المحافظين الجدد هي أقرب إلى «النزعة منها إلى الحركة». لقد تمثلت هذه النزعة في اكتشاف القيم الأميركيّة وإعادة الاعتبار إليها، بعد أن أظهر المثقّفون اليساريون ازدراءهم لهذه القيم والعداء لها. لقد وقع المحافظون الجدد في حبّ كل ما هو أميركي وتقديره. إنّهم القوميّون الأميركيّون الجدد الذين يرون جمالاً وصواباً في كلّ ما هو أميركي. لو قُدّر لبدورتز، لاختار اسم «القوميّون الجدد» بدل «المحافظون الجدد». أميركا دائماً على حقّ. هذا ما أراد المحافظون الجدد أن يقولوه في وجه «الجاحدين» والذين لا يرون إلا الخطأ في مواقف أميركا. هذا ما «اكتشفه» كريستوفر هيتشن الذي عمل طيلة عشرين سنة في مجلة «ذا نايشن» المعروفة بميولها الليبراليّة واليساريّة، ليصبح من أوائل الأصوات الأميركيّة الداعية إلى غزو العراق، وربّما أيضاً من أوائل الأصوات في الساحة الثقافيّة الأميركيّة الذي استخدم تعبير «الإسلام الفاشي» أو «الفاشيّة الإسلاميّة»، حيث تقاطعت مواقفه مع مواقف المحافظين الجدد دون أن ينتمي انتماءً كليّاً إلى
فكرهم.
إنّها «النازيّة ـــ القوميّة الاشتراكيّة» بثياب جديدة. لقد حذّرت النازيّة من النزعة اليسارية ودعتها باللا ألمانيّة، لأنها تقسّم الأمّة إلى قسمين، وترى خلافاً مريراً، جذوره طبقيّة، بين أبناء الأمّة الواحدة. ولهذا أصبح اليساريّون خطراً قومياً على الأمّة ووحدتها ورسالتها. وهكذا أصبحت الحرب الباردة في نظر «المحافظين الجدد»، حرباً بين الاتحاد السوفياتي واليساريّين، بمن فيهم الأميركيّون من جهة، والولايات المتحدة من جهة أخرى، أو قلْ بين الخير والشرّ.
في زمن المواجهة بين أميركا من جهة، والاتحاد السوفياتي واليساريين الأميركيّين من جهة أخرى، أصبح اليساريّون في نظر «المحافظين الجدد»، «أصدقاء سابقين» (و هذا عنوان كتاب كتبه بدورتز سنة 1999) ومعادين لأميركا، وأصبح المحافظون الجدد، «القوميّين الجدد».
كان لاعتلاء رونالد ريغان سدّة الرئاسة، الأثر في التقارب ما بين المحافظين الجدد ومحافظي الحزب الجمهوري التقليديّين. لقد تمثّل المحافظون الجدد في إدارة ريغان بكلّ من جين كاباتريك وريتشارد بيرل وإليوت أبرامز الذين كان أثرهم واضحاً في السياسة الخارجيّة التي اتّبعها ريغان، وخاصة في العلاقة مع الاتحاد السوفياتي الذي قال عنه ريغان تحت تأثير المحافظين الجدد «امبراطوريّة الشرّ».
كانوا يمثّلون المعارضة لنهج «ريل بوليتيك» (الواقعيّة السياسية)، التي اتّبعها هنري كيسنجر في عهد نيكسون، كما كانوا يمثّلون معارضة لنهج جيمي كارتر في السياسة الخارجيّة التي أدت إلى ترك كثيرين من المحافظين الجدد الحزب الديموقراطي، وانتقلوا في عهد ريغان إلى الحزب الجمهوري.
أثر اليهوديّة والتروتسكيّة
كثير من المثقفين الراديكاليين ممّن تحوّلوا إلى الفكر المحافظ، أتوا كما ذكرنا من أصول يهوديّة ويساريّة، ولهذا التحوّل تفسيرات عدّة.
أولاً، حالة الاستلاب والاغتراب التي كانت تمثّل جزءاً من حياة المثقّفين اليهود الأميركيّين. كانت الجامعات الأميركيّة في الثلاثينيات والأربعينيات وبداية الخمسينيات من القرن الماضي، تقبل عدداً محدّداً من الطلبة اليهود، وبصعوبة بالغة بدأت تقبل بعض الأساتذة من أصول يهودية في صفوفها. طبعاً حالة الاغتراب عند المثقّفين لم تكن حصراً في صفوف اليهود، بل تعدّت إلى طبقة المثقّفين من المسيحيّين أيضاً، لأنّ المثقّفين بصورة عامة كانوا «غرباء» في أميركا، حيث كانت ثقافة / طبقة رجال الأعمال والتجّار والمستثمرين هي المهيمنة، ما جعل تأقلم المثقّفين في الحياة الأميركيّة على درجة من الصعوبة. ولقد أدّى عدم «تأقلم» هؤلاء، وخاصة اليهود منهم، إلى انخراطهم في الفكر والممارسة اليسارية منذ مطلع الأربعينيات من القرن الماضي، لأن اليساريّة كانت تعني «الآخر» اللاأميركي.
ثانياً، هذه الشروط لم تعد موجودة في منتصف الخمسينيات، ما أدّى إلى تحوّل في حياة المثقّفين اليهود الفكريّة الذين بدأوا يرون في أميركا موضع آمال، ومكاناً تتحدّد فيه هويتهم النهائية. الانتماء إلى أميركا وثقافتها يصبح قريباً موضع فخر واعتزاز. ففي عام 1952، تبنّت مجلة «بارتيزان»، ورشة عمل بعنوان «بلدنا وثقافتنا». لقد حمل هذا العنوان أكثر من رسالة عن التحوّلات التي جرت في صفوف المثقّفين الأميركيّين على حدّ تعبير نورمن بودورتز، الأب الفعلي لحركة المحافظين الجدد، والذي كتب عن الحياة الثقافيّة في أميركا في تلك المرحلة من خلال سيرته الذاتيّة الفكريّة وعلاقته بأحداث تلك المرحلة الثقافيّة والفكريّة.
ثالثاً، وضع المثقّف بشكل عام، تحوّل من مشكوك حياله إلى ثقة في دوره في بناء المجتمع. وهذا ما بدا بوضوح تام بعد أن أطلق الاتحاد السوفياتي القمر الصناعي «سبوتنيك»، حيث اكتشفت أميركا أهمية المثقف والأستاذ في إعداد الجيل الجديد الذي حمل على عاتقه مهمة جعل أميركا ليست فقط مساوية للاتحاد السوفياتي، بل متفوّقة عليه. وهكذا بدأ المثقّفون والأكاديميّون يشقّون طريقهم إلى عالم النخبة المعوَّل عليه ردع التحدّي السوفياتي.
رابعاً، العداء الذي كان أصلاً مستحكماً بين الراديكاليين واليساريين والتروتسكيين إزاء الاتحاد السوفياتي «الستاليني»، وما يمثّله في الفكر الشيوعي. بكلمة أخرى، رأى اليساريّون التروتسكيّون واليساريّون المناهضون للاتحاد السوفياتي، في صراع واشنطن مع موسكو، صراعهم مع «الستالينيّة» السوفياتيّة، وهكذا «تبنّوا» مقولة «عدوّ عدوي صديقي». خامساً، كان لولادة إسرائيل كدولة يهودية وبدء علاقتها مع الولايات المتحدة، الأثر البارز والمسكوت عنه في تحوّل بعض المثقّفين اليهود اليساريين من اليسار إلى الليبراليّة، ومن ثم إلى قوميّين أميركيّين من خلال حركة المحافظين الجدد، وخاصة بعد حرب 1967، حيث أصبحت العلاقة الإسرائيليّة الأميركيّة أشدّ متانة وضرورة من العلاقات الأوروبيّة ـــ الإسرائيليّة. فعلاقة الولايات المتّحدة بما يجري وراء المحيط، والدور المتردّد بين أداء دور فاعل مؤثّر ومتأثّر في ما يجري في العالم الخارجي من جهة، أو الالتفاف والانحسار نحو الداخل وترك العالم الخارجي وشأنه من جهة أخرى، كان مدار نقاش وصراع بين القوى السياسيّة والثقافيّة المختلفة منذ بداية القرن العشرين. إنّ التأييد الأميركي المستمرّ لإسرائيل يتطلّب حضوراً أميركياً فاعلاً ومستمرّاً في الساحة الدوليّة، وأيّ انحسار للدور الأميركي على الساحة الدوليّة سيكون له أثر سلبي على مدى التزام الولايات المتحدة في تأييد إسرائيل وتغطيتها ومساعدتها، لأنها تمثّل جزءاً من الاستراتيجية الأميركيّة الكبرى في الشرق الأوسط.
إذاً، كان الحضور الأميركي العالمي ببعد من أبعاده، ضرورة لإسرائيل. كان لا بدّ من أن يكون للمثقّفين اليهود ذوي الميول الصهيونية، دور ثقافي وفكري فاعل في هذا التوجّه. وهذا ما ساهم في تحوّل البعض من يساريّة غامضة إلى «قوميّين أميركيّين»، من خلال حركة المحافظين الجدد التي ترى أنّ لأميركا وقيمها دوراً مهمّاً على المسرح العالمي.
وهنا يصحّ القول إنّه بالرغم من أهميّة الجذور التاريخيّة من خلال العودة إلى أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، فإنّ ظاهرة المحافظين الجدد تبقى ثمرة السبعينيات من القرن الماضي.
سادساً، من الثورة الدائمة إلى الغزو الدائم. هكذا كانت المسيرة الفكريّة لأبرز «المحافظين الجدد». كان لانتماء بعضهم إلى التيار التروتسكي والتيارات الراديكاليّة في بدايتهم الفكرية أثناء حياتهم الجامعيّة، أثر بالغ في تطوّرهم الفكري، ومن ثمّ تحوّلهم إلى فكر المحافظين الجدد. كانت «اليساريّة» بالنسبة إليهم تمثّل حالة اغتراب عن ذاتهم الأميركيّة الصافية، فحجبت عنهم أهمية الإنجازات الأميركيّة في كل الحقول، وخصوصا الحقل السياسي، حيث بدا لاحقاً النظام السياسي الأميركي بالنسبة إلى بدورتز ورفاقة، «أفضل ما أنتجته الحضارة الإنسانيّة حتى الآن». و«بعكس الماركسيّين»، كتب بدورتز: «لا أعتقد أنّ الاقتصاد يحدّد مسيرة التاريخ والأحداث، بل الفكر هو الذي يحدّد التاريخ وما يجري من أحداث». وهكذا بدا في نظر المحافظين الجدد، «المحافظون الواقعيّون»، كهنري كسينجر وجايمس بيكر وسكوكرف وغيرهم يمثلون الواقعيّة «الستالينيّة» (اشتراكيّة في بلد واحد). بينما كانوا (المحافظون الجدد)، يمثّلون عكس الستالينيّة، أي التروتسكيّة والثورة الدائمة. فبالرغم من تحوّلهم من اليسار، فقد «حافظوا على راديكاليتهم وطبائعم وأسلوبهم» على حدّ تعبير جاكوب هالبرن الذي كتب أخيراً عن التاريخ الفكري للمحافظين الجدد، أو كما قال أحدهم: لقد انتقلوا من الثورة الدائمة إلى الغزو الدائم.
* كاتب لبناني مقيم في الولايات المتّحدة الأميركيّة