ياسين تملالي *تأسّف برنار كوشنير كثيراً لـ«مقاطعة العرب للأفكار» بمقاطعتهم معرض باريس للكتاب. وأضاف متهكّماً، كعادته: «أتمنّى أن لا يقاطعوا بالمناسبة نفسها السلام الضروري». كان ذلك أياماً بعد تدفّق عشرات الآلاف من الفلسطينيّين على العريش هرباً من السلام الإسرائيلي الجميل.
لم يتساءل وزير الخارجية الفرنسي: لماذا يتمخّض سلام إسرائيل دائماً عن قتلى وجرحى وهجرات كانت ستثير ثائرة العالم لو كان المهاجرون مستوطنين من سديروت؟ غير أنّ كلامه لا يثير التعجّب في الحقيقة، فبرنار كوشنير معروف باحتقاره للفلسطينيين والعراقيين وكل المستضعفين. معروف بدفاعه الشرس عن «النظام العالمي الجديد» وإعجابه بغطرسة الساسة الأميركيين. ما يثير التعجّب هو ردّ فعل بعض المثقّفين الأوروبيين. ما دخل الثقافة بالسياسة؟ يتساءلون، مستلهمين أقوال أحد جلّادي الشعب الفلسطيني «المعتدلين»، شيمون بيريز، وهو يفتتح معرض باريس.
هكذا تسير الحياة على كوكبنا الجديد. كوكب لا معنى فيه لـ«التزام المثقّف» و«استقلاليّته المعنويّة» وغيرهما من الصفات العتيقة المستهلكة. كوكب قطع صلته بماضيه. ذلك أن الفلسطينيّين والعرب لم يبتدعوا شيئاً بمزجهم السياسة بالثقافة تنديداً بكيان استعماري لا يحترم «القانون الدولي»، فضلاً عن أبسط الأعراف الإنسانية. كيان يفتتح رئيسه صالونات «الحوار الثقافي»، فيما تدكّ مدفعيّته مساكن المدنيّين.
لم يبتدع الفلسطينيون والعرب شيئاً، فالتاريخ الحديث حافل بـ«المقاطعات» الثقافية، «مقاطعات» أبطالها أوروبيون بالأساس. أيذكر هؤلاء المثقفون ـ ممن يعدّون «القانون الدولي» إنجيلهم بعد أن قلّت الأناجيل ـ أن الأمم المتحدة أنشأت نظام مقاطعة صارماً بهدف إجبار نظام الأبارتيد في جنوب أفريقيا على الاعتراف بحقوق السود، وأن المقاطعة شملت، بالإضافة إلى المجالين السياسي والعسكري، كل المجالات العلمية والثقافية
والفنية؟
وهل يذكرون أن الجمعية العامة للأمم المتحدة دعت سنة 1968 كل الدول والمنظمات إلى «تعليق كل المبادلات ذات الطابع الثقافي والتربوي» مع هذا النظام العنصري ومنظماته ومؤسساته؟ هل يذكرون أن اليونسكو، وهي منظمة تعنى بالثقافة لا بالسياسة، أسهمت إسهاماً فعالاً في تنفيذ قرارات هذه الجمعية؟ لم يُدن المثقّفون آنذاك خلط السياسة بالثقافة، ولم يتحسّروا على ما نتج منه من «عزلة معنوية» لأندريه برينك ونادين غورديمر وغيرهما من كتاب أفريقيا الجنوبية المناهضين للأبارتيد. كان زمناً مختلفاً. لم يكن همّ المثقّفين الوحيد الترويج لأتفه خزعبلاتهم في وسائل الإعلام.
حتى الرياضة لم تكن يوماً بمنأى عن السياسة. أليست «المقاطعة الرياضية» إحدى أكثر وسائل الاحتجاج السياسي شيوعاً؟ يكفي أن ننظر إلى تاريخ الألعاب الأولمبية: في 1956 قاطعت هولندا وإسبانيا ألعاب ملبورن احتجاجاً على التدخّل الروسي في المجر. وفي 1980، رفضت الولايات المتحدة و65 بلداً آخر المشاركة في دورة موسكو احتجاجاً على غزو الاتحاد السوفياتي لأفغانستان. وفي 1984، رفضت دول حلف وارسو المشاركة في دورة لوس أنجلس عقاباً لأميركا وحلفائها على مقاطعة دورة موسكو! واليوم، أليس برنار هنري ليفي ـ وهو أحد أشرس المندّدين برفض العرب المشاركة في معرض باريس ـ في طليعة الداعين إلى مقاطعة أولمبياد بكين بحجة انتهاك النظام الصيني لحقوق الإنسان واحتلاله منطقة التيبت ومساعدته سلطات الخرطوم على قمع انتفاضة دارفور؟ ترى، ما دخل السياسة بالرياضة؟
قد يردّ البعض بالقول: من المبالغة تشبيه «إسرائيل الديموقراطية» بالصين الديكتاتورية أو بنظام التمييز العنصري في جنوب أفريقيا. لماذا لا يصحّ أن نقارن احتلال التيبت باحتلال فلسطين؟ ألأنّ نظام الحكم في تل أبيب مبني على تعدّد الأحزاب؟ أم لأنّ فلسطين بنص التوراة هي «أرض إسرائيل»؟ ولماذا تستحيل مقارنة إسرائيل ببريتوريا البائدة السيّئة الذكر؟ ألأنّ عرب 1948 «يحظون» بالجنسيّة الإسرائيليّة؟ ماذا عن «البانتوستانات» الجديدة؟ ماذا عن «نقاط التفتيش»؟ ماذا عن حقوق أهل الضفّة
والقطاع؟
ولكن، لنتجنّب هذا الجدل، ولنبقَ في مجال القانون الدولي، معبود «المثقّفين الجدد» الجديد. لنتذكّر مثلاً أنّ ما شرع جزءاً كبيراً من العقوبات بحق جنوب أفريقيا كان حكماً استشارياً أصدرته محكمة العدل الدولية في 1971، ورأت فيه احتلال ناميبيا غير شرعي. ولنطرح السؤال: ألم تصدر المحكمة الدولية نفسها في 9 تموز / يوليو 2004 حكماً يدين «الجدار الفاصل» واستحواذ إسرائيل على أراض عربية كثيرة؟ لماذا لم يتبع هذا الحكم بأي إجراء
ملموس؟
ثم ماذا لو اقترح بعضهم أن يكون ضيف الشرف في معرض باريس المقبل دولة الصين؟ ستضيق عليه الأرض بما رحبت، وسيجابَه بالأدلّة القاطعة والحجج الدامغة على أن النظام الصيني ديكتاتورية لا شبيه لها، ديكتاتورية توسعية تضطهد التيبتيين وتنوي ضم تايوان... وستتبارى وسائل الإعلام «الحرّة» في التذكير بجرائم الحزب الشيوعي العديدة، وستسيل دماء ضحاياه سيلاناً على شاشات التلفزيون، وسينسى من يدينون اليوم مقاطعة الناشرين العرب المعرض الفرنسي ذاته رفضهم «الخلط بين السياسة والثقافة»، بل سيدعون إلى صهرهما صهراً تاماً نهائياً باسم «المبادئ الإنسانية»، تلك المبادئ التي يتملّصون منها حالما يتعلق الأمر بإسرائيل.
* صحافي جزائري