ماذا نعني حين نقول «ساركوزي»؟ننشر في ما يلي ترجمة لمقالة للفيلسوف الفرنسي ألان باديو، نشرتها في عددها الأخير مجلّة «نيولفت ريفيو»، وهي تستند إلى كتاب صدر له بالفرنسيّة تحت عنوان «ماذا نعني حين نقول ساركوزي؟»، وستصدر ترجمته الإنكليزية هذا العام عن دار «فيرسو»ألان باديو
ساد جو من الإحباط في فرنسا على أثر انتصار ساركوزي. يقال غالباً إنّ اللطمات غير المتوقّعة هي الأسوأ، لكن تلك المتوقّعة تثبت أحياناً أنّها شديدة الوطأة، وإن بشكل مختلف. فيمكن فوز مرشح كان متقدماً في استطلاعات الرأي منذ بداية الانتخابات أن يثبط الهمة بشكل غريب، تماماً مثل فوز الجواد المفضل في السباق؛ أيّ امرئ يميل إلى الرهان، أو المخاطرة، أو الاستثناء أو تفجر الأمور يفضّل رؤية دخيل يقلب الأرجحية. لكن يصعب أن يكون مجرد فوز نيكولا ساركوزي بالرئاسة هو ما يبدو أنّه مثّل مثل هذه اللطمة المربكة لليسار الفرنسي نتيجة ما جرى في أيار/ مايو 2007. فثمة أمر آخر كان على المحك ـ مجموعة مركبة من العوامل ليس ساركوزي إلا اسماً لها. فكيف يجب أن يُفهم ذلك؟
أحد العوامل الأساسية كان الطريقة التي أكدت فيها النتائج العجز الواضح لأي برنامج محرّر حقيقي ضمن النظام الانتخابي: فالأفضليات تُسجّل كما ينبغي على طريقة مرسمة الزلازل السلبية، لكن العملية هي عملية تستثني بطبيعتها كل تجسيدات الإرادة السياسية المنشقة. المركّب الثاني للارتباك المحبط الذي حل باليسار بعد أيار/ مايو 2007 كان نوبة غامرة من الحنين التاريخي. فالنظام السياسي الذي انبعث من الحرب العالمية الثانية في فرنسا ـ مع دالّتين غير ملتبستين هما «اليسار» و«اليمين»، والإجماع الذي تشاطره الديغوليون والشيوعيون على حد سواء، على النظرة إلى الاحتلال والمقاومة والتحرير ـ قد انهار الآن. ويمثّل ذلك أحدَ الأسباب الكامنة وراء مآدب العشاء المتفاخرة التي يتناولها ساركوزي، وقضائه العُطل على متن اليخوت وإلى ما هنالك ـ هي طريقة للقول إنّ اليسار ما عاد يخيف أحداً: فليحيَ الأغنياء وتباً للفقراء. ويمكن أن يتفهم المرء أن يملأ ذلك النفوس الصادقة لدى اليسار بحنين إلى الأيام الخوالي ـ أيام ميتران وديغول ومارشيه وحتى شيراك، بريجنيف الديغوليين، الذين أدركوا كلّهم أنّ عدم الإتيان بأي تحرك هو أسهل طريقة لترك النظام يموت. قضى ساركوزي أخيراً الآن على الديغولية الموهنة للغاية التي كان يترأسها شيراك. وكان انهيار الاشتراكيين قد سرّعته هزيمة جوسبان في انتخابات 2002 الرئاسية (وأكثر بعد القرار الكارثي بتطويق شيراك في الجولة الثانية). لكنّ التفكّك الحالي في الحزب الاشتراكي لا يعود إلى فقره السياسي فحسب، الذي أضحى واضحاً منذ سنوات عديدة الآن، ولا إلى الحجم الحالي للتصويت ـ 47 في المئة ليست أسوأ بكثير من المعدلات المسجلة سابقاً. إنّ انتخاب ساركوزي يبدو أنّه وجّه لطمة إلى كل البنية الرمزية للحياة السياسية الفرنسية... ويتمثل أحد العوارض المهمة لهذا الارتباك بعدد الموظفين الحكوميين الاشتراكيين السابقين المسرعين إلى أخذ مواعيد مع مسؤولين من أتباع ساركوزي؛ وصانعو الرأي في قلب اليسار يثنون عليه؛ فبأعداد مدهشة فرّت الجرذان من السفينة التي تغرق. والأساس المنطقي وراء ذلك هو منطق الحزب الواحد طبعاً: بما أنّ الجميع يتقبل منطق النظام الرأسمالي القائم واقتصاد السوق وإلى ما هنالك، فلماذا الإبقاء على خيال الأحزاب المعارضة؟
نشأ المركّب الثالث للإرباك المعاصر من نتائج الصراع الانتخابي بحد ذاته. وقد صنّفتُ انتخابات 2007 الرئاسية ـ التي شهدت مواجهة مباشرة بين ساركوزي ورويال ـ بأنّها صدام بين نوعين من الخوف. الخوف الأول هو ذاك الذي شعر به أصحاب الامتيازات، وقد تنبّهوا إلى أنّ مواقعهم قد تتعرض للمهاجمة. في فرنسا، يتجلى ذلك بخوف من الأجانب، من العمال، من شباب الضاحية، من المسلمين والأفارقة السود. ولأنّ هذا الخوف يحث على اتخاذ موقف محافظ بشكل جوهري، ينشئ توقاً إلى سيد قادر على تأمين الحماية، وحتى إلى سيد يزيدك قمعاً وفقراً. والتجسيد الحالي لهذه الشخصية هو حتماً قائد الشرطة المفرط الحماسة: ساركوزي. بلغة انتخابية، لا يُواجه ذلك بتوكيد مدوٍّ لتباين عن الأصل يثبت ذاته، بل بخوف من الخوف: خوف أيضاً من صورة الشرطي الذي لا يعرفه الناخب البورجوازي الصغير ولا يحبه. هذا «الخوف من الخوف» هو عاطفة ثانوية مشتقة، ويكاد يتعذر تبيان فحواها ـ أبعد من الشعور بحد ذاته؛ ليس لدى معسكر رويال مفهوم عن أي تحالف مع المبعدين أو المقموعين؛ أقصى ما استطاع التفكير فيه كان حصد المكاسب الملتبسة المتأتية عن الخوف. وبين الطرفين، ساد توافق تام بالنسبة إلى فلسطين وإيران وأفغانستان (حيث تقاتل القوات الفرنسية) ولبنان (الكلام نفسه)، وأفريقيا (التي تعج بـ«المديرين» الفرنسيين العسكريين). فلم تكن المناقشات العلنية المتعلقة بالخيارات المتاحة في تلك المسائل على جدول أعمال أيّ من الفريقين.
حُسم الصراع بين الخوف الأول و«الخوف من الخوف» لمصلحة الأول. ولعب العمل اللاإرادي الفطري دوره هنا، فبدا واضحاً جداً على وجوه الذين يحتفلون بانتصار ساركوزي. بالنسبة إلى الذين تملّكهم «الخوف من الخوف»، حدث عمل لاإرادي سلبي مقابل، وقد أجفلتهم النتيجة: فكان ذلك المركّب الثالث للإرباك المحبط الذي ساد عام 2007. ويجب ألّا نقلل من أهمية دور ما سمّاه ألتوسر «جهاز الدولة الإيديولوجي» ـ بشكل متزايد عبر الصحف، لكونها تؤدّي دوراً أكثر تطوراً من التلفزيون والراديو ـ في صياغة مثل هذه المشاعر الجماعية وتعبئتها. فضمن العملية الانتخابية، جرى إضعاف الواقع، كما يبدو؛ وهي عملية مقدّمة لـ«الخوف من الخوف»، الذي يأتي في المرحلة الثانية، أكثر مما هي عليه بالنسبة إلى الخوف الأوّلي الارتكاسي. فنحن نقوم بردود فعل، في النهاية، حيال وضع حقيقي، حيث «الخوف من الخوف» يحدث فقط وفق ردّ الفعل ذاك، وهو بالتالي يبقى على مسافة من الواقع. وتتجلى المسافة الفارغة الفاصلة عن الواقع بالنسبة إلى هذا الموقف بوضوح تام في الانفعالات الفارغة لسيغولين رويال.
الانتخابيّة والدولة
إذا وضعنا تحديداً للسياسة بأنها «عمل جماعي، تنظمه مبادئ معينة ويهدف إلى كشف نتائج إمكان جديد يقمعها حالياً النظام المهيمن»، فعندئذ علينا أن نخلص إلى القول إنّ الآلية الانتخابية هي، في الجوهر، إجراء غير متصل بالسياسة. ويمكن رؤية ذلك في الهوة بين الضرورة الملحّة الشكلية القوية للانتخاب والطبيعة غير المتجذرة، إن لم تكن المنعدمة الوجود، للقناعات الإيديولوجية أو السياسية. جيّد أن أنتخب، أن أمنح مخاوفي شكلاً؛ لكن من الصعب الاعتقاد بأن ما أصوّت له أمر جيد بحد ذاته. لا يُقصد بهذا الكلام أنّ النظام الانتخابي الديموقراطي هو قمعي بحد ذاته؛ بل إنّ العملية الانتخابية مندرجة ضمن شكل دولة، الشكل الرأسمالي ـ البرلماني، الملائم للحفاظ على النظام القائم، والذي يؤدي، بالتالي، وظيفة محافظة. وينشئ ذلك شعوراً إضافياً بالعجز: فإذا لم يملك المواطنون العاديون أيّ وسيلة للسيطرة على صنع القرار الحكومي باستثناء التصويت، فمن الصعب أن نرى أي طريق متقدم يمكن أن يظهر أمام السياسات التحرّريّة.
إن لم تكن الآلية الانتخابية عملية سياسية بل عملية تتعلق بالدولة، فماذا تحقق؟ باستخلاص العبر من 2007، تكمن إحدى النتائج في إدراج كل من الخوف و«الخوف من الخوف» ضمن الدولة ـ في منح الدولة هذين العنصرين الذاتيين الجماعيين، والأفضل تشريعها بموضع خوف بحد ذاتها، مجهزة للإرعاب والإكراه.
ذلك أنّ الأفق العالمي للديموقراطية يُحدّد بالحرب بشكل متزايد. فالغرب ملتزم عدداً متوسعاً من الجبهات: فالحفاظ على النظام القائم مع تبايناته العملاقة يضم مركّباً عسكرياً لا يمكن اختزاله؛ ولا يمكن الإبقاء على ثنائية العالم، الغني والفقير، إلّا بالقوة. وينشئ ذلك جدلية خاصة بالحرب والخوف. تشرح حكوماتنا بالقول إنّها تخوض حرباً في الخارج من أجل أن تحمينا في الداخل. فإذا لم تطارد الجيوشُ الغربية الإرهابيين في أفغانستان أو الشيشان، سيأتون إلى ديارنا لتنظيم المنبوذين الرعاع المتذمّرين.
البيتانيّة الجديدة الاستراتيجيّة
في فرنسا، عُرف تحالف الخوف والحرب هذا كلاسيكيّاً باسم «البيتانيّة». والإيديولوجيّة العامة للبيتانيّة ـ التي كانت مسؤولة عن نجاحها الواسع الانتشار ما بين 1940 و1944 ـ كانت تقوم جزئياً على الخوف الذي ولّدته الحرب العالمية الأولى: فالمارشال بيتان يستطيع حماية فرنسا من الآثار الكارثية التي ستولّدها الحرب العالمية الثانية، عبر إبعادها عنها. وفق تعابير المارشال الخاصة، كان ضرورياً الخوف من الحرب أكثر من الهزيمة. وقبلَتْ الغالبيّة العظمى من الفرنسيّين الهدوء النسبي الذي خلّفته هزيمة متوافق عليها، وأفلت معظمهم من عواقبها إلى حد ما في خلال الحرب، مقارنةً بالروس أو حتى الإنكليز. ويقوم المشروع المشابه اليوم على الاعتقاد القائل إنّ الفرنسيّين بحاجة فقط إلى قبول قوانين النموذج العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية، فتسير كل الأمور على ما يرام: ستكون فرنسا بمأمن من الآثار الكارثية للحرب والتفاوت العالمي. يعرض الطرفان فعلياً اليوم هذا الشكل للبيتانيّة الجديدة كإيديولوجية جماهيرية. وفي ما يلي، سأحاول أن أثبت أنّه عنصر تحليلي أساسي في فهم الإرباك الذي يحمل اسم «ساركوزي».
لا أقول طبعاً إنّ الظروف اليوم تشبه هزيمة 1940، أو إنّ ساركوزي يشبه بيتان. فالنقطة التي أريد الإشارة إليها أكثر شكلية: وهي أنّ الجذور الوطنية ـ التاريخية اللاواعية لما يُسمّى «ساركوزي» تقوم في هذا الشكل البيتاني، وفيه تجسّد الإرباك نفسه علانية في رأس الدولة، فمثّل منعطفاً تاريخياً. وشكلت هذه المصفوفة (Matrix) نموذجاً يتكرّر دورياً في التاريخ الفرنسي. وهي تعود إلى حوادث عام 1815، حين أعيدت حكومة بعد الثورة، يدعمها بقوة مهاجرون وانتهازيّون، في قطار الأمتعة وأعلنت، بموافقة شعب منهك، أنها ستعيد المبادئ الأخلاقية العامة والنظام. عام 1940، أدت الهزيمة العسكرية من جديد دور الإطار العام للانقلاب المربك للمضمون الحقيقي لعمل الدولة: لم تتوقف حكومة فيشي عن الكلام على «الأمة»، مع أنّ الاحتلال الألماني هو الذي نصّبها؛ وكان على الأعضاء في حكومة القلة الأكثر فساداً أن يقودوا البلاد خارج الأزمة الأخلاقية؛ بيتان نفسه، القائد العسكري المتقدم في السن، كان يجسد الانبعاث الوطني.
تظهر أوجه عديدة لهذا التقليد البيتاني الجديد بوضوح اليوم. ويُقدَّم الاستسلام والخنوع نموذجياً كابتكار وتجديد. وقد مثّلت هذه مواضيع رئيسة في حملة ساركوزي: فرئيس بلدية نويي سيغير أحوال الاقتصاد الفرنسي ويعيد البلد إلى العمل. والمضمون الحقيقي هو طبعاً سياسة انصياع مستمر لمطالب النظام المالي، باسم التجديد الوطني. الميزة الثانية هي مسألة انحطاط و«أزمة أخلاقية» تبرر الإجراءات القمعية المتخذة باسم التجديد. وغالباً ما يجري الكلام على الأخلاقية بدلاً من السياسة وضد أي تعبئة شعبية. فتتم مناشدة فضائل العمل الشاق والانضباط والعائلة: «يجب مكافأة الفضيلة». يجري التحضير لهذا الإبدال النموذجي للسياسية بالأخلاقية منذ «فلاسفة» السبعينات الجدد وحتى الآن، عبر كل الذين جهدوا من أجل «إضفاء صفة أخلاقية» على الحكم التاريخي. والهدف في الحقيقة سياسي: فالمحافظة على هذا التراجع الوطني لا علاقة له بخدام الرأسمالية الرفيعي المستوى، بل تسبب به بعض عناصر الشعب السيئي النيات ـ حالياً العمال الأجانب وشباب الضاحية.
الميزة الثالثة للبيتانية الجديدة هي الوظيفة النموذجية للخبرة الخارجية. فمثال التصحيح يأتي دائماً من الخارج، من دول تخطت أزماتها الأخلاقية منذ أمد. بالنسبة إلى بيتان، تجسدت الأمثلة المنيرة بإيطاليا موسوليني وألمانيا هتلر وإسبانيا فرانكو: زعماء أعادوا إيقاف دولهم على أقدامها: ففلسفة الجمال السياسية هي فلسفة التقليد: مثل خالق الكون المادي لدى أفلاطون، يجب على الدولة أن تقولب المجتمع من دون أن تفارق نظرها النماذج الأجنبية. والمثلان اليوم هما طبعاً أميركا بوش وبريطانيا بلير.
تكمن الميزة الرابعة في المفهوم القائل إنّ مصدر الأزمة الحالية يتجسّد في حدث كارثي ماض. بالنسبة إلى البيتانية الأولية عام 1815، ظهر ذلك طبعاً في الثورة وقطع رأس الملك. بالنسبة إلى بيتان نفسه عام 1940، تمثل ذلك بالجبهة الشعبية، وحكومة بلوم، وأكثر من كل ذلك، بالإضرابات الكبيرة واحتلال المصانع سنة 1936. فقد فضلت الطبقات المالكة إلى حد بعيد الاحتلال الألماني على الخوف الذي ولّدته هذه الاضطرابات. بالنسبة إلى ساركوزي، أشير باستمرار إلى شياطين أيار/ مايو 68 ـ منذ أربعين سنة ـ على اعتبار أنّها سبب «أزمة القيّم» الحالية. تؤمن البيتانية الجديدة قراءة مبسطة بشكل مفيد للتاريخ تربط حدثاً سلبياً، جرى عادة مع طبقة عاملة أو بنية شعبية، بحدث إيجابي، تم ضمن بنية عسكرية أو بنية تتعلق بالدولة، كحل للأول. وبالتالي يمكن استخدام التطورات المستمرة ما بين 1968 و2007 مصدر شرعية لحكومة ساركوزي، باعتبارها العنصر التاريخي الذي سينطلق أخيراً في التصحيح اللازم نتيجة الحدث الأولي الضار. وأخيراً، هناك عامل العنصرية. في عهد بيتان، كان يجري التعبير عن ذلك بفظاظة: التخلص من اليهود. بيد أنّ التعبير عنه اليوم يجري بشكل تلميحي أكثر: «لسنا عرقاً أدنى منزلة» ـ والمعنى الضمني هو «على عكس آخرين»؛ «على الفرنسي الحقيقي ألّا يشكّ في مشروعية أعمال بلده» ـ في الجزائر وسواها. وعلى ضوء هذه المعايير، يمكننا أن نشير إلى النقطة التالية: الإرباك الذي يحمل اسم «ساركوزي» يمكن أن يُحلّل باعتباره التجسيد الأخير لمذهب السموّ البيتاني.
الشبح
للوهلة الأولى، قد يبدو ثمة أمر غريب في إصرار الرئيس الجديد على أن يكون حل الأزمة الأخلاقية التي تعيشها البلاد، هدف عملية «التجديد» التي يقوم بها، «التخلص من أيار/ مايو 68 مرة واحدة ونهائية». والانطباع الذي ساد بين معظمنا أنّه تاريخ انقضى منذ زمن على أي حال. فما الذي يطارد النظام، تحت اسم أيار/ مايو 68؟ لا يمكننا إلّا الافتراض بأنه «شبح الشيوعية»، في أحد تجسيداتها الحقيقية الأخيرة. كان ليقول (نشخص كلاماً ساركوزياً): «نرفض أن يطاردنا أي شيء. لا يكفي أن تختفي الشيوعية الاختبارية. نريد أن يختفي كل شكل ممكن لها. حتى الفرضية الشيوعية ـ التسمية العامة لهزيمتنا ـ يجب أن تصبح غير قابلة للذكر».
ما هي الفرضية الشيوعية؟ بالمعنى العام المذكور في البيان الرسمي المعترف به، تعني «الشيوعية» أولاً أنّ منطق الطبقية ـ تبعية العامل الأساسية لطبقة مسيطرة، وهو التنظيم القائم منذ العصور القديمة ـ غير حتمي؛ يمكن التغلب عليه. تقول الفرضية الشيوعية إنّه يمكن إقامة تنظيم جماعي مختلف، ترتيب سيلغي الفوارق في الثروات وحتى تقسيم العمل. وسيختفي الاستملاك الخاص للثروات الكبيرة وتناقلها عبر الوراثة. ولن يبدو وجود دولة إكراهية، منفصلة عن المجتمع المدني، ضرورة: فستشق طريقَها المدمرة عمليةٌ طويلة من إعادة التنظيم القائمة على تشارك حر بين المنتجين.
تشير «الشيوعية» بحد ذاتها فقط إلى هذه المجموعة العامة جداً من التصورات الفكرية. هذا ما سمّاه كانط «فكرة»، ذات وظيفة تنظيمية بدلاً من برنامج. ومن السخافة وصف مثل هذه المبادئ الشيوعية باليوتوبية؛ فبالمعنى الذي حددتها بها هنا، إنّها نماذج فكرية، دائماً تتحقق بشكل مختلف. كـ«فكرة» عدالة صرفة، لا شك في أنّ الفرضية الشيوعية وُجدت منذ بدايات الدولة. فعندما يقاوم تحرّك جماهيري إكراه الدولة باسم عدالة التساوي، تبدأ بذور الفرضية أو نتف منها بالظهور. ويمكن اعتبار الثورات الشعبية ـ العبيد بقيادة سبارتاكوس، والفلاحون بقيادة مانتزر ـ أمثلة عملية عن هذه «الثابتة الشيوعية». ومع الثورة الفرنسية، دشنت الفرضية الشيوعية عهد الحداثة السياسيةيبقى أن نحدد في أي مرحلة من تاريخ الفرضية الشيوعية نجد أنفسنا الآن. ستُظهر لوحة تمثل العصر الحديث سلسلتين متعاقبتين كبيرتين من تطورها، تفصل بينهما هوة مؤلفة من أربعين سنة. تختص السلسلة المتعاقبة الأولى بنشوء الفرضية الشيوعية؛ فيما ترتبط الثانية بالمحاولات التمهيدية لتحقيقها. تمتد السلسلة المتعاقبة الأولى من الثورة الفرنسية إلى حكومة باريس الثورية؛ فلنقل من 1792 إلى 1871، وهي تربط التحرك الجماهيري الشعبي بالإمساك بالسلطة، عبر قلب النظام القائم بالعصيان المسلح؛ وقد ألغت هذه الثورة أشكال المجتمع القديمة وأقامت «مجتمع المتساوين». في غضون القرن، أصبح التحرك الشعبي، الذي لم يتخذ شكلاً محدداً وتألف من سكان المدن والحرفيين والطلاب، بقيادة الطبقة العاملة بشكل متزايد. وبلغت السلسلة المتعاقبة ذروتها في البدعة المدهشة ـ والهزيمة الجذرية ـ المتمثلة بحكومة باريس الثورية. إذ أظهرت حكومة باريس الثورية كلاً من القوة الاستثنائية لهذا الاتحاد بين التحرك الشعبي وقيادة الطبقة العاملة والعصيان المسلح، ومحدودياته: إذ لم يستطع أنصار ثورة باريس العامية لا تثبيت الثورة على أساس وطني ولا الدفاع عنها بوجه القوى المدعومة من الخارج، قوى الثورة المضادة.
تمتد السلسلة المتعاقبة الثانية للفرضية الشيوعية من 1917 إلى 1976: من الثورة البلشفية إلى نهاية الثورة الثقافية وبروز النضال المفاجئ والسريع في كل أنحاء العالم في خلال 1966-1975. وقد سيطر عليها السؤال التالي: كيف يُحقَّق النصر؟ كيف الصمود ـ على عكس حكومة باريس الثورية ـ بوجه رد الفعل المسلح للطبقات المالكة؟ كيف تُنظم السلطة الجديدة لحمايتها من انقضاض أعدائها؟ لم تعد المسألة مسألة صياغة الفرضية الشيوعية واختبارها، بل مسألة تحقيقها: فما حلم به القرن التاسع عشر، حققه القرن العشرون. ووجد الهوس بالانتصار المتمحور حول مسائل تنظيمية التعبير الرئيس عنه في «الانضباط الحديدي» للحزب الشيوعي ـ البناء المميز للسلسلة المتعاقبة الثانية للفرضية. وقد حل الحزب فعلياً المسألة الموروثة من السلسلة المتعاقبة الأولى: سادت الثورة، إمّا عبر العصيان المسلح أو الحرب الشعبية المطوّلة في روسيا والصين وتشيكوسلوفاكيا وكوريا والفييتنام وكوبا، ونجحت في إقامة نظام جديد.
ولكن السلسلة المتعاقبة الثانية بدورها أنشأت مشكلة إضافية لم يكن حلها ممكناً عبر استخدام الطرائق التي بلورتها كرد فعل لمشاكل السلسلة الأولى. فقد كان الحزب بمثابة أداة ملائمة لقلب الأنظمة الرجعية المضعفة، ولكن تبيّن أنه غير ملائم لبناء «ديكتاتورية البروليتاريا» بالمعنى الذي قصده ماركس ـ وهو دولة مؤقتة تنظم الانتقال إلى اللادولة: «ذبولها» الجدلي. وبدلاً من ذلك، تطور الحزب ـ الدولة ليصبح شكلاً جديداً من الاستبدادية. وقام بعض هذه الأنظمة بخطوات حقيقية في التربية والصحة العامة والتشديد على قيمة العمل وغيرها؛ وقيّد دولياً غطرسة القوى الإمبريالية. لكن مفهوم الدولة بحد ذاته أثبت أنه فاسد وغير فعال على المدى الطويل. فلم يستطع إكراه الشرطة على إنقاذ الدولة «الاشتراكية» من الجمود البيروقراطي الداخلي؛ وفي خلال خمس عشرة سنة، بدا واضحاً أنّها لن تفوز في المنافسة الشرسة التي فرضها أعداؤها الرأسماليون. ويمكن فهم آخر الاضطرابات الكبيرة التي شهدتها السلسلة المتعاقبة الثانية ـ الثورة الثقافية وأحداث أيار/ مايو، بمعناها الأوسع ـ كمحاولات للتعامل مع لاملاءمة الحزب.
فصول إضافيّة
بين نهاية السلسلة المتعاقبة الأولى وبداية الثانية، سادت فترة فاصلة في خلالها أعلن أنّ الدفاع عن الفرضية الشيوعية أمر متعذر: شهدت العقود التي تتالت من 1871 إلى 1914 انتصار الإمبريالية عبر الكرة الأرضية. ومنذ نهاية السلسلة المتعاقبة الثانية في السبعينات، عرفنا فترة فاصلة مشابهة ثانية، مع تصاعد نجم العدو مرة أخرى. الذي كان على المحك في هذه الظروف هو البداية المتوقعة لسلسلة متعاقبة جديدة للفرضية الشيوعية. لكن بدا واضحاً أنّها لن تكون ـ ولا تستطيع أن تكون ـ استمراراً للثانية. فالماركسية وحركة العمال والديموقراطية الجماهيرية واللينينية والحزب البروليتاري والدولة الاشتراكية ـ كل اختراعات القرن العشرين ـ لم تعد مفيدة فعلياً بالنسبة إلينا. هي تستحق حتماً مزيداً من الدراسة والتمعن على المستوى النظري؛ ولكن على مستوى السياسة العملية، أصبح العمل بها متعذراً. فقد انتهت السلسلة المتعاقبة الثانية ومن غير المجدي محاولة إعادتها.
في مرحلة كهذه، وإبّان فترة فاصلة يهيمن فيها العدو، ليس ممكناً التأكد من ميزة السلسلة المتعاقبة الثالثة عندما تكون التجارب الجديدة محصورة بشكل ضيق. لكن يبدو ممكناً تبيان الاتجاه العام: فسوف يتضمن علاقة جديدة بين التحرك السياسي والمستوى الإيديولوجي ـ مستوى جرى تصوّره مسبقاً في تعبير «الثورة الثقافية» أو في فكرة عام 68 المتعلقة بـ«ثورة الفكر». لا نزال نحفظ الدروس النظرية والتاريخية التي انبعثت من السلسلة المتعاقبة الأولى، ومحورية الانتصار التي انبعثت من السلسلة المتعاقبة الثانية. لكن الحل لن يكمن لا بالتحرك الشعبي الذي لا شكل له أو المتعدد الأشكال الذي أوحى به فكر العامة ـ كما يعتقد نيغري والمناهضون للعولمة ـ ولا بالحزب الشيوعي الجماهيري المتجدد والمدمقرط، كما يأمل بعض التروتسكيين والماويين. فتحرك (القرن التاسع عشر) وحزب (القرن العشرين) كانا صيغتين خاصتين للفرضية الشيوعية؛ ولم تعد العودة إليهما بالأمر الممكن. بدلاً من ذلك، وبعد التجارب السلبية التي خاضتها الدول «الاشتراكية» والدروس الملتبسة للثورة الثقافية وأحداث أيار/مايو 68، تقضي مهمتنا بإعادة الفرضية الشيوعية إلى الوجود بصيغة مختلفة لمساعدتها على الاندماج ضمن أشكال جديدة من التجربة السياسية. لهذا السبب، عملُنا معقّد وتجريبي إلى هذه الدرجة. فيجب أن نركّز على الظروف الملائمة لوجودها، لا على تحسين منهجيّاتها وحسب. وينبغي أن نعيد توطيد الفرضيّة الشيوعيّة ـ الافتراض القائل إنّ تبعية العمال للطبقة المتسلطة ليست حتمية ـ ضمن الميدان الإيديولوجي.
ما الذي قد يتضمنه ذلك؟ تجريبياً، قد نتصور إيجاد نقطة تقع خارج زمنية النظام المسيطر وما سمّاه لاكان يوماً «خدمة الثروة». أيّ نقطة، شرط أن تكون في تعارض شكلي مع مثل هذه الخدمة، وتؤمن القاعدة لحقيقة كونية. فقد تكون: «ثمة عالم واحد فقط». ما الذي يعنيه هذا الكلام ضمنياً؟ تتفاخر الرأسمالية العصرية طبعاً بأنها أنشأت نظاماً عالمياً؛ ويتكلم مناوئوها أيضاً على «مناهضة العولمة». جوهرياً، يقترحون تحديداً للسياسة كوسيلة عملية للانتقال من العالم كما هو إلى العالم كما نرغب في أن يكون. ولكن هل هناك عالم أوحد للبشر؟ «العالم الواحد» للعولمة هو فقط عالم واحد لأشياء ـ أغراض للبيع ـ وإشارات نقدية: السوق العالمية كما تنبّأ بها ماركس. تُمنع الأغلبية الساحقة من البشر، في أفضل الأحوال، من دخول هذا العالم. فهم محرومون دخوله، غالباً بالمعنى الحرفي للتعبير.
كان يُفترض بسقوط جدار برلين أن يشير إلى حلول العالم الأوحد، عالم الحرية والديموقراطية. لكن بعد عشرين سنة، تبيّن أنّ جدار العالم قد تبدّل بكل بساطة: فبدل أن يفصل ما بين الشرق والغرب، إنه يفصل الآن الشمال الرأسمالي الغني عن الجنوب الفقير والمخرّب. وتُبنى جدران جديدة في أرجاء العالم أجمع: بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بين المكسيك والولايات المتحدة، بين أفريقيا والبلاد الإسبانية، بين مُتَع الثروة ورغبات الفقراء، سواء كانوا مزارعين في القرى أو سكان المدن في الضواحي ومدن الأكواخ. وثمن عالم الرأسمال، الذي يفترض أنه موحد، هو الانقسام القاسي للوجود البشري إلى مناطق تفصلها بعضها عن بعض كلاب الشرطة والرقابات البيروقراطية والدوريات البحرية والأسلاك الشائكة والترحيلات. تتلخص «مشكلة الهجرة»، في الحقيقة، بالواقع القائل إنّ الظروف التي يواجهها عمال من دول أخرى تقدّم الدليل الحيّ على أنّ «العالم الموحد» الخاص بالعولمة هو خدعة ـ بتعابير بشرية.
وحدة العالم؟
ينبغي إذاً عكس المشكلة السياسية. لا يمكننا البدء من توافق تحليلي على وجود العالم والانتقال إلى العمل المعياري بالنسبة إلى خصائصه. فالاختلاف ليس قائماً على الميزات بل على الوجود. إذ يواجهنا التقسيم الاصطناعي والقاتل للعالم إلى قسمين ــ تقسيم يحمل تسمية «الغرب» بحد ذاتها ــ علينا التأكيد على وجود العالم الأوحد منذ البداية تماماً، كحقيقة مسلّم بها وكمبدأ. إنّ الجملة البسيطة «ثمة عالم واحد فقط» ليست استنتاجاً موضوعياً، بل هي مناجزة (performative): فنحن نقرر أنّ هذه هي الحال بالنسبة إلينا. وبعد الالتزام بهذه النقطة، تُطرح مسألة توضيح النتائج المترتبة عن هذا التصريح البسيط.
النتيجة الأولى هي الاعتراف بأنّ الجميع ينتمي إلى العالم نفسه الذي أنتمي إليه أنا نفسي: العامل الأفريقي الذي أراه في مطبخ المطعم، والمغربي الذي أراه يحفر حفرة في الطريق، والمرأة المحجبة التي تُعنى بأولاد في حديقة عامة. هنا نعكس الفكرة المسيطرة عن العالم الذي توحده الأشياء والإشارات، لإقامة وحدة بمعنى الكائنات الحية العاملة الآن هنا. هؤلاء البشر المختلفون عني من ناحية اللغة والزيّ والدين والطعام والتربية موجودون تماماً كما أنا موجود؛ وبما أنّهم موجودون مثلي، يمكنني التناقش معهم ـ وكما مع أي إنسان آخر، قد نتفق على أمور أو نختلف عليها. لكن على أساس الشرط المسبّق القائل إنّنا، هم وأنا، موجودون في العالم نفسه.
في هذه المرحلة، تُثار مسألة الاعتراض على الاختلاف الثقافي: فعالمنا «نحن» مصنوع من الذين يقبلون قيمنا «نحن» ـ الديموقراطية، احترام المرأة، حقوق الإنسان. فمن تناقض ثقافتهم كل هذا لا يمثّلون فعلياً جزءاً من العالم نفسه؛ وإذا أرادوا الانضمام إليه فيجب عليهم أن يشاركونا قيمنا، أن «يندمجوا». كما يقول ساركوزي: «إذا أراد الأجانب البقاء في فرنسا، فينبغي عليهم أن يحبّوا فرنسا، وإلّا فعليهم الرحيل». لكن سنّ الشروط يعني التخلّي عن مبدأ «ثمّة عالم واحد للرجال والنساء الأحياء». ويجوز القول إنّه يجب علينا أخذ قوانين كل بلد بعين الاعتبار. طبعاً؛ غير أنّ القانون لا يحدّد شرطاً مسبقاً للانتماء إلى العالم. ليس إلّا قاعدة مؤقتة قائمة في منطقة معينة من العالم الأوحد. ولا يُطلب من أحد أن يحب القانون، بل أن ينصاع إليه فحسب. وقد يحوي العالم الأوحد للرجال والنساء الأحياء قوانين؛ لكن ما لا يستطيع أن يضمّه هو شروط مسبقة ذاتية أو «ثقافية» للوجود ضمنه ـ الطلب بأن تشبه كل الآخرين. العالم الأوحد هو بالتحديد المكان الذي فيه مجموعة غير محدودة من الاختلافات. فلسفياً، من دون إثارة أدنى شك حول وحدة العالم، تمثّل هذه الاختلافات مبدأ وجوده.
والمسألة التي تُثار بعد ذلك عما إذا كان شيء ما يحكم هذه الاختلافات غير المحدودة. ربما ثمة عالم واحد، لكن هل يعني ذلك أنّ كون المرء فرنسياً أو مغربياً يعيش في فرنسا أو مسلماً يعيش في بلد مسيحيّ التقاليد أمر تافه؟ أو هل يجب اعتبار استمرار مثل هذه الهويات حاجزاً؟ أبسط تحديد لـ«الهوية» هو مجموعة الميزات والخصائص التي من خلالها يعترف فرد ما بأنّ نفسه هي نفسه أو تعترف مجموعة بأنّ نفسها هي «نفسها». لكن ما هي هذه «النفس»؟ إنها تلك التي، عبر كل الخصائص المميزة للهوية، تبقى ثابتة إلى حد ما. فمن الممكن إذاً القول إنّ الهوية هي مجموعة الخصائص التي تدعم ثباتاً ما. فهوية فنان معيّن مثلاً هي تلك التي يمكن من خلالها التعرّف على ثبات أسلوبه أو أسلوبها؛ وتتألف الهوية المثليّة من كل شيء متصل بثبات بالموضع المحتمل للرغبة؛ وهوية جماعة أجنبية في أحد البلدان هي تلك التي يمكن من خلالها التعرف على العضوية في هذه الجماعة: اللغة، الحركات، الزي، عادات الطعام، إلخ.
إذ تُحدَّد الهوية بهذه الطريقة، ترتبط بالاختلاف ارتباطاً مزدوجاً: فمن جهة، الهوية هي تلك المختلفة عن سائر الأمور؛ ومن جهة ثانية، إنّها تلك التي لا تختلف، هي الثابتة. ويحمل توكيد الهوية وجهين إضافيين. الشكل الأول سلبي، وهو يتألف من التأكيد بشدة بأنني لست الآخر. وغالباً ما يكون هذا ضرورياً بوجه المطالب الاستبدادية للاندماج مثلاً. فيجب على العامل المغربي أن يؤكد بقوة أنّ عاداته وتقاليده ليست عادات البورجوازي الفرنسي الصغير ولا تقاليده؛ وحتى أنّه سيعزز خصائص هويته الدينية أو العرفية. ويتعلق الوجه الثاني بالتطوير الذاتي للهوية ضمن وضع جديد ـ أشبه بحكمة نيتشه الشهيرة «إصبح ما أنت عليه». إنّ العامل المغربي لا يتخلى عما يمثّل هويته الفردية، سواء اجتماعياً أو في العائلة؛ لكنه سيؤقلم كل ذلك تدريجياً، بطريقة مبتكرة، ليبلغ الموقع الذي يجد نفسه فيه. وهو بذلك سوف يخترع ما هو عليه ـ عامل مغربي في باريس ـ ليس عبر أي تمزق داخلي، إنما من خلال توسيع للهوية.
إنّ النتائج السياسية للحقيقة المسلم بها «ثمة عالم واحد فقط» ستعمل على تعزيز ما هو عالمي في الهويات. المثال على ذلك ـ تجسّده تجربة محلية ـ هو لقاء عُقد مؤخراً في باريس، وفيه أتى عمال من دون إجازات العمل المطلوبة وقوميون فرنسيون للمطالبة بإلغاء قوانين الاضطهاد ومداهمات الشرطة والترحيلات؛ للمطالبة بالاعتراف بالعمال الأجانب فقط على أساس وجودهم: بأن لا أحد غير شرعي؛ وهي كلها مطالب طبيعية جداً بالنسبة إلى أشخاص في الوضع الوجودي نفسه أساساً ـ أشخاص من العالم نفسه.
الزمن والشجاعة
«في مثل هذه البلية الكبيرة، ما الذي يبقى لك؟» تسأل مؤتمنة الأسرار ميديا في المسرحية التي كتبها كورناي، ويأتي الجواب «نفسي! نفسي، وأقول إنّ هذا يكفي». ما احتفظت به ميديا هو الشجاعة لتقرير مصيرها الخاص؛ وأفترض أنّ الشجاعة هي الفضيلة الرئيسة بوجه الارتباك في عصرنا. يثير لاكان أيضاً هذه المسألة في تناوله المعالجة التحليلية لوهن الإحباط: أوَلا يجب أن ينتهي هذا الكلام بمعالجة جدلية كبيرة تتناول الشجاعة والعدالة، على غرار حوارات أفلاطون؟ في «الحوار عن الشجاعة» الشهير، أجاب القائد العسكري، عندما طرح عليه سقراط سؤالاً: «الشجاعة هي عندما أرى العدو وأركض نحوه لأنازله». فلم يُرضِ هذا الجواب سقراط كثيراً طبعاً ووبّخ القائد بلطف قائلاً: «هذا مثل جيّد عن الشجاعة، لكن المثل ليس تعريفاً». سأخاطر مثل ذلك القائد العسكري تماماً، وسأعطي تعريفي.
أولاً، أُبقي على منزلة الشجاعة كفضيلة ـ أي إنّها ليست نزعة متأصّلة، بل شيء يبني نفسه، ويبنيه الإنسان في الممارسة. فالشجاعة إذاً هي الفضيلة التي تُظهر نفسها من خلال الثبات في المستحيل. ليست مسألة مواجهة خاطفة مع المستحيل: فتلك هي البطولة لا الشجاعة. ولطالما قُدِّمت البطولة، لا كفضيلة، بل كوضعية: اللحظة التي يستدير فيها المرء لمواجهة المستحيل وجهاً لوجه. تبني فضيلة الشجاعة نفسها عبر الثبات في المستحيل؛ الزمن مادة خام. ما يتطلّب شجاعة هو العمل من زاوية «مدّة» (duree) مختلفة عن تلك التي يفرضها قانون العالم. إنّ النقطة التي نبحث عنها يجب أن تكون نقطة تستطيع الاتصال بنظام زمني آخر. سيكون أولئك المسجونون ضمن الزمنية التي عيّنها لنا النظام السائد دائماً ميّالين إلى الإعلان، كما فعل العديد من أتباع الحزب الاشتراكي، «اثنتا عشرة سنة من حكم شيراك، وعلينا الآن انتظار جولة أخرى من الانتخابات. سبع عشرة سنة؛ ربما اثنتان وعشرون؛ حياة بأكملها»! في أفضل الأحوال، سيصبحون محبطين ومرتبكين؛ وفي أسوأ الأحوال، سيصبحون جرذاناً.
من نواح عديدة، نحن اليوم أقرب إلى قضايا القرن التاسع عشر منه إلى التاريخ الثوري للقرن العشرين. إذ تظهر من جديد مجموعة كبيرة ومتنوعة من ظواهر القرن التاسع عشر: مناطق شاسعة من الفقر، حالات من عدم المساواة آخذة في التوسع، وسياسة مبدَّدة في «خدمة الثروة»، والنظرة العدمية لمجموعات كبيرة من الشباب، وخنوع قسم كبير من أهل الفكر؛ التجريبية المقيدة والمحاصرة لمجموعات قليلة تبحث عن طرائق للتعبير عن الفرضية الشيوعية... وكما في القرن التاسع عشر، هذا هو بلا شك السبب الذي يدعو إلى عدم الاعتبار بأنّ انتصار الفرضية هو على المحك اليوم، بل الظروف الملائمة لوجودها. هذه هي مهمتنا في خلال الفترة الفاصلة الارتكاسية السائدة اليوم: فمن خلال الجمع بين عمليات التفكير ـ ذات الميزة العالمية أو الكونية دائماً ـ والتجربة السياسية، المحلية أو الفردية دوماً والقابلة للنقل على الرغم من ذلك، أن نجدّد وجود الفرضية الشيوعية، في وعينا وعلى الأرض.
* ترجمة جورجيت فرشخ فرنجيّة