نضال حمد
لو أنّ للملائكة أبناءً، فلا بد أن يكون الحكيم الثوري جورج حبش أحدهم، وواحداً من أنجبهم وأكثرهم أخلاقاً وصلابة...
ولو أن الملائكة تستطيع الكتابة في وسائل الإعلام، لكانت أصدرت بياناً تنعى فيه سيدها وشيخها وخير أبنائها الطيبين.
يترجل الرجل الذي جبل من تربة فلسطين وطينها بعد عشرات السنين من النضال الحازم، الذي لا يهادن ولا يلين. يمضي حكيم الضمائر، حنظلة النضال القومي والوطني إلى رفاقه الشهداء، ليدق أبوابهم ويقول لهم: جئت إليكم يا رفاق الدرب الطويل، لأبلغكم أن شعبكم المحاصر والمجوَّع في قطاع غزة اجتاح الحدود وهزم سايكس ـــــ بيكو وتقسيماته اللعينة. ولأقول لكم إن الصحوة الوطنية والقومية في فلسطين وبلاد العرب قد بدأت بعد سنوات مريرة وأوقات عصيبة.
هكذا كان سيبدأ حديثه مع وديع حداد، غسان كنفاني، أبو علي مصطفى، باسل الكبيسي، ياسر عرفات، أحمد ياسين، عبد العزيز الرنتيسي، طلعت يعقوب، عمر القاسم، أبو جهاد الوزير، دلال المغربي، محمد الدرة وفارس عودة...
فالحكيم رجل صادق وطيب القلب وحنون حدّ قداسة الأبوة، يذرف الدمع لأجل فلسطين وعلى فلسطين. يحترم أبناء أمته. يقدر فيهم الولاء للثورة والوطن والمصير المشترك. يشمخ بهم ومعهم حين يصنعون الحياة في أزقة الموت والقهر. لا ينسى رفاقه ويتذرهم دوماً، يبكي الذين رحلوا بدمع، رجل يعرف مدى خطورة المرحلة، دمع فئة من الرجال الذين يسقون بدمعهم ودمائهم تراب الوطن الكبير، كي تنبت الرياحين ويزهر الياسمين على دروب الحرية في الوطن العربي وفي كل فلسطين.
لقد كان الحكيم من أكثر الشخصيات القيادية ذات الوزن الثقيل تواضعاً واحتراماً ومحبة وتقديراً عند شعبه وأمته. ولدى الرفاق المقاتلين والمناضلين من الفدائيين الفلسطينيين والعرب في قواعد الثورة الفلسطينية المقاتلة. وأذكر أن الحكيم زار إحدى المرات (1979) قاعدة للجبهة الشعبية قرب مخيم الرشيدية في صور، جنوب لبنان. وكانت القاعدة تعج بالمقاتلين العرب من فلسطين، لبنان، سوريا، العراق، تونس والمغرب والخليج العربي. قام الرفاق بإنشاد أغانٍ وطنية وثورية كثيرة، وعندما أخذوا يغنون لشخص الحكيم أوقفهم قائلاً: أنشدوا لفلسطين، للشهداء وللأسرى... هذا هو سيد الأخلاق والمبادئ والقيم، فالفرق بينه وبين البضاعة الفاسدة التي تسود الساحة الفلسطينية هذه الأيام كبير وكبير جداً بحيث يصبح من الإجحاف والعار مقارنتهم به.
أتذكر ويتذكر كل من شارك في جنازة تشييع الشهيد القائد طلعت يعقوب الأمين العام جبهة التحرير الفلسطينية (1988) كيف أجهش الحكيم بالبكاء بصوت عالٍ ونحيب مسموع، كأن الرجل يندب ويبكي ابنه أو شقيقه أو أحد أفراد عائلته. كان الحكيم إنساناً مميزاً في حياته وفي معركته الكفاحية، خانته صحته مبكراً، ما اضطرّه للتقاعد وهو في ريعان وعز سنوات العمل والشموخ والنضال. تنازل طواعية وبإلحاحه الشخصي عن مقعد القيادة، تاركاً للمؤتمر العام للجبهة الشعبية حرية اختيار خليفته. فاختارت الجبهة رجلاً عظيماً لتلك المهمة، إنه رفيق الحكيم الشهيد أبو علي مصطفى. وقرر الأخير التوجه إلى الضفة الغربية في فلسطين لإنقاذ الجبهة الشعبية من براثن «الأوسلة» التي كانت تجتاح فلسطين في تلك الفترة. دخل الوطن غير آبه بكل الانتقادات، وأخذ يعمل، لكنه سرعان ما اغتيل ليستشهد بغارة صهيونية. ردت عليها الجبهة الشعبية باغتيال الوزير الإرهابي زئيفي، وبانتخاب أحمد سعدات، أحد أنجب طلاب مدرسة الحكمة الشعبية بقيادة جورج حبش، أميناً عاماً للجبهة.