عصام نعمان *
للصراع في المنطقة وعليها مظهران بارزان: عسكري وسياسي. يندرج في الصراع العسكري التحارب الاستخباري، والتحارب الأمني، والتحارب الميداني. ويندرج في الصراع السياسي التصارع على السلطة، والتصارع في الإعلام، والتصارع في القضاء (أمام المحاكم الدولية).
على صعيد الصراع العسكري يكون التحارب الاستخباري دائم الحضور والفعالية، يليه التحارب الأمني، ثمّ التحارب الميداني المحدود عدداً، الواسع مساحةً، العظيم أثراً. أمّا على صعيد الصراع السياسي فإن التصارع على السلطة والتصارع في الإعلام مستمران بقوّة ولهما فاعلية شديدة، بينما التصارع في القضاء محدود عدداً وإن كان أحياناً عظيم الفاعلية أثراً.
لعلّ الحرب على العراق وفيه، هي أبرز مظاهر الصراع العسكري في القرن الحادي والعشرين. فهي ما زالت مستمرّة يخالطها، بطبيعة الحال، تحارب استخباري وآخران سياسي وإعلامي. تلي الحربَ في العراق من حيث الأهمية حربُ إسرائيل الثانية على لبنان التي سبقها ورافقها وأعقبها دائماً تصارع استخباري وتصارع سياسي وتصارع إعلامي وتصارع قضائي أخذ يشتدّ الخلاف حوله في الآونة الأخيرة. أمّا في فلسطين فإن الصراع العسكري يتّخذ منذ مدّة طويلة مظاهر التحارب الاستخباري والأمني وأحياناً التحارب الميداني.
التصارع القضائي يكاد ينتهي في العراق بعدما تمّت محاكمة صدام حسين ومعظم أركان نظامه وإعدامهم على النحو المسرحي المعروف. في فلسطين المحتلة، تختصر إسرائيل المحاكمات الاعتباطية بسرعة قياسية وتزج بلا رحمة بنحو عشرة الآف فسلطيني في غياهب السجون. أما في لبنان، فقد قرّر مجلس الأمن إجراء تحقيق في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري بواسطة لجنة تحقيق دولية، ثم أردفها بتأليف محكمة دولية لمحاكمة من سيجري اتهامهم، على أن تجري المحاكمات لاحقاً في مدينة لاهاي الهولندية. وفي انتظار صدور تقرير لجنة التحقيق وإعلان أسماء قضاة المحكمة الدولية، ينهض سؤال: هل ستجري المحاكمة فعلاً
ومتى؟
للإجابة عن هذا السؤال تقتضي الإجابة عن سؤال أساسي: مَن يحاكم مَن في لبنان والمنطقة؟ الجواب: المنتصرون والغالبون يحاكمون عادةً المهزومين والمغلوبين. ففي العراق، حاكَمَ ويُحاكم الغزاة المنتصرون الحكام العراقيين المهزومين. وبعد افتضاح أمر الحرب الظالمة التي شنّها جورج بوش على العراق والعراقيين تحت ستار كذبة وجود أسلحة دمار شامل، أخذت المحاكمات منحى مختلفاً إذْ باتت الحكومات العراقية الموالية لسلطات الاحتلال الاميركي تحاكم رجال المقاومة الثائرين على الاحتلال ووكلائه المحليين.
في لبنان، أخذ التحقيق ومن ثم إقرار المحكمة الدولية منحًى مختلفاً وطريفاً في آن واحد. فقد كان من المنطقي أن يحاكم المتضررون من اغتيال الحريري، وهم ورثته وأنصاره وجميع اللبنانيين مسؤولين ومواطنين، الفاعلينَ والمشتركين والمتدخلين، لأن الجريمة النكراء استهدفت لبنان واللبنانيين جميعاً. غير أنّ عوامل واعتبارات أمنية وسياسية، لا صلة لها بصورة مباشرة بالجريمة، تسلّلت إلى مسألتي التحقيق والمحكمة، وأنّ جهات أخرى سياسية، أميركية وإقليمية، تبتغي استغلال المحاكمة من أجل تحقيق أغراض شريرة لا تخدم لبنان واللبنانيين.
في هذا السياق يقتضي التنبيه إلى حقيقة ساطعة هي أن المحاكم الدولية أدوات قضائية تستخدمها القوى العظمى لخدمة مآرب سياسية. ففي كتابها الشهير «سلام وعقاب» كشفت الصحافية المعروفة فلورنس هارتمان، الناطقة باسم المدعية العامّة (السابقة) لمحكمة الجنايات الدولية ليوغوسلافيا كارلا ديل بونتي وقائع التدخلات السياسية في عمل المحكمة قبل صدور قرار الاتهام بحق الرئيس اليوغسلافي السابق سلوبودان ميلوسيفيتش وملاحقته بجرائم الإبادة. فقد تدخلت دول أوروبية عدة للحؤول دون اتهامه بتلك الجرائم، ثم تدخلت لعرقلة عمل المدّعين العامين. بل إن وزير الداخلية الفرنسي آنذاك جان بيار شوفينمان صرح عند إعلان قرار الاتهام في حق ميلوسيفيتش بأن هذا القرار «لا يخدم السلام». وغني عن البيان أن الولايات المتحدة تدخّلت هي الأخرى آنذاك في عمل المحكمة على نحوٍ معاكس لاتجاه الدول الأوروبية المعنية.
ما جرى أثناء محاكمة ميلوسيفيتش من تدخلات، جرى ويجري الآن في سياق التحقيق مع المشتبه فيهم بجريمة اغتيال الحريري، ويُخشى أن يتزايد مع قيام المحكمة الدولية ومباشرتها العمل. هل مرّ الزمن على وقائع تدخل السلطات الفرنسية مع الشاهد «الملك» زهير الصدّيق ونقله إلى باريس ثم محاكمته هناك والحكم عليه بغية إبقائه في فرنسا بدعوى حمايته من تصفية محتملة من قبل المتضررين من شهادته؟ ألم يتهم بعض المشتبه فيهم وبعض الجهات السياسية اللبنانية والسورية الولايات المتحدة بأنها تتدخل أيضاً من أجل توريط بعض القوى اللبنانية والعربية بملابسات اغتيال الحريري ابتغاء تحقيق أغراض سياسية؟
ما عاد خافياً على أحد أن ثمة تدخلات اكتنفت وتكتنف التحقيق في جريمة اغتيال الحريري إن لجهة تأليف المحكمة الدولية أو لجهة تحديد موعد المحاكمة. ويتردّد في الوقت الحاضر أنّ التأخير في تأليف المحكمة سببه عدم اكتمال عملية تمويلها. ذلك أنّ 65 في المئة فقط من ميزانية المحكمة قد تمت تغطيتها، ولا سبيل الى بدء المحاكمات إلاّ بعد تغطية القسم الباقي. كما أنّ الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون يتمسّك، فوق ذلك، بضرورة إقرار تعهدات خطية ملزمة من الدول المعنية بتغطية نفقات المحكمة للسنوات التالية.
فقد سعى رئيس الحكومة فؤاد السنيورة، خلال زيارته الأخيرة للسعودية، إلى إقناع الملك عبد الله بن عبد العزيز بتغطية ما بقي من نفقات المحكمة، فإن الرياض، شأن واشنطن، ما زالت تتريّث في استكمال عملية التمويل. لماذا؟ لأن الجانب السياسي من المسألة لم يحسم بعد. فالسعودية تعلم، في سياق الجواب عن سؤال «مَن يحاكم مَن في لبنان والمنطقة»؟ إنّ مباشرة المحكمة الدوليّة عملها تتوقّف على الغاية المتوخاة من المحاكمة: هل هي محاولة النيل من سوريا وحلفائها من أجل تغيير سلوكها أو حتى تغيير نظامها أم الاكتفاء بالضغط عليها من أجل فكّ ارتباطها الاستراتيجي بإيران وبحلفائها اللبنانيين ولا سيما حزب
الله؟
يبدو أن الرياض لم تحدّد بعد مضمون إجابتها عن هذا السؤال. كما تردد أن واشنطن لم تحسم بعد هي الأخرى موقفها في هذا الصدد. فالأمر بالنسبة لكلا الطرفين يتعلق بقضايا ومصالح إقليمية تتناول فلسطين والعراق وإيران ولا تقتصر فقط على لبنان. وأشارت مصادر دبلوماسية غربية صديقة للفريق الحاكم في لبنان إلى أن القرار النهائي في صدد المحكمة هو ـــــ يا للمفارقة ــــــ في يد إسرائيل! فالقادة الإسرائيليون مجمعون على أن الأولوية الاستراتيجية في هذه الآونة هي ضرب إيران أو الحدّ من قدراتها وليس تغيير النظام السوري أو إضعافه. وتحاول إسرائيل إقناع إدارة بوش بتشديد العقوبات واتخاذها ذريعةً، في حال قيام طهران بتحديها، لضرب الجمهورية الإسلامية. من أجل ذلك كله، تريد إسرائيل من أميركا توليف قرار دولي، إذا أمكن، أو اتخاذ قرار منفرد بفرض الحصار البحري والجوي على إيران، ورفع العلم الأميركي على ناقلات النفط والبواخر التجارية العابرة مضيق هرمز، حتى إذا حاولت طهران ضربها في سياق الردّ على الحصار، وجّهت أميركا للتوّ ضربة شديدة لمنشآتها النووية وقاعدتها الصناعية يكون من شأنها إعادتها عشر سنوات إلى الوراء. ويبدو أن إدارة بوش ما زالت منقسمة حول هذا الموضوع . ففريق من أركانها، يقوده نائب الرئيس ديك تشيني يتبنى الخطة الإسرائيلية، فيما فريق آخر تقوده وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس يرفض الخطة. ماذا عن لبنان؟
حاولت إدارة بوش تطويع القوى المعادية لسياستها في لبنان بالإيعاز إلى إسرائيل بمهاجمة لبنان والمقاومة الناشطة في أرضه على النحو الذي حدث صيفَ عام 2006. لكن إزاء إخفاق إسرائيل في حربها تلك فإن واشنطن ما زالت تدرس إمكان التركيز على سوريا في هذه الآونة بدلاً من إيران، أو تمهيداً لضرب إيران في مرحلة لاحقة. غير أنّ فريق كوندوليزا رايس يرفض هذا الخيار ويفضّل عليه الخيار الجاري اعتماده حالياً وهو دعم الطواقم الحاكمة في دول المنطقة من إسرائيل (أولمرت) وفلسطين (عباس) ولبنان (السنيورة) غرباً الى العراق (المالكي) وأفغانستان (قرضاي) وباكستان (مشرّف) شرقاً، وذلك لغاية انتهاء ولاية بوش مطلعَ العام المقبل. ذلك أن من شأن هذه السياسة الواقعية تفادي الوقوع في مغامرات غير محسوبة من جهة وتوفير مناخ سياسي مقبول لمرشحي الحزب الجمهوري الأميركي في الانتخابات الرئاسية والتشريعية خريفَ العام الجاري، من جهة أخرى.
مَن يحاكم مَن في لبنان، إذاً؟
لقد أخفقت إسرائيل في حربها الثانية على لبنان، فلم تتمكن من جعل قوى المقاومة والمعارضة وقادتهما مهزومين ومغلوبين «صالحين» لقيام «الغالبين» من أنصار أميركا في الفريق الحاكم بمحاكمتهم في سياق محاكمة قَتَلَة الحريري الحقيقيّين أو المصطنعين. لكنّ المسألة التي تقلق أميركا وإسرائيل ومن يراهن عليهما من الساسة اللبنانيين الواهمين هي كيفية العمل للحؤول دون تطوّر الوضع الداخلي في لبنان على نحوٍ يضع قادة المقاومة والمعارضة في مرتبة الغالبين وأركان الفريق الحاكم في مرتبة المغلوبين «الصالحين» لمحاكمة نموذجية داخل المحكمة الدولية المختصة بمحاكمة قَتَلَة الحريري أو خارجها...
* كاتب وسياسي لبناني