strong>دينا حشمت *
عندما كان يقدّم لجوائز قسم السيناريو أثناء الحفل الذي نظّمته «مؤسّسة ساويرس للتنمية الاجتماعية»، يوم 9 كانون الثاني الماضي، حكى الأستاذ عصام المغربي عن مخرجين مصريّين شباب تعرّف إليهم أثناء مهرجان في الخارج، وشجّعهم على التقديم، فسأله أحدهم: لماذا لا تترك عائلة ساويرس البلاد، على غرار العديد من أصحاب المال والنفوذ الذين يهجرونها للحاق بسماوات أفضل؟ فردّ المغربي راوياً تجربة شخصية. فعندما كان عسكرياً شاباً على الجبهة سنة 1968، كان هو واثنان من رفاقه استشهدا فيما بعد، يرفضون أن يتركوا موقعهم أثناء الإجازات. ومع أن هذا لم يغيّر كثيراً في توازنات المعركة، فقد ظلّوا على موقفهم هذا. وختم المغربي قوله بأنّ ما جعلهم آنذاك يرفضون ترك الجبهة هو عينه ما يجعل عائلة ساويرس ترفض أن تترك البلاد.
آل ساويرس إذاً «يحبّون مصر»، كما قال ابنهم الأكبر ـــــ والأغنى ـــــ نجيب ساويرس في كلمته الختامية للحفل نفسه: «أنا ما لقيتش مكان أفضل أعيش فيه». وأشار إلى أنّه ينظّم مثل هذا الحفل ـــــ الذي وُزّعت فيه جوائز للرواية والقصة والسيناريو بقيمة إجمالية بلغت 450000 جنيه (حوالى 80000 دولار) ـــــ «علشان نعيش في مصر اللي
بنحبّها».
لم يقتصر حبّ ساويرس لمصر على شباب الكتّاب والفنانين، بل امتدّ ليشمل جميع شباب مصر، ولا سيما العاطلون من العمل. هكذا رأينا في الجرائد أخيراً، وفي «المصري اليوم» تحديداً بتاريخ 30/12/2007، إعلاناً يحتلّ صفحة كاملة تحت عنوان «مصر أولى بأولادها»، تتصدّره صورة لمركب غرق بشباب مصريّين يحاولون الهجرة إلى أوروبا، وخمسة أسطر تحمل توقيع «نجيب ساويرس»: «إلى شبابنا الذي غامر بحياته في مراكب الموت بحثاً عن فرصة عمل لإعالة أسرهم وبناء مستقبلهم، نقدّم الوظائف التالية، والأولوية في التعيين للناجين والأقارب المباشرين لضحايا مراكب الموت. نحن بدأنا بـ2500 فرصة عمل، آملين أن ينضم إلى مبادرتنا هذه كلّ رجال الأعمال الوطنيين، بأن يفتحوا أبواب الرزق والعمل الشريف أمام أبنائنا في كل بقاع مصر... فمصر أولى بأولادها». وتلي هذه السطور قائمة طويلة بالوظائف المعروضة يختمها «لوغو» الشركات المشتركة في المبادرة، ومن ضمنها «أوراسكوم للإنشاء والصناعة»، و«أوراسكوم للفنادق والتنمية».
80000 دولار، و2500 وظيفة: هذه هي هديّة ساويرس للوطن الذي يحبّه، الهدية التي جعلت الأستاذ المغربي يقارن بين مشاعر رجل الأعمال ومشاعره عسكرياً على الجبهة. 80000 دولار و2500 وظيفة، هذا هو الجميل الذي يتباهى بإسدائه لبلده أحد أغنى المصريين.
تكفي أيّة قصّة من قصص تطوّر شركات إمبراطورية ساويرس لتفسّر لماذا «لم يجد مكاناً أفضل يعيش فيه». «أوراسكوم للإنشاء والصناعة» التي أسّسها ويرأسها حتى الآن «ساويرس الأب»، أنسي، ويحتلّ فيها ناصف ساويرس (الابن الأصغر) موقع المدير التنفيذي، وقد قامت بعمليات توسعية هائلة في العقد الماضي في مجالات الإسمنت والحديد والصلب، وهي المجالات التي عرفت ارتفاعاً مذهلاً في الأسعار في الأشهر الماضية بسبب السياسات الاحتكارية. وسبب ارتفاع الأسعار هذا مشاكل عديدة في كل القطاعات المرافقة، وأدّى إلى وقف أعمال بناء عدّة... وإلى بطالة العديد من العاملين في هذه
القطاعات.
«أوراسكوم تيليكوم هولدينغ»، التي يرأس مجلس إدارتها الأخ الأكبر نجيب ساويرس، تنتهج الأسلوب نفسه. فهي التي اشترت أوّل شركة هاتف محمول حكومية بثمن باهظ، ثم أقامت تكتّلاً مع منافستها «فودافون» كي تمنع ـــــ لمدة طويلة ـــــ ظهور الشركة الثالثة للمحمول التي كانت الحكومة ستطلقها. احتكار نجيب ساويرس لسوق الاتصالات في مصر هو الذي سمح له بأن «ينطلق» ويكوّن، إلى جانب شركة «موبينيل» في مصر، شبكات اتصالات في كل من الجزائر وباكستان وبنغلادش وتونس. كما أنه، من أجل الاستحواذ على أسواق جديدة لا يجرؤ الكثير من المستثمرين على دخولها، لم يتردّد في إنشاء شركة اتصالات في العراق المحتل سنة 2003، تحت اسم «عراقنا» (بيعت أخيراً). وتلك السياسات هي ما يفسّر القفزات الهائلة في صافي الأرباح التي تحقّقها «أوراسكوم تيليكوم هولدينغ» الذي تضاعف أكثر من ثلاث مرات في غضون سنة (من حوالى 200 مليون دولار سنة 2005 إلى أكثر من 700 مليون دولار سنة 2006).
احتكار السوق المصرية إذاً هو ما ساعد نجيب ساويرس على تكوين ثروته المقدَّرة بعشرة مليارات دولار، التي تجعل منه أحد أكبر أثرياء العالم حسب قائمة «فوربس» 2007. فلماذا لا يحبّ مصر؟ وكيف يتركها؟ فهي التي منّت عليه بكل هذه الخيرات وسمحت له بالاستمرار في جني أرباح هائلة، بالرغم من حالة الفساد والفوضى التي تعمّ البلاد. بل إن هذه الحالة هي التي سمحت لعائلة ساويرس بأن تحقّق هذه الثروة الهائلة. فلولا الفوضى والفساد لما كان لنجيب ساويرس أن ينجح في تأجيل إطلاق شركة المحمول الثالثة.
لعائلة ساويرس مصلحة في استمرار الوضع على ما هو عليه، ولولا ذلك لما كان ناصف ساويرس من أصدقاء جمال مبارك المقرّبين، وعضو الأمانة العامة للحزب الوطني، وعضو الغرفة التجارية الأميركية ـــــ لتسيير الجزء «الأميركي» من صفقاته.
فإلى جانب الاستفادة من سياسات «الوطني» محلياً، عرف آل ساويرس جيداً كيف يستفيدون منها عالميّاً. فبيع شركة «عراقنا» للاتصالات لم يمنع شركة الأسمنت لـ«أوراسكوم للإنشاء والصناعة» من أن تستمرّ في العمل في العراق تحت مظلّة الاحتلال الأميركي، آملة أن تستفيد من الفراغ الذي تركته الفوضى الأمنية. وقد توسّعت شركة «أوراسكوم للإنشاء والصناعة» من خلال عقود تركتها لها شركة «كونتراك الدولية المحدودة» الأميركية ـــــ يمتلك نجيب ساويرس 45 في المئة من أسهمها، كما يرأس مجلس إدارتها ـــــ وهي الشركة التي قامت بتنفيذ عقود وزارة الدفاع الأميركية بقيمة 467 مليون دولار.
هكذا إذاً يناضل رجل الأعمال «الوطني» نجيب ساويرس على جبهته الخاصة: يجني 700 مليون دولار ـــــ حسب تقارير الشركة لـ 2006 ـــــ بيد ويصرف بيد أخرى، 80000 دولار على جوائز الأدب والسيناريو، ويُطلق حملة إعلامية «مصر أولى بأولادها» تبنّاها من بعده بعض رجال الأعمال وجريدة «أخبار اليوم». الغريب، حسب هذه الجريدة نفسها (الجمعة 19 كانون الثاني)، أنه من ضمن 12000 اسم تقدّموا للوظائف المعروضة، لا يوجد اسم واحد من عائلات ضحايا «مراكب الموت» أو الناجين منها. وقد دُهشت «أخبار اليوم» لذلك، مثنية على مبادرة المهندس نجيب ساويرس «لإنقاذ أبناء مصر»، ومشيرة إلى ما أحدثته فيها هذه المبادرة من مشاعر التعاطف مع هؤلاء «الباحثين عن فرصة عمل شريف».
وكادت الجريدة أن تضيف: لماذا لا يقدّر أقارب ضحايا «مراكب الموت» هذا التعاطف، ولماذا لا يعترفون بـ«وطنية» من لا يريد أن يلقوا حتفهم في قاع البحر؟ هل ينكرون، لا سمح الله، «جميل» هذا الرجل، الذي ينتمي إلى عائلة تُقدّر ثروتها الإجمالية بعشرين ملياراً وأربعمئة مليون دولار، أي ما يوازي حوالى 20 في المئة من الناتج القومي الإجمالي لجمهورية مصر العربية؟ فقد تكون مصر ليست أولى بأولادها فقط، بل أولى أيضا بمال
ساويرس.
* صحافية مصرية