strong> سلام الكواكبي *
«لن أجعل دافع الضريبة الفرنسي يدفع لمحطّة تلفزيونية غير ناطقة بلغته الأم»! في حقبة القرية الكونية وتداخل اللغات والثقافات وتلاقحها، تردّ هذه الجملة العصية على المنطق، إلى الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي في عرضه لرؤيته المُجدّدة في مجال الإعلام السمعي والبصري. وهذا الطرح الغريب يأتي بعد سنة تماماً من انطلاق قناة فرنسا 24 باللغات الفرنسية والانكليزية والإسبانية والعربية، مجسّدة حلم جاك شيراك في إطار رؤيته الانتشارية للثقافة الفرنسية والقيم الجمهورية، بعيداً عن حصرها بين جدران الفرنكوفونية كعصبية لغوية، بل باعتبارها سلّة قيم ومفاهيم. ويندرج هذا الموقف ضمن موجة طروحات ساركوزي الصدامية في كل القضايا، وفي جزء من رغبة دفينة، لكنها أضحت أيضاً واضحة للمراقبين، في إطاحة كلّ ما أتى به سلفه، بدءاً من موقفه من حرب العراق وصولاً إلى نظرته إلى أهمية دور المشهد السمعي والبصري في تدعيم السياسة الخارجية الفرنسية من خلال أبعادها كلها، السياسية طبعاً، لكن الاقتصادية والثقافية والاجتماعية أيضاً.
والملف الإعلامي الخارجي ساحة فعل وردّ فعل لقصر الإليزيه منذ نهاية الستينيات، حين أوعز الجنرال شارل ديغول إلى مستشاريه بإنشاء محطّة إذاعية تبثّ من فرنسا باللغة العربية، لم ترَ النور إلا بعد وفاته وتحت مسمّى تمويهي: «راديو مونتي كارلو الشرق الأوسط» التي أضحت الآن مونتي كارلو الدولية. وهذه الإذاعة لم تحقّق إلا الجزء القليل مما حلم به الجنرال، وهو أن تكون صوت فرنسا الذي ينافس هيئة الإذاعة البريطانية باللغة العربية، وأن تكون عامل تأثير ثقافي وسياسي في «الشرق المعقّد». وفي المقابل، فلقد تمكنت الإذاعة، رغم الهنات والهفوات، من حجز حيّز معيّن من المشهد السمعي، وطوّرت طرائق تواصلية أثّرت فيما بعد على التعبيرات الإعلامية المحلية في المنطقة العربية. ولقد تراجع تأثيرها ودورها كثيراً في السنوات الأخيرة بسبب أزمات بنيوية وإدارية، ووقوعها في فخّ الخلافات الشخصية ذات الأبعاد المناطقية وحتى الطائفية أحياناً، من خلال عناصرها العاملين القادمين من المشرق ومن المغرب العربيين، بالرغم من أنها مموَّلة كلياً من الحكومة الفرنسية، وبالأخص من وزارة الخارجية. في هذا الجوّ غير الصحّي للإعلام الفرنسي الموجَّه للمنطقة العربية، انطلقت قناة فرنسا 24 باللغة العربية بكوادر حرَفية وبرغبة واضحة في تجاوز سلبيات إذاعة مونتي كارلو الدولية. وكان دخولها خجولاً في خضمّ هجمة إعلامية من كل حدب وصوب على المنطقة العربية العطشى لكلّ أساليب التعبير والتواصل، والتي تعيش معظم دولها في ظلّ سياسات قمعية أو أنها تتمتّع بهوامش محدودة من الحرية. وفي مرحلة قامت خلالها الدول النفطية بإنشاء محطات تلفزيونية متطورة في التقنيات وفي الشكل، لكنها تفتقد في غالب الأحيان تطوراً في الفكر وفي المفاهيم، بالرغم من «جنوحها» إلى مغازلة الديموقراطية وإلى إسماع الصوت الآخر من خلال تشويهٍ مجمَّل لعملية الحوار ونقله من حيز الفكر والتعبير إلى حيز المشاعر والعواطف والشتائم. وانتشرت في هذا المحيط، قنوات دينية وأخرى ترفيهية يتوازى فيها الاهتمام بعملية بحث عن هوية دينية متشددة مع بحث عن ترفيه سطحي.
لم يحن بعد الوقت لتقويم تجربة هذه القناة التي كانت تنتظر أن يمتدّ بثها من 4 ساعات حالياً إلى 12 ساعة، ليكون لها فعلاً تأثير في حلبة المنافسة المفتوحة والتي انضمّت إليها أخيراً روسيا بقناتها العربية، وكذلك ألمانيا التي طورت برنامجها العربي بما يتجاوز حدود الرؤية الألمانية لعلاقاتها العربية، وستفتتح الـ«بي بي سي» قناتها بالعربية قريباً جدّاً وستكون حتماً ذات وقع وتأثير كبيرين يتوازيان مع نجاحات إذاعتها، وقد نرى في وقت قريب قناة صينية باللغة العربية.
يقول الرئيس ساركوزي، العالم بكلّ شيء، إن هناك محطّة «الجزيرة» باللغة العربية ومحطة «سي أن أن» بالإنكليزية، فلا حاجة إذاً إلى قناة فرنسية بهاتين اللغتين! ويُضيف الخبير بوسائل الإعلام وتأثيرها، أنه يجب الاكتفاء بشريط ترجمة في أسفل الشاشة، وباللغات التي نريد من خلالها إيصال رسائلنا السياسية والثقافية. فالجدار اللغوي لمفهوم الفرنكوفونية أُعيد إحياؤه إذاً، بعدما ظنّ المعجبون بالثقافة الفرنسية أنهم قادرون على النهل منها دونما التمكّن من لغتها، بل إنهم أعطوها مجالاً أوسع بكثير من المجال اللغوي المحدود وشجّعوا على الاهتمام بها من خلال مفاهيمها، مدارسها وقيمها. وفي مرحلة نضج مشروع الاتحاد المتوسّطي الذي أطلق فكرته الرئيس ساركوزي في حملته الانتخابية، وقام بتسويقه منذ وجوده في الإليزيه رغم أنف شركائه الأوروبيّين الذين وجدوا فيه إعلان موت مسار برشلونة، وفي خضمّ الرحلات المكوكية لمستشاريه في دول المتوسط، والتي تحمل عروضاً مفصلة عن أهمية هذا المشروع من النواحي كلها، وبالأخص من ناحية حوار الثقافات، فإن الرئيس الفرنسي يطلق النار، من خلال تصريحه هذا، على قدميه. إن قناة فرنسا 24 ليست الأساس في الرؤية العالمية المتقدّمة لبعض المثقّفين الذين يبحثون عن دور مهم لفرنسا في محيطها الأقرب، لكنها بالتأكيد فاعل مهم، وخصوصاً إذا أُتيح لها التطور، ولم تطلق عليها رصاصة الرحمة في السنة الأولى لتجربتها الطموحة.
إنّ هذا الموقف من الإعلام الفرنسي باللغات الأجنبية ليس نابعاً بالتأكيد من دراسات أو استقصاءات أجريت بطلب من الجهات العليا. فمتابعة السياسة الفرنسية في كلّ المجالات تُشير إلى أن زمن الاستشارات والدراسات واللجوء إلى المختصّين قد ولّى، على الأقل في هذه المرحلة. ومن كان يشهد زيارات لكبار الفلاسفة والمفكّرين إلى قصر الإليزيه للاجتماع بفرنسوا ميتران أو علماء الآثار والأحياء والحضارات للاجتماع بجاك شيراك، فسيجد نفسه الآن أمام زيارات جوني هاليداي أو توم كروز، وبالتالي، فقل لي من تُعاشر، أقل لك ما هي نظرتك للثقافة وللإعلام.
دافع الضريبة الفرنسي مهتمّ جدّاً بطريقة صرف أمواله، لكنه لا يجد بالضرورة أنها تُبذر في قناة فرنسا 24 أو في أي عمل إعلامي ذكي أو ثقافي مبدع. إنه يراقب صرفها في حياة الـ«جت سيت» الجديدة التي يعبر فيها الإليزيه، ويراقب الرحلات الخاصة والفنادق الفخمة والهدايا غالية الثمن التي يملأ الحديث عنها صحافته الرصينة قبل الصفراء.
والمطمئن في كل هذا، إلى أن فرنسا تبقى دولة ديموقراطية، وأن صناديق الاقتراع ستكافئ وتعاقب من تشاء، وليست سلطة القصر أو المال أو القوة هي التي ستقرّر في نهاية الأمر في وطن سيمون دو بوفوار وأندريه مالرو.
* كاتب سوري