strong>إسكندر منصور *
أثار الاعتراف بأنّ هناك أشلاءً لجنود إسرائيليّين بحوزة المقاومة «اشمئزاز» تحالف 14 آذار بسياسيّه ومثقّفيه. لمَ لا وهم يعتقدون أنهم يمثّلون قمّة «الحضارة» و«الإنسانيّة» إن كان في ماضيهم أو في حاضرهم. فسياسيّو ومثقّفو 14 آذار، لم يسمعوا ولم يروا الأشلاء من قبل، ولم «يدعسوا نملة» في حياتهم ولم يسبّبوا الأذى لمخلوق. فالكلام عن الأشلاء والذي كان أساساً يحمل بعداً تفاوضياً مع إسرائيل بشأن الأسرى اللبنانيين، كان بالنسبة لقدّيسي 14 آذار (وخاصة القديس جعجع الذي أراد أن يوهمنا وربما يوهم نفسه بأنه ينتمي إلى لبنان جبران خليل جبران الذي آثر البقاء في بوسطن ونيويورك على أن يعود إلى بشري بسبب كثرة «القديسين» فيها في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين).
فرصة لكلام حقّ يُراد به باطل. جاء حسن نصر الله ليشوّه سمعة لبنان التي عمل بشير وسمير وتلامذتهما بكل ما أوتيا من «محبة» و«عاطفة» لآل فرنجيّة وشمعون وكرامي و«لاجئي» صبرا وشاتيلا على الحفاظ عليها ونشرها عالياً في بقاع الأرض. (يُقال إنّ تلامذتهما يعملون مع الشركات الأمنيّة في العراق التي ما زالت تفتك بالصغار والكبار، تاركة الأشلاء في الشوراع والعراء). فأمين الجميل رجل «الاستقلال والعقلانية» على حدّ تعبير الياس عطا الله، و«بطل» تلّ الزعتر حسب سيرته في انتخابات المتن الأخيرة، كان أوّل المجاهرين باشمئزازه (ربما تسرّع أو أسرع ليخطف الأضواء من جعجع) على أساس أنّ هذه التعابير لا تمت للقيم اللبنانيّة العريقة (التي أتحفنا بها في انتخابات المتن) والقائمة ببعدها الكتائبي ـــــ القواتي على احترام الأعداء (وخاصة الإسرائيليين منهم) وجنودهم الذين قضوا في لبنان في حربهم مع المحور السوري ـــــ الإيراني وقاعدته العسكريّة الأساسيّة في لبنان المتمثلة بلواء أطفال قانا.
إلى جانب السياسيّين الذين ذرفوا دموع الاشمئزاز على أشلاء الجنود الإسرائيليين، ارتفعت أصوات «ثقافيّة» تدعو إلى «احترام قدسيّة الموت» الذي يوحّد بين كل الفانين. يا حبيبي على «الفلاسفة» وعلى «احترام قدسيّة الموت» وتأمّلها في الموت والفناء. هذه آخر الإنجازات الفكريّة «للحركة الاستقلاليّة»، بأنّ المقاومة ليست فقط متهمة بخرق الحدود الدوليّة مع فلسطين، وبخرق شرعة حقوق الإنسان التي ساهم شارل مالك اللبناني بوضعها، بل أيضاً متّهمة بعدم «احترام قدسيّة الموت» حيث عكّرت صفو حياة الإسرائيليّين وتعدّت على حرمة أمواتهم وعلى قدسيّة الموت لجنودهم الذين ماتوا في «الدفاع عن أرضهم» و«قراهم» و«أطفالهم».
وهنا وكما قيل في الماضي «النصيحة بجمل»، أنصح معالي الوزير فتفت وفارس سعيد ورفاقهما في الحركة «التاريخيّة» وكعادتهم، إن لم يكن قد اتصلوا بعد، أن يتصلوا بتيري رود لارسن (الذي حصل أخيراً على وسام مِمّن كان عمله منح الأوسمة في سبيل استقلال لبنان. أعني جاك شيراك) على أساس أنّ التصريحات بشأن أشلاء الجيش الإسرائيلي خرق فاضح للقرار 1559، وإن كان قد صدر منذ ثلاث سنوات فإنه ما يزال يسري على أي تصريح لقوى المعارضة.
لكن الحياة عند «محبّي» الحياة ومحترمي قدسيّة الموت، بالنسبة لسكان منطقة الضاحيّة والشياح أمر آخر. فالذين سقطوا برصاص الجيش وقنّاصي عين الرمانة لا ينطبق عليهم «احترام قدسيّة الموت» لأنهم كانوا السبب وراء سقوطهم قتلى. أي لا يلام أحد إلا أنفسهم «وكأنّو ما حدا غيرن مقطوعة الكهربا عندو».
و«ولو يتأخر الجيش دقيقة (عن ماذا؟ عن إطلاق النار؟) كان نجح الانقلاب». أليس هذا ما قدّمه لنا إعلام 14 آذار وسياسيّوه في مقابلاتهم الصحافيّة والتلفزيونيّة؟ فهاكم موقع «اليسار الديموقراطي» الإلكتروني نهار الأحد 27 كانون الثاني:
«إطلاق النار على الجيش في أثناء تفريقه للمتظاهرين فردّ على المصدر وأنباء عن وقوع إصابات».
«أخبار المستقبل: «سقوط ثلاثة جرحى في صفوف الجيش وإصابة رقيب أول في الجيش اللبناني في منطقة مار مخايل ـــــ الشياح». «مجموعة من الشبان تستقل دراجات ناريّة دخلوا منطقة عين الرمانة وألقوا قنبلة يدويّة على تجمع للأهالي». «إطلاق نار على ملّالة للجيش في الشياح... تبادل إطلاق نار بين الجيش و مسلّحين» و«إلقاء قنبلة يدوية على الجيش في منطقة
الشياح».
إذا كان هناك إطلاق نار وقنبلة على الجيش، فأين شهداء الجيش؟ لا بل أين الجرحى؟ لقد أعمت فئويّة 14 آذار عيونهم فلم يروا أنّ القتلى ينتمون فقط إلى المتظاهرين، وأنّ مطلقي النار ينتمون إلى الجيش وإلى الفريق الآخر. لماذا التعب والتحقيق بنظر الـ14 آذاريّين، فالقنبلة في عين الرمانة رماها شبان يستقلّون دراجات ناريّة أتوا من خارج عين الرمانة وبالتحديد من «إيران».
فملامحهم ملامح «شيعيّة» غير متحضِّرة كسكّان المتن مثلاً الذين لا يحسنون التظاهر على حدّ تعبير ميشال المرّ والذي نسي أنّ النقابات قد وُلدت في المتن والجبل وعلّمت كلّ لبنان التظاهر. أما المرّ للذين نسوا أو تناسوا، فقد كان القدوة المثابرة في قضاء عطلته في عنجر، وما أكثر من عطله في تلك الأيام.
أمّا بيان قوى 14 آذار في 27 كانون الثاني فيقول بالحرف الواحد: «الجيش خطّ أحمر» و«تصويب الاتهامات في اتجاه عين الرمانة لزرع الفتنة هو أيضاً وأيضاً خط أحمر». هل كان أركان 14 آذار على علم بأن الضحايا الذين سقطوا هم عزّل ومدنيون؟ ألم يستحقوا وقفة تأمل ودعوة إلى التحقيق (لقد جاءت دعوتهم إلى التحقيق متأخرة ومفرغة من مضمونها) بدل التأكيد على خطوطهم
الحمراء.
إذا كان الجيش خطّاً أحمر وعين الرمانة خطّ أحمر يعني أنّ القتلى الثمانية أطلقوا النار على أنفسهم. لماذا لا؟ ألا ينتمون إلى ثقافة الموت؟ أليس الموت غايتهم ومرامهم؟ هذا التعاطي مع حياة الناس عند محبّي ثقافة الحياة يقابله نمط من ذات التفكير ما زال يسري بين بعض الـ8 آذاريّين والذي أوحى مرّات عديدة وكأنّ شهداء 14 آذار مسؤولون عن اغتيال أنفسهم.
وهنا وعلى هذه الأرضيّة، أرضيّة لوم الضحيّة ومسؤوليّتها عن اغتيال نفسها، تلتقي قوى كثيرة وكأنها لا همّ لها ولا غاية لمخاطبة بعضها البعض وكأن هذا الوطن ليس وطنهم جميعاً.
يا ترى، هل كان إخوة وأقرباء وأصدقاء أحمد حمزة ومحمود حايك وأحمد عجوز ويوسف شقير ومحمود منصور وعماد أمهز وعشرات الجرحى يشاهدون التلفزيون ويتابعون تصاريح سياسيّي ومثقّفي 14 آذار؟ لا شكّ، فإلى جانب شعورهم بالحزن العميق شعروا بالمرارة أيضاً وبأنّ هذا «الوطن» بعيدٌ عن أن يكون وطناً
واحداً.
الأسئلة كثيرة وربما تختصر بالسؤال الأكبر: من المستفيد من اغتيال الشعور بأننا شعب واحد وبأنّ للحزن والمؤاساة وقتاً وللسياسة وقتاً آخر؟
* كاتب لبناني مقيم في الولايات المتّحدة الأميركيّة