ريشار لابيفيير *
جرى اللقاء الأوّل بين الرئيس جاك شيراك والرئيس جورج بوش بعد حرب العراق خلال قمّة دول مجموعة الثماني التي عُقدت في مدينة إفيان في فرنسا في حزيران 2003. أما اللقاء الثاني، فكان في أيلول 2003 على هامش دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك. وكما يقول أحد مستشاري الرئيس الفرنسي، كان شيراك مقتنعاً آنذاك بأن عليه أن يبادر هو إلى «طيّ صفحة العراق لتحسين العلاقات الفرنسية الأميركية». فطلب من السفير الفرنسي لدى واشنطن جان دافيد ليفيت المقرّب منه أن يقدّم إليه اقتراحات من شأنها «العمل على المصالحة الفرنسية الأميركية». وكان السفير ليفيت مقتنعاً من جهته بأنه إضافةً إلى استمرار مشاركة القوات الفرنسية الخاصة إلى جانب الأميركيين في عمليات مكافحة الإرهاب في أفغانستان، ومساهمة فرنسا في إحلال الاستقرار في هاييتي، يمكن إبرام «صفقة» في لبنان، بل كان في الواقع يفكر في «صفقة بصفقتين» تقضي بمساندة رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، صديق جاك شيراك الشخصي، على مواجهة مطالب دمشق والمشاركة في الوقت نفسه في عملية إحلال الديموقراطية الغالية على قلب جورج بوش.
لضمان نجاح هذه الخطّة، كان لا بدّ من أن يعدّها أشخاص مخلصون وأوفياء، وأن يتم إبعاد المختصين في العالم العربي في «إدارة شمالي أفريقيا والشرق الأوسط» التابعة لوزارة الخارجية الفرنسية. فكلّف جاك شيراك مستشاره الدبلوماسي موريس غوردو مونتان بإعداد قرار لمجلس الأمن وعمل هذا الأخير مع ليفيت الذي تعاون بدوره في المرحلة الأخيرة من المشروع مع «أخيه الصغير» برنار إيمييه، المستشار التقني في قصر الإليزيه الذي كان مدير «إدارة شمالي أفريقيا والشرق الأوسط» قبل أن يعيّنه شيراك في أواخر 2004 سفيراً في بيروت ليتابع المسألة.
تبدأ قصة القرار 1559 السرية الحقيقية في خريف 2003. ففي أيلول من هذا العام، زار موريس غوردو مونتان دمشق لإقناع الرئيس بشار الأسد بـ«تخفيف قبضته على لبنان وأخذ المعادلة الإقليمية الجديدة القائمة منذ سقوط بغداد بعين الاعتبار». بدا الجوّ متوتّراً منذ البداية، إذ نقل نائب وزير الخارجية السوري والسفير السابق في واشنطن وليد المعلم لموريس غوردو مونتان الموقف السوري من الاتصال الهاتفي الذي جرى بين وزير الخارجية الفرنسي دومينيك دوفيلبان والرئيس السوري في الأسبوع الثاني من حرب العراق طالباً منه التحضير لآثار «حرب خاطفة وانتصار عسكري أميركي كامل على الأرض». فقال نائب وزير الخارجية: «لقد شعرنا بأنه تخلّى عنّا وخاننا فطالبنا دوفيلبان على مدار أسابيع بدعم معارضته الحرب الأميركيّة في مجلس الأمن وهذا ما فعلناه بدون تردّد ولا تحفّظ رغم الخطر السياسي الذي يمثّله ذلك على بلدنا، وها هو يطلب منّا إن بدأت العمليات العسكرية باستباق انتصار أميركي واستخلاص الدروس اللازمة. وقد بدا كلامه أشبه بالتهديد. وأنا واثق بأنّكم تفهمون تفاجؤنا إن لم نقل خيبة أملنا». وكل محاولات مبعوث جاك شيراك الخاص لإقناع المعلم بأن باريس لم تنوِ مطلقاً تشكيل تحالف ضدّ الأميركيين رغم معارضتها للحرب باءت بالفشل شأنها شأن مطالبه بالانسحاب من لبنان. وقد زادت من إضعاف موقف غوردو مونتان معلومات الاستخبارات السورية بأنه صديق حميم للبطريرك نصر الله بطرس صفير وبأنه غير ملمّ بقضايا الشرق الأوسط ومقرّب من منظّمة «أوبوس داي» التي أسّسها الإسباني خوسي ماريا إسكيرفا تحت حكم فرانكو والتي تهدف إلى إعداد النُخب الكاثوليكية. أكانت هذه المعلومات صحيحة أم خاطئة فقد جاءت لتؤكّد الشكوك السورية في تحوّل في السياسة الفرنسية يؤدي فيه مبعوث جاك شيراك دور السكرتير. ومع أن مهمة غوردو مونتان جرت بالتنسيق مع برلين وموسكو لا مع واشنطن، فإنها أغضبت دمشق ولا سيما أن رفيق الحريري الذي يريد العودة إلى الساحة السياسية كان يلحّ على «صديقه جاك» ليساعده على تخفيف القبضة السورية على لبنان، فلم تستجب سوريا إلى طلبات غوردو مونتان ودخلت العلاقات السورية الفرنسية في شتاء 2003 ــ 2004 في فترة توتّر.
لم يُثر رفض دمشق هذا استغراب باريس لأنه جاء بعد سلسلة من خيبات الأمل وحالات من سوء التفاهم أزعجت سوريا كثيراً ولا سيما أن فرنسا كثيراً ما كانت حليفتها. وباتت سوريا مقتنعة بأن الفرنسيين والأميركيين يتقرّبون بعضهم من بعض على حسابها.
وجاءت الاحتفالات بالعيد الستين لإنزال نورماندي في حزيران 2004 لتؤكّد هذه القراءة، فبعد مضيّ عام على قمة إفيان بات كل من جورج بوش وجاك شيراك متأكّداً من أن هذا العيد المفعم بالمعاني التاريخية يجب أن يسجل مصالحتهما الحقيقية أو «أن يكون على الأقل مناسبة للتناقش في جوهر المشكلة أو حتى بداية جديدة للعلاقة الفرنسية الأميركية» على حد قول أحد مستشاري جاك شيراك.
أمّا الجانب الأميركي، فأكد أنه جرى التوصل في إيفيان إلى اتفاق ضمني بأن يكون اللقاء في نورماندي «المناسبة الرسمية للمصالحة بعد الخلاف حول العراق». مع أن الرئيسين تبادلا الابتسامات والمصافحات بدا لقاؤهما أقرب إلى «زواج المصلحة» مما هو إلى المصالحة الحقيقية. فجورج بوش الذي يتخبّط بتأزم الوضع في العراق مضطر إلى مجاملة الدول التي عارضت الحرب لإيجاد حلّ سياسي للمأزق العسكري إقناعها بمشروعه القاضي بإنشاء الشرق الأوسط الكبير. أمّا جاك شيراك، فعليه أن يتخلّص من دوره كزعيم التحالف المعادي للأميركيين ويتقرّب من واشنطن وهو يقنع في الوقت نفسه العالم العربي والإسلامي بأنه لم يغيّر موقفه.
وفي هذا السياق، قام جاك شيراك خلال المؤتمر الصحافي المشترك الذي عقد في قصر الإليزيه ثم خلال العشاء الذي تلاه «بعرض الخطة اللبنانية التي باتت متقدّمة جدّاً» على حدّ قول مستشار الإليزيه. فاستفاض شيراك خلال العشاء في الكلام عن الشرق الأوسط مظهراً درايته الكبيرة بهذه المنطقة المعقّدة وشرح لنظيره الأميركي الذي أظهر اهتمامه وسروره: «إذا قطعتم الرابط بين سوريا ولبنان فسيسقط النظام العلوي في دمشق». وجاء رد جورج بوش: «أنتم ضليعون بالملف فأعدّوا الخطة ونحن نتبعكم». ويختم مستشار الإليزيه قائلاً: «إن ما جرى في نورماندي سرّع نهاية التحضيرات للقرار 1559 الذي حرّر في نهاية شهر تموز في بيت رفيق الحريري في سردينيا بعدما أمّنت له قمة الدول العظمى الثماني التي عقدت في الولايات المتحدة دفعاً جديداً وأصبح لبنان حجر الأساس للمصالحة الفرنسية الأميركية».
وطلب من مستشار الإليزيه أيضاً الاهتمام بثلاثة استحقاقات محلية هي نهاية ولاية رئيس الجمهورية اللبناني إميل لحود والمبادرات السورية الهادفة إلى التجديد له وتوق رفيق الحريري إلى تعزيز نفوذه واستبدال لحود بمسيحي آخر من أصدقائه. فقام بعدة زيارات واتصالات هاتفية بين واشنطن وبيروت ونيويورك وسردينيا. وهكذا بدأت القطيعة بين باريس ودمشق في الفترة نفسها أي بين نهاية تموز وبداية آب 2004.
في 17 آب 2004، اتصل موريس غوردو مونتان بجاك شيراك لإعلامه بأن مسوّدة القرار 1559 جاهزة وأن رفيق الحريري وافق عليها ولم يبقَ عليه لتقديمه إلى مجلس الأمن إلا الحصول على رعاية واشنطن. فاتصل بكوندوليزا رايس التي كانت مستشارة الأمن آنذاك واقترح عليها بتّ التفاصيل الأخيرة معها في واشنطن فسارعت إلى دعوته إلى الغداء وتوجّه إلى واشنطن على الفور. وجرى هذا الغداء في 20 آب 2004 وشرح خلاله مبعوث الرئيس الفرنسي لمستشارة الأمن أن الأمور تتسارع وأن دمشق تقوم بمبادرة تلو الأخرى للتجديد للحود وأن رفيق الحريري سيستدعى إلى دمشق قريباً ويوضع أمام الأمر الواقع وأنه إذا جدّدت سوريا لحليفها فستواصل سيطرتها على لبنان خلال السنوات الست المقبلة و«أن لبنان سيبقى ضحية الممارسات المافياوية نفسها وأن آفاق الإصلاح التي فتحها مؤتمر باريس 2 ستزول نهائياً». ثم دار النقاش حول أهداف مشروع القرار ألا وهي إزالة سلاح حزب الله وسلاح الميليشيات وانسحاب الجيش السوري من لبنان حتى الخط الأزرق شمالي إسرائيل.
وكان جاك شيراك سيلتقي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سوتشي في 30 و31 آب وواثقاً بأنه سيحصل على موافقته بما أن رد فعله كان إيجابياً عندما عرض الملف خلال قمة مجموعة الثماني الأخيرة. أمّا الدول الأعضاء الأخرى في مجلس الأمن بما فيها الجزائر، فلم تعرب عن معارضتها للقرار وكانت فرنسا قد شاورت إسبانيا ومصر وباكستان. ولكن بقيت عملية إقناع الصين التي تعرب عن تحفظها كلما تعلق الأمر بسيادة الدول الأعضاء. وأصرّ غوردو مونتان على ضرورة التحرك بسرعة قبل أن تقرّ دمشق التجديد للحود أي قبل 15 أيلول.
أعربت كوندوليزا رايس عن فائق سرورها وتعهّدت إقناع التشيلي وربّما البرازيل لكنها أثارت مسألة صعوبة تأمين رعاية أميركية للقرار مذكّرة بأن بلادها انسحبت من لبنان بعد الاعتداء على مركز الفرنسيين وعلى مقر المارينز في تشرين الأوّل 1983 ومشيرة إلى أنها لا تستطيع أن تكون دائماً «الشريرة» في عيون الشعوب العربية، لذا اقترحت إشراك راعٍ أوروبي آخر قد يكون إسبانيا. كما بحثت رايس في الجدوى من إرسال مبعوث آخر إلى سوريا لوضع المسألة بين أيديها ودفعها «إلى تبييض صفحتها» مع بيروت، أي التخلّي عن إميل لحود «علّ التهديد بالقرار يكفي للحصول على النتائج المستهدفة». واقترحت تكليف البريطانيّين لا الأميركيّين بهذه المهمة. بعد رحيل مبعوث شيراك، قام السفير الفرنسي في واشنطن جان دافيد ليفيت بمتابعة المسألة مع مستشار جورج بوش لشمالي أفريقيا والشرق الأوسط إليوت أبرامز الذي سرعان ما فهم أهمية «إعادة تدخل فرنسا في المسار السوري اللبناني».
والجدير ذكره أن أبرامز عمل أكثر من كلّ أعضاء إدارة بوش الآخرين على إعادة النظر في النهج التفاوضي في معالجة الأزمات في الشرق الأوسط الذي اتسمت به نهاية ولاية بيل كلينتون. فهو معروف بإدانته لكل اتفاقات أوسلو ومبادئ مدريد كما ينتقد سياسة الإدارة الأميركية الديموقراطية القائمة على مبدأ السلام مقابل الأرض لأنها لن تؤدي بنظره إلا إلى إقامة ديكتاتورية عربية جديدة.
وسّع أبرامز إطار تحليلاته مقلّلاً من أهمية عملية السلام ومحدّداً محاور السياسة الأميركية الثلاثة في الشرق الأوسط ألا وهي: «الانتصار الأميركي في الحرب الباردة وفي حرب الخليج هو الذي رسم المعادلة السياسية في الشرق الأوسط الحالي انطلاقاً من هذه السياسة بات الآن ممكناً التفكير في شرق أوسط جديد تبتعد فيه سوريا المستضعفة عن إيران وتبرم اتفاقاً مع إسرائيل لإحلال الاستقرار على الحدود المشتركة ويستبدل فيه نظام صدام حسين وتقوم فيه القوة الاستراتيجية الأساسية في المنطقة على تحالف إسرائيلي تركي علماً أن تحقيق هذه الأهداف رهن بتوازن القوى في المنطقة أكثر ممّا هو رهن ببراعة المتفاوضين».
وهذا تابع جان دافيد ليفيت إعداد القرار 1559 وفقاً لأهداف إليوت أبرامز الأحادية الجانب وبالتعارض مع المواقف التقليدية للدبلوماسية الفرنسية في المنطقة. لكن بالرغم من ثوابت الموقف الفرنسي في المنطقة وخلافاً للسياسة الفرنسية المتّبعة منذ اتفاق الطائف عام 1989، رأى السفير جان دافيد ليفيت أنه يجب «إخراج الملف اللبناني من سياقه الإقليمي» حتى إنه استثنى القوات الدولية المنتشرة على حدود لبنان الجنوبية من الأحكام العملية لتطبيق القرار. ويقول دبلوماسي عربي في واشنطن بهذا الشأن: «الأميركيّون أُعجبوا بفكرة هذا التدخّل الأحادي الجانب على الطريقة الفرنسية» ولم يصدقوا أعينهم أو بالأحرى لم يجرؤوا على تصديق أعينهم. وهكذا أنهى ليفيت العمل على القرار بالتشاور مع مدير إدارة شمال أفريقيا والشرق الأوسط في قصر الإليزيه برنار إميي.
أمّا في الأمم المتحدة، فاكتشف الأمين العام كوفي أنان القرار قبل أربعة أيام من التصويت عليه فقط كما فاجأ القرار وزارتي الخارجية والدفاع الأميركيّتين اللتين لم يكن اختصاصيو المنطقة فيهما على علم به.
أقرّ مجلس الأمن القرار 1559 في 2 أيلول 2004 برعاية أميركية فرنسية ونال تسعة أصوات فيما امتنعت 6 دول عن التصويت. في اليوم التالي، مدّد النواب اللبنانيون لإميل لحود لمدة ثلاث سنوات. وهكذا طفح الكيل بالنسبة إلى جاك شيراك لأنه جرى إبعاد صديقه رفيق الحريري عن الحكم بعد فترة قصيرة أي في 21 أكتوبر 2004.
* الفصل الرابع من كتاب «الانقلاب الكبير:
من بغداد إلى بيروت»