فايز فارس
التسوية ليست سوى حلّ وسطي مؤقّت لخلاف أو نزاع على أمر ما، بحيث «لا يموت فيه الذئب ولا يفنى الغنم». تعتمد في تلطيف العلاقات الاجتماعية عموماً وفضّ النزاعات السائدة في المبادلات التجارية خصوصاً. لذا نرى، وبعد كلّ هذه التجارب المريرة والأليمة الماضية، أنّ التسوية على القضايا الوطنية الكبرى لا يمكن أن تدوم لأن القضايا الكبرى تحتاج من أجل معالجتها إلى وضوح في الرؤية وأرضية ثابتة ونصوص نافذة واحترام متبادل وعدالة ومساواة. بينما التسويات في الأمور الشخصية ممكنة ومطلوبة لأنها تعالج ما هو مختلف عليه لفترة وجيزة بهدف إلغاء سوء تفاهم ما أو سدّ ثغرة ما أو إيضاح معلومات ناقصة عندما لا تكون خاطئة.
مَن في لبنان ومحيطه والعالم لا يعلم اليوم، بعد قرن على إنشاء هذا الكيان السياسي، أنّ الجمهورية اللبنانية وُلدت من رحم تلك التسوية التي وافقت عليها القوى العظمى والقوى الإقليميّة، وأننا بلغنا ما نحن عليه بسبب الاستخفاف بهذه «الفرصة الذهبية» من قِبَلِ قادة لبنان السياسيين وغير السياسيين الذين ما زالوا يمعنون في استخفافهم وجهلهم الفاضح في إدارة شؤون هذه الجمهورية المميّزة بين أخواتها وأثبتوا إخفاقهم في صنع المواطن اللبناني كما هو حاصل في المجتمعات المعاصرة التي نتمثل بها؟
ماذا فعل حكّام لبنان بدستور 1926 وميثاق 1943 وصولاً إلى اتفاق الطائف؟ كلّ ما فعلوه أنّهم عملوا على تسخير الدستور والميثاق والاتفاق من أجل حماية مواقعهم والمحافظة على مكاسبهم، على حساب موقع الوطن لبنان في محيطه والعالم وحقّ المواطن اللبناني الطبيعي بوطن آمن يلوذ به، ومجتمع عادل يؤمّن له المساواة. ويستمرّون في إمعانهم اليوم أكثر من ذي قبل في استخفافهم بعقول اللبنانيّين وغير اللبنانيّين ويطالبون «بتسوية مشرّفة». ويتجاهلون أنّ الجميع يعلم ويدرك أن التسوية المشرّفة بالنسبة لهم إنما تعني منحهم، كما درجت العادة، العفو عن كلّ أخطائهم المميتة حتى لا نقول جرائمهم وكأنّ شيئاً لم يكن، وبعدما باعوا البلد وأهله بثلاثين من الفضّة، وقبضوا بالمقابل ثلاثين مليار دولار أميركي ذهباً... و«الحبل عالجرّار». هل يطالبون بتسوية «مشرّفة» أم يعملون على «تفجير» ما بقي صامداً أو صامتاً في هذا البلد؟ لقد احتار العالم في أمرهم، ولم يعد المواطن اللبناني قادراً على تحمل المزيد من قنابلهم الصوتيّة. شعارات واهية وتصريحات فارغة ومواقف هشّة ودعوات ساقطة. هم في الحقيقة يسعون إلى إتمام صفقة ما تحميهم من مساءلة أو محاسبة تنتظرهم أمام التاريخ والأجيال القادمة. لذا، ترى اللبنانيّين اليوم وحتى إشعار آخر موزّعين على أربع فئات: الصابرين والمهرّجين واللامبالين والراحلين!
أرادوا كسب ودّ وعاطفة «بعض» اللبنانيين لملء «الساحة» ففقدوا ودّ وتعاطف الأكثرية الفعليّة من اللبنانيين الذين بقوا حتى الأمس القريب ودودين متعاطفين مع كلّ شهداء الوطن منذ 14 شباط إلى يومنا هذا. يبدو أنّهم في الحقيقة لا يريدونه شهيداً لكلّ لبنان، بل لفئة محدّدة من اللبنانيين. حمى الله لبنان وأهله من أعدائه الحقيقيّين كل يوم، وحماهم من قادته الموتورين في كل ساعة، لا بل في كل لحظة كُتب لهم فيها أن يعيشوها في هذا البلد.