دينا حشمت *
بعدما كان حسني مبارك يؤكّد أنّ مصر «لن تسمح بتجويع الشعب الفلسطيني»، وبعدما كان يقول إنّه «أصدر تعليماته إلى الجهات المعنية للسماح بدخول الفلسطينيين إلى منطقة رفح للحصول على المواد الغذائية والدواء» (وهذه هي الطريقة التي قدّم بها الإعلام الرسمي تدفّق أهل غزة على الحدود المصرية)، وبعدما هلّلت الصحف القوميّة لموقف الرئيس المصري النبيل، وبعدما أظهرت في عناوينها الرئيسية كيف أنّ الجهات العربية والأجنبية، الشعبية والرسمية على حد سواء، أشادت بهذا «الموقف الإنساني»... بعد كل هذا، يظهر أنّ الرئيس سئم، دون سابق إنذار، المواقف الإنسانية. فإذا بالنبرة تغيّرت فجأة، وتبدّلت لغة كتّاب الأعمدة، لتنطلق حملة شعواء في الجرائد ذاتها، تحت عناوين صارمة حازمة، على شاكلة «الاستفزازات على الحدود في رفح تُثير القلق، والاستضافة لا تصل إلى تهديد حياة أبناء مصر» («أخبار اليوم» 27 كانون الثاني 2008، بعد يوم من الإشادة بجهود الرئيس النبيلة). وتسلسلت هذه العناوين الرئيسية إلى عناوين أخرى فرعية، بدت كأنها تفسّر لماذا فاض الكيل بالرئيس مبارك، ولماذا لم يعد يحتمل أن يتلاعب البعض بحسن ظنّه وكرمه التاريخي نحو «الإخوة الفلسطينيين». فبدأت الصحف تبرز معلومات عن «إصابة 38 من قواتنا نتيجة تصرّفات فلسطينية، وبعضهم في حالة حرجة» («أخبار اليوم» 27 كانون الثاني 2008)، أو عن «القبض على 12 فلسطينياً تسلّلوا عبر رفح إلى شرم الشيخ وطابا»، أو عن «ضبط شقيقين فلسطينيين بحوزتهما قنبلة يدوية في الشيخ زويد» («أخبار اليوم» 3 شباط 2008). وبدأت هذه الصحف تربط ما بين تدفّق مئات الآلاف من أهل غزة على الحدود المصرية بسبب ضغط الحصار، وبين مخطّطات إرهابية قدّمتها على أنّها وشيكة الحدوث، فصرّحت «أخبار اليوم» مثلاً بأن الأجهزة الأمنية كشفت «عن مخططات فلسطينية لاستغلال فتح الحدود وارتكاب أعمال إرهابية ضدّ السياح في سيناء» (1 شباط 2008).
لم يستفد فلسطينيو غزة طويلاً إذاً من كرم ضيافة الرئيس المصري. فسرعان ما سيطرت الأجهزة الأمنية على زمام الأمور، وانطلقت فرق «البلطجية» في شوارع العريش ورفح والشيخ زويد، تُجبر التجّار على إغلاق محالهم، وتطارد الفلسطينيين لإجبارهم على العودة إلى غزة قبل إعادة إغلاق المعبر. وانطلقت الدعاية الرسمية لتدعم هذه الإجراءات. ومن المدهش أن جميع البرامج التلفزيونية والأحاديث الإذاعية وجميع الصحف، القومية منها والمعارضة، وحّدت صوتها على نغمة واحدة، هي نغمة «عدم المساس بالسيادة المصرية»، و«خطر» أهل غزة على الأمن القومي المصري. ومن المدهش أن شخصيات معارضة معروفة، بعضها ناصرية، وإن كانوا يؤكدون على الطبيعة المأساوية لوضع أهل غزة، لم يخرجوا عن الإجماع «الوطني» (وإن اعترض عليه آخرون)، على غرار حسام عيسى، الذي كان يقول في برنامج «العاشرة مساء» إنّ ما حدث في رفح كشف ثغر الأمن القومي المصري الناتجة من اتفاقية كامب دايفيد.
نجح تدفّق أهل غزة على حدود مصر في وضع مؤيدي اتفاقية كامب دايفيد ومعارضيها في خندق واحد؛ فالجميع انصرف إلى مناقشة مسألة الأمن القومي وحماية الحدود المصرية. وهذا الإجماع الغريب، الذي لم يشذّ عنه إلا بعض الأصوات المحتجة، منها صوت جمال البنا الذي كتب يقول إنّ «من العار أن نقرأ كتابات تصف هذه الحركة ـــــ حركة تحطيم الحصار وإفساد السياسة الإسرائيلية ـــــ بأنها اقتحام للحدود مصرية»، («المصري اليوم» 13 شباط 2008).
والآراء التي كانت تدافع بوضوح، مثل البنا، عن أن ما حدث «لم يكن مؤامرة، ولا خطة مدبّرة من إسرائيل، ولا من القيادة الغزاوية»، ولم يكن إلا «النتيجة الطبيعية لحصار التجويع»، لم تجد طريقاً سهلاً في الإعلام. فالخطاب العدواني تجاه الفلسطينيّين الذي ساد في الإعلام الرسمي وغير الرسمي، سمح من ضمن عوامل أخرى، للقيادة السياسيّة بأن تستعيد ثقتها ـــــ بعدما شعرت بالرعب أمام مشهد مئات الآلاف من أهل غزة يعبرون الحدود، بالضبط كما شعرت القيادة الإسرائيلية بالرعب. فعندما استعادت ثقتها بالفعل، شاهدنا وسمعنا مسؤولي الأجهزة الرسمية يصفون، بنبرات مختلفة، الإجراءات الصارمة التي ستتخذ في وجه الحشود الفلسطينية الجائعة وفي وجه «القلّة الفلسطينية المتآمرة على أمن مصر واستقرارها»، على رأي وزير الإعلام صفوت الشريف. وتوّجت تصريحات وزير الخارجية أحمد أبو الغيط هذا السيل من التحذيرات، فصرّح بأنّ «مصر لن تسمح باقتحام حدودها ثانيةً»، محذّراً من أنّ «كلّ من يعبر خطّ الحدود سنكسر رجله». ولقد أحدثت هذه التصريحات الغريبة على لسان وزير للخارجية موجة من الانتقادات العنيفة، داخل فلسطين وخارجها، والتساؤلات حول أسباب استقواء أبو الغيط على جموع غفيرة من البشر أتوا كسراً لحصار فرضته عليهم دولة محتلّة. فعن أي «اقتحام» للحدود المصرية يتحدّث هؤلاء الذين ارتعبوا من عبور مئات الآلاف ممن يفترض أنهم «إخوة» ـــــ حسب الخطب الرسمية ـــــ وضحايا حصار قاتل فرضته دولة محتلة، فيما يطبّقون اتفاقية يدخل على أساسها مواطنو هذه الدولة المحتلة منطقة سيناء ـــــ حتى نقطة معينة، فـ«يقتحمون حدودها» في أوقات الذروة السياحية دون أن يحتاجوا حتى إلى قطع تأشيرة؟ عن أي سيادة يتحدّث هؤلاء الذين يتركون أبناء مصر يقفون في طوابير طويلة أمام السفارات الأجنبية للحصول على حقّ الدخول إلى إحدى جنات العالم الأول، فيما يسمحون لمواطني هذه الدول «باقتحام الحدود» مقابل بضعة دولارات، دون أن يحتاجوا حتى إلى إبراز جوازات سفرهم؟ وعن أي أمن قومي يتحدّث هؤلاء الذين يرتعبون من سلاح «الإخوة الفلسطينيين»، وقد سمحوا بإقامة قواعد عسكرية على أرض بلادهم ـــــ وإن ما زالوا ينكرون وجودها، وحوّلوا المحروسة أرضاً وجواً وبحراً مرتعاً للسلاح الأميركي؟ لماذا يا ترى يستقوي أبو الغيط على آلاف الفلسطينيين الذين جاءوا «ليتبضّعوا» في أرض سيناء فراراً من العوز، ويرى عبورهم «اقتحاماً للحدود» المصرية، ويهدّد «بكسر أرجلهم»؟ لماذا لا يستقوي على آلاف السياح الإسرائيليين الذي يعبرون إلى أرض سيناء كي «يتفسّحوا» فيها ويتمتعوا بشواطئها الجميلة وبأسعار تعدّ بالنسبة إليهم رخيصة؟ هل لأنّ تقنين الأمر الواقع الذي فرضه الاحتلال أفقده القدرة على تقويم الأمور، وعلى التمييز ما بين غاصب ومغصوب، ما بين عدو وحبيب؟
* صحافيّة مصريّة