نسيم ضاهر *
منذ عُرفت الديموقراطية، أي حكم الشعب، سعت الى المعادلة بين ركني الحرية والمساواة، في بحث دائم عن كيفيّة الإيفاء بكلتيهما على الوجه الأكمل. وبقدر التخلّي عن مفاهيم النخبوية ومقيّداتها سواء في طبعتها اليونانية الأصلية القائمة على المواطنة المحصورة بالأشراف والعريقين من أهل المدينة، أو في نسختها المنقّحة، تيمّناً بالأعراف الأرستقراطية في بريطانيا، ومن ثم بتعاليم الثورة الفرنسية، اتسعت دائرة الأحرار المشمولين بنعمة ممارسة الحقوق السياسية على قاعدة المساواة الضيقة تبعاً لحيازة الملكية ومُحدِّدات معرفية لاحقة. وكان على طلائع الحقوق المدنية الشاملة انتظار الشطر الأخير من القرن التاسع عشر لانتزاع إقرار المساواة وإزالة العوائق والاستثناءات في القارة القديمة، نظير ما تمتّع به المعمِّرون في العالم الأميركي الجديد. مع ذلك، استمرت المكتسبات وقفاً على الذكورية، إلى مطالع القرن العشرين، حيث حاز نصف المجتمع النسوي، تباعاً، الاعتراف بالندية ومشروعية المشاركة في التفويض الشعبي تصويتاً وترشّحاً وتمثيلاً.
اعتنقت مجتمعات سبَّاقة مبادئ الديموقراطية ودوّنتها صراحة في الدساتير. ولغايته قلَّما تجاسر باحث موضوعي على التنويه بكمال تجسيد معادلة الحرية والمساواة في صيغ حيَّة تؤيّدها الممارسة على مخافة التنكّر للواقع، وابتسار عملية جدلية جارية، وربما متصاعدة، للسقوط في مصيدة تجميد التاريخ ونهايته. وإذ تبدّى عقم الكفاية بالمساواة النظرية العارية، إزاء التفاوت الاجتماعي النقيض، انفردت الولايات المتحدة باكراً في تظهير مقولة المساواة في الفرص المتاحة، تعويضاً عن مفقود في الأساس، تنمو مفاعيلها وتصمِّم في دولة الرفاه، وتردم الهوة الفاصلة بالولادة والميراث بين مختلف الشرائح. في المقابل، انكبّت جميع الأنظمة الديموقراطية على مسألة استخدامات الحرية، بفوائدها وشططها، وأنماطها التجميلية المزيّفة، وخلصت إلى أنّ بلوغ الصلاح يستدعي توسيع حقلها واستيعاب ما يتّصل باحتياجات الفرد والسلوكيات، بإسقاط محرّمات دهرية من رواسب الفكر الكنسي ومنظومته القيميّة المتزمّتة.
ثمّة مسافة تفصل دوماً بين المنشود والمحقَّق على محكّ التجربة، في ضوء المتغيّرات العاملة في البُنى التحتية والحراك الاجتماعي. تفي المؤسّسات الدستورية بأغراض أساسية من البناء الديموقراطي، لكن قوالبها الضامنة لا تؤول في ذاتها، أو بالضرورة المطلقة، الى تكافؤ في تمثيل اللوحة الاجتماعية، ولا تتمخّض حكمياً عن سياسات رشيدة تعكس الحكمة والموضوعية. لذا، تؤدّي الآليات المعتمدة والموصلة الى سلم الحكم، في مختلف درجاته ومراتبه ومجالاته واختصاصات صلاحياته، دوراً بالغ الأهمية من حيث الربط بين المبادئ والأداء الفعلي والترجمة الصادقة للأفكار السامية في حيِّز التطبيق.
ولقد استقرّ الاجتهاد الدستوري على حزمة ضوابط تفصل بين السلطات الإجرائية والتشريعيّة والقضائيّة، وتؤمّن التكامل في ما بينها واستقلالية كلّ منها في نطاق عملها. كما أفضى الالتزام المؤسّسي الى إخضاع الذراع العسكري والأمني للسلطة المدنية وأوجبه التقيّد بقراراتها المستمدَّة من الوكالة الشعبية على معنى الحصرية والامتياز. غير أنّ هذه الثوابت، على أهميتها القصوى ونظامها التراتبي، ما زالت تشكو من ثغرات في أعرق الديموقراطيات، مردّها المتحوِّل من عائد المصالح والنفوذ، والمتمثل في بُنية نادي السلطة وغلبة حضور أصحاب الامتيازات في أروقته وفي مواقع القرار.
تتشابه الأنظمة الديموقراطية في الأساسيات والمحدّدات، وتتباين في أشكال الانتظام السياسي والأقنية الوسيطة وصيغ الحكم. منها من يتوسّل التشكيلات الحزبية والنقابية ضمن قوس ايديولوجي عريض حاصل تاريخ وتقاليد، وسواه يتبع العرف الأنغلو ـــــ ساكسوني ذا الجذر البريطاني وثنائية تنافسية مشبعة بالجرعات الليبرالية والتجريبيّة، ومقلّة في منسوب الأدلجة والانتساب المدرسي الفكري.
تقف الولايات المتحدة الأميركية وحدها في منطقة رمادية على تخوم النمط الأنغلو ـــــ ساكسوني، أرادها الآباء المؤسّسون وعاءً للدولة ـــــ الأمة الناشئة التي لم تعرف الإقطاعية من ذي قبل، الصاهرة للمهاجرين من كل الأقطار والإثنيات في بوتقة فريدة ينتصب فيها طرفان على شاكلة حزبين، يغلّب الجمهوريُّون الحرية ويرفع الديموقراطيون لواء المساواة. وبين هذا وذاك، وفي أحشائهما، تتزاحم مجموعات الضغط واللوبيات المنبثقة من الجماعات والجمعيات والولايات، وتتفاعل في المحصّلة بعد تسويات وتنازلات ومضادّات. وعلى تنوّع تقاسيم المشاهد وتلاوينها، ما فتئت الديموقراطية تعاني إشكاليات وعيوباً، وتتعثّر في مسارها نحو الإنصاف وإشاعة السلم الاجتماعي وهندسة رقابة شعبية فاعلة والقضاء على فوارق النشأة والمداخيل والمشاركة في الحياة العامة.
تخطَّت العمارة الديموقراطية مخلفات النظام القديم وترتيباته الإقصائية حيال العامّة وصغار القوم من أرباب الحرف والصناعة والفلاحة، المنسيّين في قوائم الاحتساب، والمنفيين إلى مقام الدونية والاستتباع، بذلك حسمت مسألة قوامة النخبة الأرستقراطية على المجتمع، وتدرّجت في ضمّ المبعدين قسراً من النسيج الوطني تبعاً لأحوالهم ومعتقداتهم ووظائفهم وأصولهم، جاعلة منهم مواطنين لا رعية، حازوا الحقوق السياسية في القرن التاسع عشر، وانتقلوا الى انتزاع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في القرن العشرين بنجاح نسبي متفاوت سائر الى مزيد ومراكمة مكتسبات.
عبر قطار الإصلاح المحطّات، واتسعت رقعة الحقوق من المجرّد الى المعيش، لكن الصعب والأبعد منالاً احتجز في نطاق الفئات الميسورة من أرباب الاقتصاد والنفوذ والمال وشبكتهم، أسلس لهم التناوب على المقاليد ضمن دائرتهم في الغالب، رغم اختراقات متقطعة لا ترتقي الى مستوى الديمومة والثبات المألوف.
ما زالت صناعة القرارات الأساسية تتأثّر بأثقال المجتمع المالي والصناعي في غير بلد ديموقراطي، والأمر سواءٌ في العمق حين يتبوّأ اليسار السلطة مع اختلاف المظهرية والإيقاع والأداء. وتشير الإحصاءات عامة إلى اختلال ميزان الطواقم المنوط بها مسؤوليات الإدارة السياسية والعسكرية، وحتى القضائية والمهنية، لمصلحة الشرائح العليا وذوي الجذور العائلية الراقية والمعروفة. أي إنّ الانتخاب المباشر الحرّ وشيوع التعليم، قاصران عن إيلاء الفئات المتوسّطة والدنيا ما يعود لوزنها العددي من حصص تمثيلية وغلبة نسبية قاطعة.
وحيث أتاحت الحركة العمّالية والشعبية اختراق حاجز الامتيازات والتقليد، خصّت الجيل الثاني من أبناء ومُقرَّبين بعامل وراثي مشابه للتقليديّين وفتحت لهم أبواباً مغلقة على أقرانهم، أو رَجّحت احتمال كهذا. في هذا الصدد، لا يُنكر أن البرجزة نقلت عدواها الى الطبقة العاملة بالذات، بديل ما اصطلح على تسميته بالنومنكلاتورا أو لائحة المحظييّن المحصورة إبَّان حكم المنظومة الاشتراكية في كتلة دول شرق أوروبا والاتحاد السوفياتي.
هي الأرقام في علم الإحصاء، تشير الى معطيات فئوية من منشأ طبقي، تجعل من المساواة الخالصة مقولة نظرية وأُمنيةً يدحضها تعداد شاغلي السلم الاجتماعي وتصنيفهم. معادلة الحرية والمساواة فرضية وردية جاذبة، تعمل الديموقراطية على بلورتها. لكن دون الغاية النبيلة، المؤيّدة بالنصوص والقوانين، مُعوِّقات من صلب تكاوين المجتمع وإفرازاته، ليس أقلَّها توزيع الثروة ومواقع النفوذ وعوامل الجاه والمكانة والتسليم العفوي، في المقابل، بمقدرة الذوات والمقدامين في مجال الأعمال، على الاضطلاع بالشأن العام وتوجيه دفّة الحكم، والى إشعار آخر، سوف تلتصق هذه الشوائب بالديموقراطية وتشوّه بعض معالمها، لكنها لن تنفي عنها هويتها التاريخية المشروعة والمشرقة. وإذا اختلف في أنها قد لا تكون الغلاف الأمثل، لا ينال الشك من كونها الأقل سوءاً والأكثر وعداً في شموليتها وأسسها، وصمام أمان في قابليتها للسير قدماً إلى الأمام.
* كاتب لبناني