زياد حافظ *
الكلام عن ضرورة إصلاح اقتصادي في لبنان ليس جديداً. وعلى ما يبدو فإن موضوع الإصلاح المذكور لا يتناول القضايا بالعمق بل يكتفي ببعض الإرشادات والوصفات العامة أو الخاصة التي يرسم أفقها كل من البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي أو المؤسسات التابعة للدول المانحة عموماً. فبرنامج الإصلاح المنشود في مؤتمر «باريس 3»، لا يخرج عن ذلك المنحى وبالتالي قد لا يعالج الأزمة الاقتصادية الخانقة في لبنان.
لبنان يعاني أزمة مزدوجة: فمن جهة هناك خلل نظامي طغى على بنيته الاقتصادية كما أن الأزمة البنيوية أدّت بدورها إلى المزيد من الخلل في النظام القائم. الحلقة المفرغة تتحكّم بدينامية الأمور، ما يجعل الكلام التقليدي عن الإصلاح الاقتصادي من دون جدوى أو قابلية للتنفيذ. ففي إحدى المحاضرات التي استمعت إليها في الجامعة الأميركية (أيّار 2007) أشار الدكتور جورج قرم إلى أن لبنان شاهد منذ الاستقلال تنافساً بين مشروعين اقتصاديّين.

بين «الشيحيّة» و«الشهابيّة»

المشروع الأول منبثق من فكر ميشال شيحا الذي أضحى أن تكون مهمة لبنان الوساطة بين الدول العربية التي كانت تفتقر إلى البنى التحتية والمالية المطلوبة للقيام بمهامها التنموية عند حصول استقلالها من المستعمر الأوروبي. وبالتالي كان التركيز في لبنان على نموذج معيّن من اقتصاد منعوت بـ«الحرّ» يركّز على قطاع الخدمات وإن كان على حساب القطاعات المنتجة التقليدية كالزراعة والصناعة. وكان النموذج الاقتصادي المتّبع مرآة للصفقة السياسية بين الطائفتين الكبريين آنذاك ـــــ أي الطائفة المارونية والسنية ــــ حيث تمّ الاتفاق على التخلّي عن التبعية للغرب عموماً وفرنسا خصوصاً، مقابل التخلّي عن المطالبة بالوحدة مع سوريا. لذلك كان «الدور الطبيعي» للاقتصاد اللبناني «الوساطة» بين العمق العربي والغرب.
أمّا النموذج الثاني فكان الذي أطلقه الرئيس الراحل فؤاد شهاب الذي حاول أن يصون بنية النظام السياسي القائم عبر إصلاح سياسي محدود وترويج مفهوم التنمية المتوازنة أيضاً بشكل محدود. والنموذج التنموي والنهج السياسي لفؤاد شهاب ترافقا مع المشروع القومي السائد في المنطقة العربية في الستينيات. لكن سرعان ما انقضّت البيوت السياسية اللبنانية على النهج الشهابي والنموذج التنموي بعد هزيمة 1967 وغياب المرجعية القومية الضابطة للانحرافات القومية والإقليمية. فعاد النموذج «الشيحي» يغذيه إقفال قناة السويس والطفرة الأولى لارتفاع أسعار النفط في مطلع السبعينيات، إلى أن انفجرت الحرب اللبنانية وقضت على النموذج الشيحي بصيغته القديمة.
بعد حقبة الحرب اللبنانية، أتى اتفاق الطائف وجاء معه من يروّج لإحياء النموذج الشيحي للاقتصاد اللبناني باغياً استرجاع مكانة لبنان كمركز خدماتي من الطراز الأوّل دون أن يعي المتغيرات الجذرية التي حصلت في المنطقة وفي العالم. فعلى صعيد المنطقة استطاعت الدول العربية أن تستكمل بناء هيكلياتها التحتية وتستبدل الخدمات اللبنانية بخدمات غربية وشرقية. كما أن انفجار الثورة التكنولوجية في المواصلات ووسائل النقل أتى بموجة العولمة التي قضت على مفهوم الوساطة الاقتصادية.
أمّا اليوم فبات واضحاً أن النموذج الشيحي القديم أو نسخته المنقّحة بعد الطائف لم يعد يفي بالغرض المطلوب. فبالأساس، النموذج الشيحي كان مبنياً على معادلة طائفية اجتماعية سائدة بعد الحرب العالمية الثانية وفقاً لظروف موضوعية إقليمية ودولية سمحت بتحقيق بعض النجاحات إلا أنها أخفقت بمعالجة التطور الديموغرافي والاجتماعي الذي حصل خلال الخمسينيات والستينيات حتى منتصف السبعينيات أي عند اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية. كما أنّ النموذج الاقتصادي ما بعد الطائف، المبني أيضاً على معادلة طائفية اجتماعية شبيهة بالنموذج الشيحي مع تغيير في هويّة الطوائف المسيطرة، ذلك النموذج لم يأخذ بعين الاعتبار عامل العولمة الذي خلق مناخاً تنافسياً على الصعيد العالمي وحتى الإقليمي يتطلّب استثمارات كبيرة في الكفاءات والمهارات البشرية لخلق قيمة إضافية بأسعار مقبولة وسرعة متزايدة للمستهلك عموماً وللفعاليات الاقتصادية العربية خصوصاً. كما أن التقدير الخاطئ بالخيارات الإستراتيجية أتى بسياسة اقتراض مكثفة على المدى القصير لتمويل مشاريع تنفذ على المدى الطويل خلافاً لأي منطق اقتصادي معهود. وتمّ ذلك بكلفة باهظة كلّفت الخزينة اللبنانية أموالاً طائلة وعجزاً متراكماً بشكل دين عام وصل إلى أرقام قياسية يصعب تسديده في المدى المنظور إلاّ بكلفة اجتماعية لا يستطيع تحملها النسيج الاجتماعي اللبناني. إضافة إلى ذلك فإن «الاستثمارات» التي تدفقت على لبنان بشكل ودائع في النظام المصرفي والمالي وحتى المدخرات الوطنية تمّ «تعقيمها» أي سحبها من التداول في الدورة الاقتصادية عبر توظيفها في سندات الخزينة مما أوقف عملية التنمية والنمو بشكل واضح أو على الأقل جعل تلك التنمية خاضعة لتوجهات سياسية إقليمية ودولية ومحلية واضحة ما يؤكد مرة أخرى ترابط الاقتصاد بالسياسة، بل يمكننا القول إن الاقتصاد هو يقين السياسة ولكن بلغة الأرقام.
هناك من سيقول إن قطاع الخدمات قطاع منتج وهذا صحيح. ولكن هذا القطاع مدين بوجوده للقطاع الأول والثاني (زراعة وصناعة) وغياب القطاعين يفقد مبرّر وجود القطاع الثالث أو على الأقل يهمشه إن لم يتحوّل إلى قطاع ريعي بامتياز.
غير أن انفصال العلاقة بين القطاعات المنتجة وقطاع الخدمات أدى إلى خلق دينامية خاصة بالقطاع الخدماتي ساهم في نموّه بل بتضخّمه إلى أن أصبح القطاع الأول. هذه ظاهرة عالمية تتجلى بريادية القطاع المالي والأسواق المالية في العالم. فإذا كانت الوظيفة الأولى للأسواق المالية تأمين رؤوس الأموال للنشاطات الجديدة سرعان ما تطوّرت وخلقت أوراقاً جديدة تدرّ الفوائد المالية التي أدّت إلى المضاربة فيها لخلق ريع مالي لا مبرر له اقتصادياً. وهكذا أصبحت الأسواق المالية منفصمة عن النشاط الاقتصادي الحقيقي ولا تمتّ إليه إلاّ بشكل غير مباشر.
أما في منطقتنا فإن النشاط الأساسي لقطاع الخدمات هو تدوير الفوائض الريعية المالية الناتجة عن ارتفاع أسعار النفط. ولن يغيب عن بالنا أن السمة الأساسية للاقتصاد العربي عموماً والاقتصاد اللبناني خصوصاً هو هيمنة الاقتصاد الريعي غير المنتج. المهم في كل ذلك هو الانتباه إلى أن الاقتصاد الريعي يعفي الفعاليات الاقتصادية من أي مجهود حقيقي. هناك ثقافة الربح السريع وغير المكلف مالياً وجهداً تعمّ تلك الفعاليات. فعلي سبيل المثال لا الحصر نشير إلى حقبة الفوائد المرتفعة التي أقامتها السلطات المالية والنقدية اللبنانية في التسعينيات على سندات الخزينة أدّت إلى تحويل المدّخرات الوطنية التي سلمت من إغراء الاستثمار العقاري الهمجي إلى قطاع التوظيف في تلك السندات جانية أرباحاً طائلة دون كلفة تذكر وحتى دون مخاطرة! وهذه الفوائد الريعية أتاحت للفئات المتموّلة المزيد من الثراء غير المبرر ودون مجهود وعلى حساب خزينة الدولة ومصالح الناس.
القضية إذاً ليست مسألة أخلاقية بحد ذاتها بل تكريس خلل في البنية الاقتصادية اللبنانية حيث تحوّلت الاستثمارات إلى توظيفات في القطاع العقاري وفي سندات الخزينة مهملة القطاعات الأخرى الأساسية في تكوين الرأس المالي الوطني. والنتيجة المباشرة لتلك السياسة انسداد أفق التوظيف والاستخدام وجعل الشباب اللبناني يراهن على الهجرة لبناء مستقبله. فاليوم تحوّل لبنان إلى مصدّر لنخبه ومهاراته الوطنية للخارج معتمداً على التحويلات الوافدة من اللبنانيين المهاجرين والتي أصبحت مصدر ريع إضافياً في بنية الدخل القومي اللبناني.
لقد وصل النظام الاقتصادي في لبنان إلى طريق مسدود حيث أصبحت الهجرة المتنفس الوحيد للبنانيّين. وأزمة النظام الاقتصادي هي أزمة النظام السياسي إن لم نقل أزمة كيان. هناك من يقول إنّ الإصلاح الاقتصادي لا بدّ من أن يترافق مع تغيير جذري في النظام السياسي. فالقرار الاقتصادي سواء كان على مستوى الفرد أو العائلة أو المؤسسة أو الحكومة هو قرار سياسي بامتياز وإن كان ظاهرالاقتصاد تقنياً أو رقمياً.
لقد أوضحت في دراسة سابقة نشرت في مجلة «الآداب» في شهر كانون الثاني 2007 العلاقة العضوية بين الاقتصاد الريعي والنظام الطائفي في لبنان. وبناءً على ذلك أعتقد أن الإصلاح السياسي هو حجر الزاوية في عملية الإصلاح الاقتصادي. إن نبذ النموذج الطائفي الذي لا ينتج إلاّ الويلات بشكل دوري منذ عهد القائممقامية والمتصرفية في القرن التاسع عشر هو ضرورة حيوية لاستمرار الكيان اللبناني. لكن النخب اللبنانية ما زالت تعتبر «خصوصية» الوضع اللبناني مبرراً للبدعة المسمّاة «الديموقراطية التوافقية» ـــــ أي المحاصصة الطائفية لمغانم السلطة. النظام الطائفي لن يؤدي إلى بناء دولة قوية تفي بالتزاماتها تجاه المواطن والوطن لأن ذلك ليس من مصلحة الزعماء الطائفيين المدينين بوجودهم لذلك النظام والذين يحرصون على تقاسم المغانم و المنافع المنبثقة من الوجود في السلطة.
هذه الظاهرة ليست خاصة بلبنان بل موجودة في كل الدول العربية التي يسودها نظام فئوي يتلازم مع الاقتصاد الريعي وثقافة الفساد. فللفئوية عدة أشكال كالقبلية والعشائرية والطائفية والمذهبية والمناطقية والقطاعية، وليست جميعها متضاربة مع بعضها بل قد تجتمع في كيان واحد!

مراجعة العلاقة مع سوريا

من السذاجة والعمى السياسي والجهل الاقتصادي الاعتقاد بأن بإمكان لبنان أن يتحوّل إلى جزيرة اقتصادية مزدهرة وسط بحر من التقلبات السياسية والاحتلالات العسكرية المتعددة والتخلّف في المنطقة دون أن يتحمّل لبنان بشكل أو بآخر النتائج السلبية في النهج الانفرادي للقرار الاقتصادي. أي بمعنى آخر إن مسؤولية النمو والتنمية الاقتصادية في لبنان تحمل في طيّها مسؤولية إقليمية بل قومية لا تقلّ أهمية عن مسؤولياتها داخل الحدود الوطنية للكيان اللبناني. علينا أن نعترف ـــــ شئنا أو أبينا ـــــ بأنه لا يمكننا أن نقوم برحلة التنمية الداخلية دون التطلع إلى تداعيات قراراتنا على شقيقتنا السورية أولاً وأخيراً. أعي أن هذا الكلام سيثير تحفّظ الكثيرين وأفهم تحفظّهم إلا أن ذلك لن يغيّر من الأمر شيئاً. فالقضية ليست قضية رغبات أو تمنيات بل واقعية سياسية واقتصادية في آن واحد بغض النظر عن البعد القومي الذي يتصف به ذلك الكلام. الكلام عن «العلاقات المتميزة» أو «الصحية» أو «من الند إلى الند» ليس إلاّ كلاماً إنشائياً فارغاً من أي مضمون سياسي واقتصادي ما دامت المواضيع السياسية والاقتصادية غائبة عن الأجندة التفاوضية المرتقبة.
من جهة أخرى هناك من يقول إنّ الرغبة في التفاهم مع سوريا موجودة ولكن تصرّفات القيادات في النظام السوري مسؤولة عن تحقيق عدم الثقة عند اللبنانيين وبالتالي يصبح الكلام عن تفاهم مع سوريا حديثاً دون جدوى. إنّ مصلحة لبنان الاستراتيجية والكيانية ـــــ ناهيك عن المصلحة القومية ـــــ تقضي بفتح «الباب» مع سوريا مهما كلّف الأمر. هذه هي مسؤولية القيادات الجديدة للبنان ولا بد من أن تكون جديدة. لذلك يصبح حلّ الإشكالية في العلاقات بين لبنان وسوريا شرطاً ضرورياً للقيام بأي محاولة إصلاحية جذرية في النظام والبنية السياسية والاقتصادية في لبنان.

المراجعة في طبيعة النظام الاقتصادي

توالت الحكومات اللبنانية منذ الاستقلال على تكريس ما سمّته وتسمّيه حتى الآن «الثوابت» الاقتصادية. فمن هذه «الثوابت» منهج الاقتصاد الحر. ولكن ما أخفقت جميع هذه الحكومات فيه هو أولاً تحديد مفهومها للاقتصاد الحر وثانياً المعايير التي تقيس بها أداء ذلك الاقتصاد. غير أن ما يسمّى الاقتصاد الحر ليس..... حرّاً!
جاء في أحد الأبحاث الدولية الحديثة أن لبنان لا يتمتع بكل مزايا الاقتصاد الحر. فهناك قيود عديدة على النشاط الاقتصادي سواء كانت في قطاع التجارة أو الصناعة أو البناء أو المال. ويأتي لبنان في المرتبة الـ77 من بين أكثر من مئة دولة حيث حرية الأعمال لا تتجاوز 56 في المئة من أصل مؤشّر الحريات ومقارنة مع سائر الدول ودون المتوسّط العالمي أي 60 في المئة. أما حرية الاستثمار فهي 30 في المئة فقط وحقوق الملكية 30 في المئة والحرية من أحكام الفساد لا تتجاوز 30 في المئة. أي بمعنى آخر الفساد يحدّ من الحرية في التعامل الاقتصادي. لكن رغم كل تلك المؤشرات ما زال الحديث شائعاً عن التشديد على المحافظة على الحرية الاقتصادية وضرورة الحد من «هيمنة» الدولة على المقدّرات الاقتصادية.
على سبيل المثال، القيود المفروضة على معظم النشاطات الاقتصادية تهدف إلى تكريس هيمنة المؤسسات الاقتصادية القائمة والمسيطرة. فالوكالات الحصرية للتمثيل التجاري ليست إلاّ نموذجاً عن زيف الادعاء بحرية الاقتصاد. والكلام عن كسرها الصادر عن رموز جمهورية الطائف ليس إلاّ ادّعاءً زائفاً هدفه نقل الوكالات الحصرية من فئة استمتعت بها واستغلتها طيلة فترة الانتداب وما بعد الاستقلال (أي فترة نموذج ميشال شيحا) إلى فئة أخرى ظهرت مع الطفرة المالية الريعية النفطية. كما أن مشاريع الخصخصة المزمع تنفيذها ليست إلا نقل ملكية النشاط من احتكار الدولة إلى احتكار الشركة الخاصة. فخصخصة الهاتف الخلوي لن تؤدي إلى خفض كلفة المكالمة الهاتفية بل على الأرجح إلى زيادتها ما لم تفتح الإمكانية لشركات أخرى للمنافسة.
والحرية الاقتصادية المبتورة رافقها فقدان المساءلة وتعميم الفساد. لذلك نرى المؤشرات الدولية تضع لبنان في أسفل الدرجات في قدرته على التحرر من حكم الفساد. وما الحديث عن «أزمة الكهرباء» إلا خير مثال عن ذلك إذ إن الفساد الذي تجسّده الممارسات الاحتكارية بل «المافيوية» في تغذية مصانع توليد الكهرباء بالفيول وعدم إقبال الحكومات المتتالية منذ الطائف على إيجاد البدائل كالغاز الطبيعي أو السائل بل حتى ذهابها إلى تحميل المواطنين الأكثر حرماناً مسؤولية الأزمة هو مثل آخر عن الفساد السائد والمبرمج من قبل الفئات المهيمنة على مقدرات الوطن. والجدير بالذكر أن الدراسة الأخيرة التي أعدها البنك الدولي عن كهرباء لبنان أوصت بعدم خصخصة المؤسسة لأن القطاع الخاص سيطلب مردوداً عالياً لتحمّل «المخاطر» أي زيادة تعرفة الكهرباء!
لا بدّ من استرجاع الحرية للنشاط الاقتصادي ولكن ضمن توجيهات عامة تحدد أطر ومغازي القرارات التي يجب أن تتخذها النخب الحاكمة وبمشاركة أصحاب الرأي والشأن والمصالح لمختلف شرائح المجتمع اللبناني. أي الشراكة الفعلية بين الدولة وأبناء المجتمع في مختلف القطاعات الإنتاجية اللبنانية.
واستعادة الحرية الاقتصادية عمل سياسي قبل كلّ شيء ولا يمكن تحقيقه إلاّ في إطار الإصلاح السياسي الذي يقضي على الثقافة الفئوية التي هي أم البلاء. إذاً إعادة التوازن في النظام الاقتصادي تعني استعادة الحرية وهي تعني حتماً ضرورة الإصلاح السياسي.
أما المسألة الثانية في قضية الحرية فهي تكمن في حدود تلك الحرية وتحديد المستفيدين منها.
يجب تحديد الخيار بين اقتصاد السوق والاقتصاد الموجّه وتحديد دور القطاع العام أو الدولة في النشاط والدورة الاقتصادية. وهذا دليل آخر على ترابط القرار الاقتصادي والقرار السياسي. لكن ليس هناك تناقض بين تحديد القيود لكبح النزعات والغرائز التسلطية الموجودة في طبيعة الإنسان وبالتالي الميل إلى الممارسات الاحتكارية وبين حرية التنافس. بل العكس هو الصحيح، أي إن رسم الحدود يساهم بتفعيل الاقتصاد السوقي ويغذّيه ويرشده. إذاً لا بدّ من توازن بين الحرية والرقابة لمصلحة الحرية أولاً ولمصلحة المجتمع ثانياً وهذا ما يغيب عن خطاب النخب السياسية في لبنان سواء كانت في الحكم أو خارجه.

استعادة التوازن القطاعي والاجتماعي

أما المحور الثاني للإصلاح الاقتصادي فهو التوجه نحو توازن بين القطاعات الاقتصادية وبين المناطق اللبنانية وبين شرائح المجتمع اللبناني.
أبدأ بدور الدولة في تحديد التوجهات والأولويات للاقتصاد اللبناني. فلا يجوز أن تعفى الدولة من تلك المسؤوليّة وحصرها في القطاع الخاص لأن الأخير ليس معنياً إلا بجني الأرباح وإن كان على حساب المسؤولية الوطنية. وليس الكلام عن دور القطاع العام في عملية التنمية عودة إلى واقع مضى عليه الدهر ولكن لا بد من توازن بين دور الدولة والقطاع العام من جهة ومع القطاع الخاص من جهة أخرى. والتوازن المطلوب ليس بالضرورة في الحجم الكمّي في الاقتصاد أو إيجاد اقتصاد موجّه عبر خطّة مركزية لا يمكن الحياد عنها ولكن في ضرورة الدولة في قيامها بدور المحفّز والمشجّع كما في دور المراقب والمحاسب على انحرافات ممكنة، ودور المستثمر في البنى التحتية والقطاعات الاستراتيجية التي تشكّل الأمن القومي الاقتصادي. فلا يجوز أن تغيب الدولة عن تلك القطاعات كالتنقيب عن النفط في البحر مثلاً أو محو الأمية أو إنشاء شبكات الضمان الاجتماعي بكل أبعاده. ففي ما يتعلق بالضمان الاجتماعي لا بد من مراجعة في أداء المؤسسة التى أنشأها الرئيس فؤاد شهاب وحصر الهدر فيها وترشيد الأداء. لكن للأسف لم يغطّ الضمان الاجتماعي أكثر من 25 في المئة من المواطنين وهناك محاولات حثيثة لعدم توسيع مجال التغطية.
أمّا الخدمات التي يجب تشجيعها فهي تلك التي تأتي بقيمة مضافة إلى الاقتصاد اللبناني. تلك القيمة المضافة تتطلب استثمارات ضخمة في تكوين المهارات المميزة في كل أنشطة قطاع الخدمات، فنمو قطاع الخدمات مرتبط عضوياً بالقطاعات الإنتاجية وإلا فقد مبرّر وجوده. ولكن تطوّر الأمور جعل من القطاع الثالث قطاعات قائمة بحد ذاتها كادت تفقد العلاقة العضوية مع القطاعات المنتجة. هذا القطاع يتطلب استثمارات لا تقل حجماً عن الاستثمارات في القطاعين الإنتاجين وذلك لتطوير المهارات التي تواكب الثورة التكنولوجية في المواصلات والنقل والاحتساب أي إلى أسباب العولمة الاقتصادية والثقافية التي أصبحت واقعاً والتي تتطلّب بدورها كفاءات جديدة.
فعلى سبيل المثال أشير إلى قطاع التعليم وإلى قطاع الخدمات الطبية وإلى القطاع المالي. تلك قطاعات حقّقت في الماضي ـــــ أي قبل الحرب الأهلية ـــــ تفوقاً نسبياً استقطب النخب العربية والشرق أوسطية إلى لبنان. لكن الدول العربية استطاعت أن تبني هيكلياتها الخدماتية التي كان لبنان يقدمها وبالتالي فمن المستحيل أن يسترجع لبنان مكانته السابقة إن لم يطوّر تلك الخدمات ذات القيمة المضافة العالية وغير الموجودة في الدول العربية التي تمتلك مقدرات مالية ضخمة. فعلى الصعيد الطبي مثلاً، يتميز لبنان بمناخ طبيعي يستطيع استقطاب النخب العربية التي تريد خدمات طبية مميزة. هذا يعني المزيد من الاستثمار في مختبرات البحوث المنتجة لسلع طبية أكثر تطوّراً وأكثر فاعلية ولخدمات من نوع أكثر تطوّراً وتميزاً، ويستدعي كفاءات غير موجودة أو عجز عن بلورتها النظام التعليمي العالي.
أما على الصعيد المالي فالدور المطلوب لذلك القطاع في لبنان هو خلق الخدمات المالية المميزة التي قد تكون غير موجودة بشكل كاف وواف في المنطقة. فعلى سبيل المثال لا الحصر أرى أن خدمة دراسة وهندسة تمويل المشاريع (project finance) ليست جزءاً أساسياً من النشاط المصرفي أو المالي بل هي مهمّشة للغاية.
من الواضح أن المصارف اللبنانية تتصرف وفقاً لمصالح مساهميها والمودعين أولاً وأخيراً وهي مشكورة للحفاظ على تلك الأمانة. ولكن لن يعفيها ذلك الأمر من مسؤولية تطوير خدماتها خارج الإطار التقليدي (بمعنى النقلي) وإيجاد أدوات مالية من أوراق مالية جديدة تساهم في دعم النشاط الاقتصادي لا فقط لتدوير الفوائض المالية التي تأتيها من الدول النفطية ومن اللبنانيين المغتربين. ليس من المقبول أن يفوق حجم الودائع في لبنان أضعاف الناتج الداخلي في لبنان. (حجم الودائع في لبنان حوالى 70 مليار دولار بينما الناتج الداخلي في حدود 21 مليار دولار). إن عملية «تعقيم» الودائع تمنعها من أن تؤدّي دورها في تنمية الاقتصاد اللبناني ونموّه. ولا يجوز أن تجني المصارف الأرباح العالية جداً في ظل انخفاض النمو الاقتصادي وزيادة التضخم في الأسعار وانسداد أفق فرص العمل دون أن تساهم المصارف بشكل مباشر وفعّال في تمويل التنمية. إن إهمال القطاعات الإنتاجية التقليدية بحجة عدم جدواها أو بحجة أنها خارج «الدور الطبيعي» للاقتصاد اللبناني، وهي حجج واهية في أحسن الأحوال وغير صحيحة، أدّى ذلك الإهمال إلى خلل جوهري في هيكلية الاقتصاد الوطني وجعله تابعاً لتقلبات الدورة الاقتصادية في الخارج كما جعله رهينة القرار السياسي الخارجي بحق لبنان والمنطقة.
وتشجيع النشاطات الإنتاجية في كل من القطاعين الزراعي والصناعي لا يعني الحماية المطلقة. المطلوب فقط الحماية من المنافسة غير الشرعية وغير المشروعة. وتكون هذه الحماية عبر شبكة من الإجراءات كتوفير صناديق استثمارية في رساميل المنشآت الإنتاجية في القطاعين في المناطق وتوفير الخدمات في الطاقة والطرقات للتواصل مع المدن ومراكز التصدير وبعض الإعفاءات المؤقتة من الضرائب والرسوم الجمركية على السلع الرأسمالية المستوردة. وهناك دراسات عديدة أعدها خبراء لبنانيون مما يعفينا من مسؤولية تردادها.

• جزء من محاضرة ألقيت في المركز الثقافي
في طرابلس في 16 شباط 2008
* كاتب وباحث اقتصادي