الشيخ خضر نور الدين
في تاريخ الأمم المظلومة والمستضعفة نجد رموزاً كان لها الدور الكبير في استنهاض الشعوب للخلاص. وبمعزل عن الخلفيات الفكرية لهذه الرموز، فإنّ آثارها كانت قويّة، فمنهم الأنبياء والعلماء وبعض الزعماء من ملوك وقادة عسكريّين، وبعضهم تجاوز دائرة الدين أو الفكر أو القومية ليكون رمزاً حتى لغير أبناء دينه أو فكره أو عرقه. وعلى سبيل المثال لا الحصر نستحضر من الأنبياء موسى، عيسى ومحمد، ومن الأوصياء عليّ والحسين والخميني، ومن غير الأديان السماوية نستحضر غاندي وغيفارا... ويمكن القول بالإجمال إنّهم كانوا محارَبين بلا هوادة من سلاطين وحكام أزمانهم وما يعبّر عنها بالنُخب التابعة من أقلام وأصوات وقَتَلة... وكثير منهم قتل، ومع ذلك بقي صوتهم وبقيت كلماتهم ومواقفهم وامتدّت لعقود أو قرون مناراتٍ يُستضاء بها رموزاً للثورة والتغيير ورفض الظلم. وبشكل موجز يمكن القول إنّ هؤلاء الرموز اشتركوا في صفات، وإن امتازوا بأخرى... حيث إنّ خلفية فكرية أو ظرفاً معيّناً له علاقة بوضع شعوبهم وعائلاتهم... وأهم ما اشتركوا به من صفات هي:
ـــــ الصفاء في الشخصية.
ـــــ التعاطي بشفافية مع القضايا العامة والخاصة.
ـــــ الصدق مع النفس ومع الآخرين.
ـــــ الشجاعة في المواجهة وعدم الوقوف عند الحواجز مهما كانت.
ـــــ الجهوزية للتضحية حتى الشهادة.
ـــــ الثبات في القناعات الناتج من قوة الشخصية.
ـــــ المنطق في التعاطي عندهم أساس.
ـــــ الحب لأهلهم وقومهم وللإنسانية.
ـــــ تفضيل المصلحة العامة على المصلحة الخاصة.
ـــــ القدرة على التأثير لوجود كاريزما عندهم.
ـــــ التفاني في العطاء إلى حد لا يوفون التعب والملل أو الكلل.
باختصار يمكن القول إنهم يحفظون، بوضوح بارز، القيم الإنسانية التي تعطي صاحبها مكانة غير عادية، ومن منظور ديني يمكن زيادة بعض أمور:
ـــــ ذابوا في الله، فارتقوا إلى عالم الملكوت، فنطقوا بالحقيقة بعدما عاشوها بفعل إخلاصهم واندفاعهم وتقواهم في سبيل الله، فكانوا نعم المصداق لخليفة الله على الأرض.
ـــــ حصلوا على الدعم الإلهي الغيبي، فكانت الملائكة والطبيعة والنفوس الصادقة في خدمتهم... بكلام آخر مسخّرة لهم.
ـــــ لم يتوقّفوا عند بهارج الدنيا الزائلة، فانصرفوا إلى الاهتمام بالآخرة... فعاشوا بذلك العتق والحرية من كل ما يمنع من المواجهة، وحيث إن التثاقل إلى الأرض يمنع النفور والجهوزية للتضحية.
ـــــ عاشوا التوازن في الدنيا، فلم يكونوا رهباناً، لأنهم رأوا أن رسالات الله تتطلّب منهم أن يكونوا بشراً كالآخرين بهجومهم وآمالهم وطموحاتهم.
ـــــ انطلقوا من الحديث النبوي المشهور: «الخلق كلّهم عيال الله وأحبّهم إليه أنفعهم لعياله».
وبالعودة إلى الحاج الشهيد عماد مغنية، الذي كان يعمل في الظلّ دون كلل أو تعب منذ ريعان شبابه، حيث إنه لم يعرف السنوات الضائعة، انطلق من بيت عادي مستضعف، ومن منطقة مستضعفة، من الجنوب والضاحية الجنوبية، رأى الظلم الذي يُمارس بحق أمّته من أقصاها إلى أقصاها، عاش فلسطين والقدس متأثراً بما يجري بحق أهلها، وعاش الاحتلال الإسرائيلي وما يلحق بوطنه لبنان من أذى على مرأى العالم كله ومسمعه من دون تحريك ساكن. وفي ظلّ هذه الأجواء عاش الإمام الخميني وثورته ضدّ الظلم والاستعباد والاستضعاف... فامتلأ قلبه إيماناً من خلال انكبابه على فهم الدين القويم بعيداً عن وعّاظ السلاطين وأرباب الدنيا. صاغ نفسه إيمانياً حتى وصل إلى الذوبان في ربّه لتهجّده وعبادته وصلاته لنوافل الليل. واصل جهاده غير عابئ بموازين القوى، فوصل ليله بنهاره، وسهر على الثغور مقاوماً وحربياً، حتى انتصر مع إخوانه المقاومين انتصاراً لم تكن تعرفه المنطقة منذ زرع الكيان الإسرائيلي الغدّة السرطانية في جسم المنطقة، ليهزّ أركان هذا الكيان ولتؤثّر ارتداداته على كل المنطقة، لتوجد القلق عند كل مَن يرعى هذا الكيان في العالم.
أرعبهم بإخلاصه وشجاعته وثباته ومحبّته وتفانيه، وزاد على ذلك بإيمانه القوي الثابت وذوبانه في الله، فاغتالوه خلسة، ظنّاً منهم أنهم بذلك يتخلصون منه. فرحوا وهلّلوا لدقائق ليستيقظوا بعدها وليجدوا أنفسهم أنهم أمام رمز من الرموز الكبار، ليروا المارد الذي ارتفع بشهادته فتهتزّ الأمة ويعيش كل أحرارها الغضب والثورة بدءاً من فلسطين ولبنان وانتهاءً بكل أرجاء العالم.
ذهب عماد الشخص الطيب غير المعروف إلى ربّه ليبقى عماد الرمز الذي ظهر. عماد البطل الذي تبحث الأمة عنه لتتمثّل به. عماد العبد الصالح الذي لم يطلب الدنيا وبهارجها... بل الطالب لعزّة أهله وكرامة أمته والدار الآخرة.
وعلى قاعدة «ما كان لله ينمو» يمكن القول الآن إنه كلّل جهاده بالشهادة لينمو الآلاف من أبناء الأمة الذين رأوا فيه النموذج الواضح والصادق ليكون رمزاً لهم، حيث إنّ الكثيرين من المتردّدين الحائرين في هذه الأمة كان ينقصهم البطل الذي يقود المعركة ويقف أمامهم مخلصاً حاضراً حاجزاً للشهادة. كان ينقصهم مَن يطرد كلّ الأقاويل التي صاغها المستعمر المحتلّ ويساعده الضعفاء المحتاجون إلى وجوده لبقائهم، حيث إنّ مقولة «الأسطورة التي لا تُقهر» سقطت، و«العين لا تقاوم المخرز» سقطت، فها هو عماد بدمائه هزّ أركانهم في أرجاء العالم بعد سقوطهم المدوّي في حرب تموز 2006. نعم سجّل التاريخ الحاضر رمزاً جديداً لكلّ الأمة وسيبقى حاضراً ولن يستطيعوا اغتياله بعدما اغتالوا جسده فتعملق ليملأ الكون جهاداً وعطاءً مُحطّماً لكل الحواجز، وبات الآن مدرسة لكلّ مظلوم ورمزاً لكلّ مقاوم.
* عضو المجلس السياسي في حزب الله