نسيم ضاهر *
ذكر الأمين العام لحزب الله، سماحة السيد حسن نصر الله، الحرب المفتوحة في رثائهِ المنقول خلال تشييع القائد العسكري عماد مغنية الذي سقط في تفجير استهدفه في ضاحية كفرشوسا التابعة لدمشق. تناقلت قنوات البث والصحف هذه العبارة على وجه خاص، وسلّطت الضوء على استخدامها المثير للمرّة الأولى، دون بيان فحواها ومفاعيلها، على سبيل المبتكر اللغوي والتشديد على تصميم حزب الله ملاحقة مرتكبي الجريمة وعدم إغلاق الملف لغاية النيل منهم والثأر من صنيعتهم.
سبق إيراد أوصاف عديدة للحالة الصراعية مع العدوّ الإسرائيلي، حملتها أدبيات الحزب وخطب قادته. لكن استخرجت جميعها من مدار المقاومة ومناخها، واستوحيت من مرجعيتها ووسائلها وأسلوب ممارستها. أي إنها اكتست لبوساً أهلياً حرصت على الطابع الدفاعي في مواجهة الاحتلال والعدوان، من موقع صاحب الأرض المكلَّف، وفق القانون الوضعي والشرائع، حمايتها والذّود عن سيادتها.
اختلفت الصورة منذ الرابع عشر من شباط، ودخلت المسألة، في التكوين والجوهر والنطاق، دائرة أكثر شموليّة وأبعد مدى، لها معايير ومقاييس وأحكام ومشهديّة وتفرّعات ونهايات يصعب ضبطها وتوقّع كامل نتائجها وتداعياتها.
هي، إذاً حرب ومفتوحة، إن أرادها العدوّ، وقد عرّفه لاحقاً رئيس الجمهورية الإسلامية محمود أحمدي نجاد بـ«الوحش المفترس»، ما يشير إلى ترجيح وقوعها على معنى السببيّة والسلوك الغريزي، إلى أن يطفح الكيل، لأن الطبع غالب في النهاية والدوافع من صلب بنية الكيان الصهيوني العدوانية. والمعروف أنّ الحرب، في مجراها الأساسي وعملياتها، نظامية تقليدية، تتوسّل التقنيات والأسلحة الحديثة بكلّ صنوفها المتاحة، وتحيل النشاطات المقاومة مشاغلة جانبية وإسناداً، فيما يقع العبء الأساسي على الوحدات الميدانيّة.
لئن فُسّر كلام السيد نصر الله بالمشروط ردّاً على إمعان إسرائيل في التصفيات، أو عُدَّ واجباً لشحذ الهمم ورفع المعنويات ثمّ الثأر بعد صدمة اغتيال أبرز رموز المنظومة الجهادية والعامل بسرية تامّة ضمن صفوفها، فلا بدّ من تفنيده والوقوف مليّاً على مقاصده. في مطلق الحال، لن يُسدي الصمت عنه خدمة للمقاومة، كما الترداد الببغائي، ودفن الرؤوس في الرمال، لأن الدوائر الإسرائيلية كلها، الاستخبارية والأمنية، وتلك المتخصّصة في مجال التخطيط، انكبّت، منذ لحظة الخطاب الأولى، على التنقيب عن خباياه ودرس تردداته المحتملة، والتمعّن في حرفيّته ولغته ومراده، وأعلنت تحوّطها وتدابيرها الوقائية (لا الواقية) تحسّباً لذيول. شاءَ الأمين العام لحزب الله إعلان رسالته الجوابيّة في وضح النهار، وبصريح العبارات، ودلّ، بالقطع، على هويّة المرتكب الجانبي وعنوانه، من حيث أراد عدم إخفاء الغضب العارم، وطرح موقف الحزب على الملأ، كي لا يفاجأ أحد في ما بعد، ولا يظنّن آخر أنّ إخوان مغنية سوف يقفون مكتوفي الأيدي إزاء اغتيالهِ.
أجرى خطاب التشييع، مثابة تمهيد، مقارنة رقمية كشفت نموّ قدرات المقاومة القتالية بما لا يُقاس مع حجمها خلال حرب تموز عام 2006، مستبقاً السؤال المشروع عن فاعليتها وطاقتها على خوض حرب مفتوحة. بذلك طمأنَ الغيورين سلفاً حيال جدية الاستعدادات، ونبَّه إلى أن الحرب المذكورة تختلف نوعاً عن سابقتها، ولن تأخذ المقاومة على حين غفلة. وأتت إماطة اللثام عن تدريب عشرات آلاف المجاهدين لتعزّز الثقة والوعد وتُضاف إلى سالف معلومة أشارت إلى القفزة في النوع والكمّ، التي حقّقتها المنظومة الصاروخية منذ الجولة الأخيرة.
هذا يعني أنّ مقولة الحرب المفتوحة ليست إيغالاً أملته العاطفة ظرفياً أو استعارة تصويرية، بل تندرج في سياق إعداد وخطاب متلازمين، دفع اغتيال الحاج رضوان إلى تظهيرهما والبوح بصيغتهما. ويفترض محتوى الرسالة وطريقة إبلاغها للداخل والعدو والعالم بأسره، بداهة وصراحة، أنّ المولج الوحيد بشأن الحرب المفتوحة، أي السير بها أو الإعفاء منها، هو ذاته مطلق العبارة دون سواه. توكيداً لهذا التكليف «الطبيعي»، انبرت أصوات في المعارضة، فاقدة الوكالة الشعبية، تشرح وتجتهد وتيسّر، فوجدت مطالعة رئيس وزراء سابق وزاهِد، أنّ أي حكومة ليست مؤهّلة أو مستعدّة لمواجهة إسرائيل والتصدّي للحرب، وسارع وزراء سابقون، من هواة التنظير القومي وإفرازاته المسيحيّة، للإعراب عن يقينهم أنّ المنطق (وخطورة المهمّة المصيرية) يأبى الوقوف على خاطر هذا أو ذاك وتقييد القائد بالمماحكة وإبداء الرأي.
تمتدّ الحرب المفتوحة في المكان والزمان إلى بلوغ الحسم النهائي. ولقد حمَّل السيد نصر الله إسرائيل مسؤولية الأمر، من خلال تخطيها المزدوج للخطوط الحمراء؛ أولاً بإقدامها على اغتيال قائد مجرّب وكبير وركن من أركان المقاومة، وبالتالي لجوء الموساد إلى أسلوب مدان، عُرفياً وأخلاقياً، وثانياً بتنفيذ الجريمة خارج أرض المواجهة الطبيعية واختيار سوريا، ما وسَّع في حدّ ذاته، من جانب واحد، نطاق الجغرافيا، وحرّر المقاومة من موجب الردّ المقيد، والاكتفاء بالحضور (والعمليات) على التراب الوطني والانطلاق منه. توسّعت رقعة القتال بإرادة إسرائيلية، وأضحى لزاماً عليها حصاد التبعات حيثما تجد المقاومة الفرصة المناسبة، لأن تل أبيب شرَّعت بفعلتها، العمليات الخارجية التي قد يقوم بها جهاز حزب الله، وخرجت عن قواعد اللعبة المتفاهم عليها ضمناً لاحتواء الصراع.
تحرّر الحزب، نظرياً، من قيد الجغرافيا، ومن التزاماته الطوعيّة السابقة. لكنَّ توسّل أرض غريبة، عربية أو أجنبية، مسرحاً لتصفية الحسابات دموياً، نظير منظمات قلّما ينطبق عليها عنوان المقاومة، يبقى محفوفاً بالسلبيات، ولا يؤتي ثماراً حلوة وحسب. فإلى الانتقام الإسرائيلي المعهود، الذي لن يحدّه عامل الجغرافيا ويبعده عن الوطن، أرضاً وشعباً ومنشآت، يصعب حسبان مدى ردود الفعل، لدى البلد المضيف والعدو بسواء، أو تقديرها بالقياس الصحيح، فضلاً عن احتمال إلصاق تبعة «الإرهاب» بشبكة منفّذي العملية الأصلية. في هذا الصدد، ونظراً للواقع الدولي الراهن، والعقوبات المتلاحقة المتّخذة من مجلس الأمن إزاء إيران، سوف يزعم أن مطلق عملية خارجية تنهض بها المقاومة، تستدعي وتستبطن مشاركة إيرانية خفية، لا يبخل قادة الحرس الثوري بتوفير ذرائعها على وجه شبه يومي. الحاصل المنتظر، وفق قراءة هادئة متأنّية، تأليب دول ورأي عام، وتجنيد المزيد من دعاة المماهاة بين المقاومة (السائرة في طريق الثأر التوارتي خارج الأرض) والإرهاب.
وإذا زرع ردّ المقاومة في أرض عربية، نيلاً من مصالح يعتقد أنها تتّصل بإسرائيل، أو ربما بأميركا أو دول أخرى، تتفاعل التداعيات وتتفاقم، وتنذر بتحريك الراكد والمستور من مآخذ ومخاوف وتناقضات، وتؤدّي إلى تشقّقات عريضة في البيت العربي، وإلى تنشيط للساحات المذهبية والحذر الشديد من الصبغة الفئوية والروابط الملتبسة التي تشدّ منظومة حزب الله إلى طهران وسياساتها.
تؤول الحرب المفتوحة إلى حرب وجود، وهي تنتمي أساساً إلى فضائها، فليس من شواهد تاريخية تجافي هذه الصورة، إلّا في حالات معدودة أُنهك خلالها الفريقان المتصارعان وانتهيا إلى تسليم متبادل، بينما انجرفت النزاعات المفتوحة عامّة نحو الحرب الشاملة وشطب أحد الفريقين كلياً من المعادلة.
اختار الأمين العام ألفاظه بدقّة، حيث استخدم نعت «المفتوحة» عوض الشاملة للدلالة على البُعْد الزمني، تاركاً لحتمية التاريخ اقتلاع إسرائيل، على أن تحرّكها المقاومة بضرباتها، وتؤازر مسارها، فيما ترهق وترهب الإسرائيلي الخائف والمهزوم معنوياً وحضارياً، فتسير إسرائيل إلى زوال تلقائي، ويُصَحَّح
التاريخ.
إنّ رؤية السيد نصر الله تجانب التدمير الشامل، وتقرن الفعل بالعقيدة، فتساوي بين الانهزام وهزيمة الإرادة، وتتحوَّط لمنازلة قاسية لا لانتصار مادّي ساحق. غير أنّ ثمة ثغرة بائِنة في هذا البناء الفكري، مردّها الهندسة الأحادية لمجريات الحرب وآفاقها وأبعادها، وكأن العدو خاضع قابل بمنطقها وضوابطها، يلتزم الروح الرياضية في المباراة.
ما هي تردّدات منطوق خطاب التشييع على المدى البعيد، وكيف يمكن احتواء ردّ فعل إسرائيل في حال المواجهة، وهل يكفي القول إنّ البادئ أظلم تعويضاً عن الضربات؟
لا يجوز البناء على الشرط في مسألة محسومة، مقدِّماتها عارية، وخاصة لوقوع «إنّ» منزلة الشرط العارف أو العالم. من هذا المنظور ينبغي الكفّ عن التأويلات حول المبادأة، وملاحظة النصّ العائد لنشيد النصر «المفاجأة» كما سُمِّيَ تمهيداً لخطبة الأسبوع، الجازم لحدّ القدرية في نشوب الحرب.
أن تعرف العدوّ وتسهب في ما تُعِدُّ له من عِدَّة تطاول عمق كيانه، فهذا نصف الصورة. المهمّ أيضاً مصارحة الناس بالأكلاف المتوقَّعة، وإكمال اللوحة بما قد يُحدثه من دمار لبلادنا، وينزل من ضحايا بين صفوف المقاومين والمدنيين في المقلب اللبناني، فضلاً عن التداعيات الإقليمية وشراسة العمليات.
* كاتب لبناني