ماجد الشيخ *
في «أعراس التعولم» العديدة والمديدة في عالمنا المعاصر، تتبدّى كلّ مظاهر العولمة، الحقيقية منها والزائفة. «أعراس» ليست لنا، ولكنّنا نشارك فيها، كأننا من أهلها، وكأنّنا فعلاً مَن أنجزها أو أسهم في إنجازها، وكأننا فعلاً من قام ويقوم بها بالأصالة لا بالنيابة. أليس هذا زيفاً نحاول أن نقنع أنفسنا بأنه الحقيقة، أو على الأقلّ جزء من الحقيقة، أي حقيقة؟ وأين تقع حقيقتنا فعلاً؟
إنّ إدراكنا الذاتي لحقيقتنا يقابله بالتأكيد نماذج من هذه الحقيقة لا نتعرّف إليها نحن، بل يمكننا تعرّفها من خلال إدراك آخر أو الآخر، لأكثر من نموذج لحقيقة واحدة هي حقيقتنا. كما أنّ واقعنا لا يمكن إدراكه بمعزل عن وجود إدراكات متعدّدة ووقائع مختلفة ومتباينة للواقع الذي هو واقعنا. من هنا أهمية التفسير العقلاني للحقيقة وللواقع، انطلاقاً من سيادة مفهوم العقل التفسيري الاجتهادي لرؤيتنا لذاتنا، بعيداً من إصدار الأحكام النمطية الجاهزة والمعلَّبة. ففي بؤس الواقع ترتدّ النوازع الذاتية أو الجماعية إلى سكونية الانكماش والتمترس خلف حدود الـ«أنا» أو «الأناوات» الإيديولوجية الزائفة. وفي بؤس القفز عن الواقع والخروج من حالات التمترس وحدوده، ندرك ضرورة الخروج من إطار الصورة الزائفة إلى فضائها المعولم... أيُّ فصاميةٍ هذه؟
لهذا أحال التباهي اللاعقلاني بأفعال الآخرين وإنجازاتهم إلى تسييد عقلية إتباعية، تعجز عن إيجاد ما تتباهى به بأفعالها أو إنجازاتها، أو حتى بسلوكيّات تجعل الآخرين يرفعونها إلى مصاف الفخر والاعتزاز. وهذا ما نحسبه إلّا دليل عجز ومسلك، وإن بدا «طبيعيّاً»، فهو مفتعل يخفي مشاعر مضمرة لسلوكيات غير منطقيّة، تحاول ردم هوّة فراغ ونقص تعانيه تلك العقلية الإتباعية، وهي تذهب إلى «ابتداع» طرائق خاصّة لاحتفائها بتباهيها اللاعقلاني بما عجزت أو هي عاجزة عن القيام به أصلاً.
هذه الإحالة لا يمكن رصدها في مجال واحد من مجالات الحياة، بل هي في ما تبدو عليه من انفعالات وعصاب، تكاد تمثِّل سمة دول ومجتمعات وأمم، تعجز عن اللحاق بركب التطوّر العقلاني لشكل من أشكال الحداثة، انطلاقاً من معارفها العقلانية المنتجة؛ أو في بناء إنجازات يعتدّ بها. فإذ تحيل العولمة اليوم إلى دوافع إبداعية منتجة في قسم جغرافي محدَّد من العالم، فهي في المقابل تحيل إلى دوافع استهلاكية في أقسام جغرافية أخرى، لا تجيد غير السباحة في بحار من التلقّي السلبي والعجز البنيوي عن فهم آليات الإبداع الإنتاجي ومعاييره، وما تحيل إليه من قيم وسلوكيات وأخلاقيات، يجري تخليقها بالتزامن مع تصنيع السلعة أو البضاعة المراد تصديرها إلى مناطق التلقّي السلبي وسكونيّتها الإتباعيّة.
ولكن ماذا عن حال المجتمعات السكونيّة الراكدة؟ هل تبقى تتفرّج على ما ينجزه غيرها؛ تفرح لفرحه، وتكتئب لخسارته، وتنفعل على إيقاع مشاعرها هي دون أن تكون فاعلة؟ وكيف يمكننا فهم هذه العراضات والاستعراضات في الشارع وهي لا تعبّر إلا عن غياب ذلك القلق المصيري، قدر ما تعبّر عن حالة رضا سكوني دافعها أفعال آخرين خارج الحدود؟ حتى حدود العقل.
جيد أن نمتلك مشاعر المشاركة، لكن دون أن تتملّكنا إلى حدّ إقعادنا عن الفعل، والعجز عن إبداع معنى لحياتنا، ودون هذه المظاهر الجنونية من التنفيس الاحتقاني لمكبوتات عدة؛ تبدأ ممّا هو شخصي ولا تنتهي إلاّ عند ما هو سياسي ـــــ اقتصادي ـــــ اجتماعي. مظاهر أقلّ ما يُقال فيها أنها لا تليق بالمناسبة أصلاً، إلا لأنّ ممنوعات كثيرة تحيط بمناسبات تعجز الشعوب عن الاحتفاء بها وفي أوقاتها.
وأن نتباهى بما لم نصنع، بما لم ننجز، أو بما نعجز عن صنعه؛ لا يجعل منا مشاركين إيجابيّين، قدر ما يبقينا مستهلكين سلبيّين، نستهلك حتى ذواتنا في ما لا طائل لها منه، ونستهلك قضايانا في ما لا يفيدها ولا يقرّر مصائرها.
وبغضّ النظر عمّا أضحت تشيعه العولمة في ثنايا الحياة البشرية، فإن ظواهر عدّة لا يمكن ردّها إلى سياق عولمي في حدّ ذاته؛ أو انطلاقاً منه، ولكن في ما أضحى يتناضح من سلوك بعض الناس والمجتمعات حتى، من مفاخرة وتباهٍ أهوج بما لم يشاركوا في صنعه أو إنتاجه، بقدر ما يشاركون في استهلاكه، بما يمدّ القائمين على عملية التعولم اللاعقلاني، بأرصدة استمرارها وتواصلها في خلق حالات من الفصام وجنون عظمة الاستهلاك، إلى حدّ المباهاة بالتملّك السهل لمنتجات لا يجيد البعض سوى استهلاكها أو تملّكها فقط ـــــ دون إدراك وظائفها ومدلولاتها ـــــ وذلك كنوع من المباهاة بالقدرة على تملّكها، حتى ولو لم يجرِ التعرّف إلى آليات وطرائق استخدامها. وحتى استعمالها إنما يتمّ كنوع آخر من المفاخرة الزائفة، بتملّك غير حقيقي، لا يتاح عبره السيطرة على المنتج أو المنتجات المصنّعة في مناطق أخرى من العالم، وكأنّ تلك العملية باتت لزوم ما يلزم من أفعال الاستلاب الذي تجسّده هذه الظاهرة: ظاهرة التباهي اللاعقلاني بما يفعله أو ينتجه أو ينجزه أو يصنعه الآخرون.
وفي الحالة السكونية التي «تتميّز» بها العديد من المجتمعات يفرّخ الفراغ السائد ـــــ أو العطالة بمعنى أصحّ ـــــ في بناها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية؛ حالات من تظهير ما يمكن تسميته «الفجوة الحضارية» تلك التي نذهب إلى تعميقها، كلّما أوغلنا في التقليد والانتقاء والانحياز اللاعقلاني لما يقبع خارج حدود الإرادة والإدارة الذاتية لشؤوننا العامّة، إلى حدّ استلاب شخصيتنا وإقصاء خصوصيتنا ومصادرتها، لمصلحة اعتماد «نماذج عالمية» على ما باتت عليه حالنا إزاء تقليد واستنساخ برامج غربية أو شرقية تلفزيونية أو أفلام أو نتاجات إبداعية وتعريبها... مجرد تعريبها كفكرة أو أفكار، دون إضافة أي لمسات إبداعية تتوافق وخصوصية الجمهور الذي تتوجه إليه، في ما عدا أقل القليل من ذلك كلّه. وفي السينما والثقافة والفكر والسياسة والاقتصاد والقانون، هناك حالات شبيهة كذلك، وحتى في الرياضة، لا يمكننا القول إنّ هناك ما يخالف نزوع التقليد الإتباعي والاستهلاك القيمي لقيم لم تنتجها مجالاتنا العامة تلك.
وفي ظلّ النظام العولمي الجديد، ونسبه وانتسابه إلى عصابة المحافظين الجدد وليبراليتهم «الجديدة»، لم تعد العولمة وما كان من أشكالها السابقة على حاله، مياه كثيرة جرت، وفي السياق تغيّر الحال والأحوال وتغيرت معه مآلات ومصائر، وعلاقات كانت أكثر من كافية؛ لإشاعة وسائل طبيعية في سياق انتشار مسائل كالتعارف والتقريب والتواصل بين الشعوب، وهي مسائل تفترض أنّها عناوين حقيقية لعولمة إنسانيّة حقيقية في طابعها الأعمّ وفي خصوصيّاتها، لكن الحقيقي شيء وما جلبته وأشاعته قوى التزييف شيء آخر، فالنظام العولمي الجديد هذا، أحال ويحيل عالمنا اليوم إلى «شيفرة» يهيمن عليها «شاه بندر» التجارة الدولية العامد الى تسليع كل شيء، وتسطيح كل شيء والهيمنة المطلقة على كل شيء.
لقد سبقت علاقات طبيعية عدّة في تشاركها الإنساني، وفي تعولمها، وجود النظام العولمي الجديد في إشاعة روابط حقيقية بين الشعوب، إلا أنّ هذا النظام يأبى اليوم وبفعل تغوّله ووحشية ليبرالييه، إلا أن يعاند مصالح الشعوب الحقيقية في التعارف والتواصل في بناء المشترك الحضاري الإنساني، في ما يشيعه من قيم استعمالية ضامنة لمصالحه ومناهضة لكلّ قيم البشرية ذاتها، وذلك حين يجري تسفيه كل شيء وابتذاله، حتى من جانب ضحايا النظام العولمي أنفسهم، وهم يأخذون ذواتهم إلى أقاصي حدود التماهي، إلى قلب الانسحار بما لم تصنعه أياديهم (أو أرجلهم).
مأخوذون بالتماهي، مسحورون به، يحفلون به ويحتفلون وكأنهم الآخرون، ما أخفّ التماهي إذن، ما أخفّنا على حقيقتنا، وما أثقلنا حين نعاند هذه الحقيقة!
وإذ لا تحيل العولمة الراهنة، السائدة حالياً، والمهيمنة في فضاءاتنا المفتوحة وعليها، إلا إلى ما يتواكب معها من إخضاعات التقليد والاستنساخ الهجين لمسلكيات وعادات وتقاليد وقيم غريبة، لم تتنزّل من سماء صافية بالتأكيد، إلاّ لأنها وجدت أرضاً خصبة تستقبلها؛ وكأنها المادة الملازمة للفراغ والهلام الذي يعيشه الواقع العربي والعالم ثالثي عموماً، وسط جدب وتصحّر إبداعي إنتاجي يزداد اتساعاً كلما ذهب الآخرون ـــــ آخرو العولمة في الضفة الأخرى ـــــ في ابتداع قيم وإنتاج أنماط من سلع وبضائع ومسلكيات قابلة للتصدير من بلاد المنشأ، وتحويلها من ثمّ إلى مادّة للاستهلاك الاستيرادي في بلاد الاستقبال النمطي، تلك التي تعيش أقصى وأقسى حالات تهميشها، وهي تتماهى ومتون بلاد يزداد اتّساع قابليتها للتصدير السلعي والقيمي، كلّما ازدادت طلبات وقابلـيات الاستيراد الاستهلاكي والاستيراد النمطي لموضوعات التقليد التي لا عاصم لنا منها سوى تهميشها، عبر إعادة إنتاج ذواتنا وموضوعاتنا على صورة وشكل، غير تلك التي يراد لنا أن نكون إياها وتكون إيانا، وإلاّ بقي التهميش نصيبنا ومصيرنا في عالم لم نستطع فيه أن نسوس أمورنا الصغرى، فكيف بقضايانا
الكبرى؟
* كاتب فلسطيني