أسعد أبو خليل *‏
لم يكن يُتوقع أن يُكتب للساداتية النجاح، هذا النجاج اللافت. من كان يتوقّع أن تضرب الساداتية بجذورها عميقاً في الأرض العربية ــــ ‏عنوة طبعاً ــــ في الوقت الذي اندثرت فيه الناصرية، ما خلا بعض المجالس التي تبدو أقرب إلى نادٍ للمسنّين. من أخطأ، ولماذا، في عدم ‏أخذ أنور السادات على محمل الجدّ منذ البداية، ولماذا لم نرصد توجهات الرجل منذ وراثته منصباً تبوّأه مذهولاً من دورات الزمن. ‏طبعاً، تبدأ في عبد الناصر نفسه الذي أصرّ على تنصيب عبد الحكيم عامر لقيادة المعركة المصيرية مع إسرائيل في حرب 1967 (تلك ‏القاصمة الظهر الكبرى التي لم تجرِ بعد محاكمة لصانعيها من الأنظمة العربية، الرجعية والتقدمية على حد سواء)، والقرار في غبائه ‏بمثابة أن يتولى ميشال معوّض، الذي تحبّه الماما معوّض كثيراً، مهمات قيادة المقاومة ضد إسرائيل، أو أن يتولى كارلوس إدة مهمة ‏الخطابة في الأمم المتحدة، أو أن يمارس سمير جعجع مهنة الطب، أو أن يتحدث وليد جنبلاط في الديموقراطية أو في الاشتراكية، أو في ‏أي شيء. ومستشارو عبد الناصر، ولم يكن ينقصهم الذكاء والدهاء، استهانوا بالسادات، واعتبروا أمر تسييرهم له سهلاً جداً. لم يعتقدوا أنه سيستمرّ طويلاً، أو أنه إذا استمرّ فسيكون كالدمية مطواعاً بين أيديهم. هناك الكثير ممّا يُقال عن زيارة لأنور السادات إلى الولايات ‏المتحدة في الستينيات، وعن بداية علاقة بدأت سريّة وتحولت إلى تحالف وثيق. لا أدلة قاطعة هنا. فقط تكهنات وتحليلات، مع أن ما نُشر ‏من وثائق أميركية عن فترة الستينيات يتحدث عن وجود مصدر ما في داخل نخبة النظام المصري. وهناك وثيقة نُشرت من تلك الفترة ‏يُشتمّ منها أن المصدر كان زكريا محيي الدين. ولم يكن تعيين زكريا محيي الدين رئيساً بعد استقالة حزيران هكذا عفواً. لم تنجلِ الحقائق ‏عن تلك المرحلة، وأرشيف الحكومات الغربية يتستر ويتحفظ لأنه لا يزال يتعامل مع العائلات الحاكمة نفسها. النزر اليسير يكون مغطى ‏بالسواد لكثرة ما حفظ الرقيب. قد ننتظر عقوداً قبل جلاء الحقيقة، والوثائق الدبلوماسية العربية مدفونة، ربما في المكان نفسه الذي كان ‏الشيخ شخبوط يحفظ فيه ثروة البلاد.

صعود الرجل

لكن هذا الرجل ــــ السادات ــــ الذي كان مدعاةً للسخرية والدعابة، صار صاحب أفعل مدرسة في الحكم في العالم العربي. سبق زمانه، كما ‏يُقال، وكسر كل المحظورات. كان أفعل من ضرب الفكرة القومية أو حتى فكرة التضامن بين العرب. يمكن التأريخ لمرحلة الهزائم ‏العربية البليغة من حرب 1967 إلى زيارة السادات إلى إسرائيل. هي التي كرّست عصر التدخل الأميركي ــــ الإسرائيلي المهيمِن في ‏العالم العربي، وهي التي مثّلت حقبة ضرب اليسار والفكر العلماني، كما أنها كانت حقبة تقويض فكرة ــــ حتى مجرد فكرة ــــ تحرير ‏فلسطين.‏
ليس هناك ما كان ينبئ بصعود السادات. كان عنصراً غير فاعل في تنظيم الضباط الأحرار. تقرأ مذكرات معاصريه ولا ترى أبداً إن ‏كان هناك من توقع أن يصعد نجمه، وأن ينجح في المناورة وفي خداع أذكى مستشاري عبد الناصر الذين استخفوا به لكثرة ما ظهر من ‏تهريج مصطنع في شخصيته. يُذكر عنه أنه لم يعارض عبد الناصر يوماً.
بدأ السادات حياته منجذباً نحو النازيّة التي استهوته ــــ ويُلاحظ أن إسرائيل وأعوانها حول العالم تغفر العداء لليهود والنازيّة إذا ما ناصر ‏المرء الصهيونية وغفر لها جرائمها ــــ وكان دائم التعاطف مع نمط رجعي من العقيدة الدينية. لكن يذكر من كتب عن تلك الفترة أنه قلما ‏تفوّه بكلمة مميزة في الاجتماعات إلا للموافقة على ما صدر أو بدر من «عمك جمال» كما عنون في أحد كتبه. كان لصيقاً بعبد الناصر ‏ودعائياً متملقاً يحسن كتابة المديح والتقريظ. لكن صعود السادات كان متوافقاً مع تغيير أساسي في النظام العربي سبق وفاة عبد الناصر. ‏فالقسمة في العالم العربي بين معسكر رجعي ومعسكر تقدمي (وفيصل التفرقة بين المعسكرين كان على أسس لفظية وعقائدية لا على ‏أساس الديموقراطية، لكن يجب عدم الاستهانة ببعض شعارات وحتى برامج تلك المرحلة من تحرير فلسطين ــــ وإن أساء النظام الناصري ‏والبعثي لعملية التحرير ــــ إلى الإصلاح الزراعي، إلى تطوير المؤسسات الدينية، إلى تحرير المرأة) انتهى في الأيام الأولى لحرب 1967 ‏إن لم يكن قبل. سلّم عبد الناصر منذ مؤتمر الخرطوم على الأقل بسيادة الحكم السعودي، كما أن عبد الناصر خوّل الملك الأردني اتباع ‏كل الوسائل التي يريد لاستعادة الضفة الغربية، بما فيها المفاوضات السريّة مع إسرائيل التي كان عبد الناصر يتستر عليها بعد 1967. ‏وقد وقف عبد الناصر متفرجاً وحيادياً عندما أمعن الملك الأردني ذبحاً في مجازر أيلول. وكان التسليم بمبادرة روجرز نتيجة طبيعية ‏لهزيمة 1967، وتلك المبادرة أرّخت لبداية «العملية السلمية» التي سلّمت ملف الصراع العربي ــــ الإسرائيلي إلى الحكومات الأميركية ‏المتعاقبة.‏
طبعاً، هناك من يفترض أن السادات مشى، وإن سريعاً مهرولاً، على خطى عبد الناصر. هناك من يزعم أن السادات هو نتيجة طبيعية ‏للتنازلات المطّردة التي قدّمها النظام الناصري لأعدائه بعد هزيمة 1967. لكن في المقابل هناك من يقول إن النظام المصري كان يلتقط ‏أنفاسه من أجل معركة مؤكدة (وبآفاق وسقوف مختلفة عن حرب 1973) ضد إسرائيل، تؤهل عبد الناصر لانطلاقة متجددة. هذا الجدال لا ‏يمكن حسمه بسهولة، وإن كان من السهولة الإقرار بأن هزيمة 1967 أعادت تركيب النظام العربي الرسمي، ووضعت المعسكر الرجعي ‏في موقع الصدارة وفي دفة القيادة. وهناك أيضا أسلوب أنور السادات في السياسة الخارجية: فالرجل كان متمادياً في الارتهان وفي إذلال ‏الذات أمام الرجل الأبيض وجهد في تقليده، وخصوصاً في تلك المقابلات مع «بربارة» في محطة «اي.بي.سي.» الأميركية. كان يظهر في ‏مجلة «باري ماتش» في ملف من الصور بهدف تقرّبه من المستعمر: في هذه الصورة يداعب كلبه، وفي تلك يشرب الشاي على ‏طريقة الإنكليز (وهذا يذكّر: لماذا يحاول فؤاد السنيورة تقليد اللكنة البريطانية في الحديث بالإنكليزية فتأتي النتيجة مضحكة للغاية؟). كان ‏السادات أكثر استعراضاً وأكثر تملقاً من كويزلنغ.‏

آثاره الباقية

تنظر إلى واقع السياسة والاقتصاد في العالم العربي فتتبيّن بالملموس الأثر العميق لمدرسة أنور السادات في الحكم. أين تبدأ؟ أولا، لقد ‏كسر السادات محظوراً بالنسبة للقاء مع العدو، وفي أرض العدو. لم يمانع المفاوض الفيتنامي في لقاء الأميركيين (بعد تغيير موازين ‏القوى) لكن في أرض ثالثة. السادات أصرّ ــــ هو الذي أصرّ ــــ على زيارة العدو في عقر داره بعد أن أبدى مفاوضو العدو (طبعاً، لم ‏يكن خطاب السادات الذي عبّر فيه عن استعداده لزيارة القدس عفوياً، بل تلى شهوراً من المفاوضات السريّة) استعدادهم للقياه في ‏عواصم عربية أو في المغرب، بضيافة صديق الصهيونية العريق، الحسن الثاني الذي تسلّم ملف القدس في جامعة الدول العربية ــــ كأن ‏يتسلم القاتل ملف حفظ الأمن، أو أن يتسلم إدريس البصري ملف حقوق الإنسان ــــ أصرّ السادات على نمط جديد من الاستسلام أمام العدو: ‏نمط جديد من الإصرار على إذلال الذات، والغلوّ في إرضاء الرجل الأبيضكان السادات لا يرى ضيراً في أن يجلس في الإسماعيلية ‏وأن يخضع لموعظة في تعلّق اليهود بأرض الميعاد من مناحيم بيغن، أمام الإعلام. كسر حاجزاً نفسياً، كما كان هو يسمّيه. هذا الحاجز ‏هو نفسه الذي سهّل عملية الوئام بين الدول العربية وإسرائيل، ومهّد لمبادرة توماس فريدمان، التي اعتنقها الملك السعودي، واعتنقها بعده ‏زعماء كل الدول العربية المعيّنين (بمن فيهم من يدّعي الممانعة). ماذا لو استُفتي الشعب العربي على تلك المبادرة السيّئة الذكر؟ لم يكن ‏ليتسنى لياسر عرفات، أو للنظام الأردني أو السوري أو اللبناني، عقد مفاوضات مباشرة مع الإسرائيليين، لو لم يسبقهم السادات. وقد ‏شكّل موقف حظر التعاطي مع إسرائيل (الذي تكرّس في لاءات الخرطوم) موقفاً قوياً أزعج إسرائيل بالرغم من سيادتها العسكرية. كانت ‏الولايات المتحدة، ولا تزال، تضغط على العرب من أجل اللقاء مع الإسرائيليين لظنّها أن هذا يغيّر من طبيعة المزاج الشعبي العربي ‏المعارض لفكرة احتلال الصهيونية أرض فلسطين، ولفكرة أي صلح مع إسرائيل.‏
ثانياً، مثّل صعود السادات تكريساً لمنطق القطرية الضيقة. والطريف أن ليبراليّي الإعلام الوهّابي يسخرون من القومية العربية ويهللون ‏للقوميات الشوفينية الضيقة، فقط لأنها تتوافق مع المخطط الأميركي ــــ السعودي ــــ الإسرائيلي في العالم العربي. هم ضد القومية العربية لكن ‏مع قومية أنبارية (بالنسبة للأنبار، وما أدراك ما الأنبار. عشائر وقبائل صغار. هجوم ثم إدبار. مواقف بالدولار. يوم هتف بوش: وا ‏عبد الستار. هلّا أنجدتَ الاستعمار؟) لا تتسع إلا خارج حدود الحارة، على أن تخضع لقيادة العشائر «المتنورة» وبإشراف وتمويل سعودي ‏مباشر. لم يأت شعار «الأردن أولاً» أو «لبنان أولاً» من بنات أفكار شركة ساتشي وساتشي. بل هو نتاج طبيعي للساداتية. نجح السادات ‏في تعزيز المنطق القطري الشوفيني، مستعيناً بتراث مثيل للأيديولوجية الفينيقية، ولا ننسَ أن الأيديولوجية الفرعونية ازدهرت في عهد ‏الاستعمار البريطاني في مصر قبل أن يزور الشيخ بيار الجميل (الجد) برلين ويلهمه هتلر. السادات فصم عرى الربط بين مصر وقضية ‏فلسطين، أقلّه على المستوى الرسمي.‏
والساداتية ثالثاً، هي في سياسة الانفتاح. كان ذلك في زمن الصناعة الوطنية («جسدي بيان القادمين من الصناعات الخفيفة» كما قال ‏محمود درويش) وزمن القطاع العام والتعليم المجاني ومحو الأمية والإصلاح الزراعي. عمل السادات، بإشراف البنك الدولي ومنظمة ‏النقد العالمية، على إبطال مفاعيل كل السياسات والقرارات الاشتراكية. الانفتاح، كما تدل الكلمة بدقة، هو فتح البلاد والعباد أمام هجمة ‏متوحّشة للرأسمال الغربي باسم الازدهار والليبرالية. زيادة الفروق بين الطبقات هو النتيجة الحتمية (تحوّلت نسبة الفروق بين الطبقات ‏من الأدنى إلى الأعلى في العالم في الصين بعد «إصلاح» الاقتصاد هناك)، لكن ثراء العائلة الحاكمة يزداد في ظل الانفتاح والمشاريع ‏المشتركة. رفيق الحريري عمّم الانفتاح في لبنان وزاد عليه نموذجاً مبتكراً من سياحة الدعارة (لم يعرف لبنان مكاتب «التدليك» قبل ‏انفتاح الحريري). ويتلازم في العالم العربي شعار التطبيع مع شعار الانفتاح، لأن المصالح الاقتصادية الغربية مرتهنة للإرادة الأميركية ‏التي تشترط مقاطعة مقاطعة إسرائيل، وتشترط التطبيع اليوم بعد الانتهاء غير المُعلن من مقاطعة إسرائيل. ومنظمة التجارة الحرة، التي ‏سعى الحريري جاهداً لإدخال لبنان إليها ــــ فات أن يضيفها النحات بصبوص إلى مسلّة إنجازات الحريري ــــ هي البوتقة التي تكرّس ‏التطبيع مع إسرائيل. لكن الانفتاح افتضح أمره: لم يعمّ الرخاء ولم يزر الازدهار الطبقات الشعبية. القطط السمان، كما يسمونها في ‏مصر، هي وحدها التي تنتفع، وعندنا منها في لبنان هؤلاء ذوو الطائرات الخاصة الذين أغدقوا العطايا على رستم غزالة (بالمناسبة، لماذا ‏لا يُسأل حسان حلاق عن أطروحة رستم غزالة لنيل الدكتوراه بجدارة، التي نالت إعجاب اللجنة الفاحصة، لا ريب؟ ألأنه من مؤيدي ‏الحريري؟).‏
رابعاً، تمثل الساداتية ذلك الابتذال في العلاقات الدولية الذي يؤكد أن «99% من الأوراق» ــــ أوراق الكوتشينة؟ ــــ هي في يد أميركا، كما ‏كان السادات يقول في خطبه الرتيبة. والسادات قال ذلك في عصر الحرب الباردة. ما أراد أن يعترف بقوة عالمية غير الولايات المتحدة.‏‏ كان يحاول لفت أنظار أميركا إليه: وكم كانوا يسخرون منه، حتى بعد أن أدى ركعاته في الكنيست على ما يروي زبغنيو برجنسكي في ‏مذكراته. كانو يتلذذون بتقليد حركاته المسرحية. ونظرية الـ»99% من الأوراق» كانت بمثابة النبوءة التي تُحقق ذاتها بذاتها. وسبقه ‏الملك الحسن الثاني (وهو كان السادات الخفي قبل أن يبرز السادات، أو الرئيس المؤمن كما كان إعلامه يسميه بناءً على أوامره)، ولحقه ‏عرفات. السادات سبق الملك فهد في هذا الجهد لإرضاء أميركا. هو سارٍ اليوم في الإعلام وفي السياسة، ويُفسّر لماذا يصرّ نهاد المشنوق ‏على الزّهو مرةً في الأسبوع لأنه دُعي من قبل روبرت ساتلوف (مدير المعهد الليكودي «مؤسسة واشنطن لسياسات الشرق الأدنى»، ‏الذراع الفكرية للوبي الصهيوني الذي «تشرّف» وليد جنبلاط، بحسب قوله هو، بالتحدث أمامه) ولأنه تبادل معه أطراف الحديث.‏
خامساً، مثّل أنور السادات سياسة إطلاق المنظمات الإسلامية الأصولية لمحاربة اليسار والتيارات القومية العلمانية. وكانت علاقة ‏السادات بالحركات الإسلامية قديمة ووطّدها عندما تبوّأ منصب الأمين العام للمؤتمر الإسلامي (راجع مقدمة كتاب عباس العقاد «حقائق ‏الإسلام وأباطيل خصومه» التي كتبها السادات كأمين عام لتلك المنظمة) الذي سمح له بإقامة علاقات مع شبكة من الحركات الإسلامية ‏‏(الرجعية). ولا شك في أن ظاهرة الأصولية التلفزيونية الموالية للسلطان بدأت في عصر السادات بظهور فقيهه المفضل، الشيخ الشعراوي، ‏الذي وجد له آية قرآنية لتسويغ صلحه مع إسرائيل. وكان الإخوان أدواتٍ طيّعة في بداية صعود السادات، وساهموا في محاربة اليسار ‏والناصرية من أجل السادات. وهادنوا السادات حتى بعد صلحه مع إسرائيل، وهذا ما يفسّر الانشقاقات التي أصابت جسم الإخوان في ‏مصر آنذاك. طبعاً، يمثّل السادات أيضاً نموذجاً للارتداد الذي يصيب من يستغلّ الحركات الدينية التي تنقلب على اللاعب.‏
سادساً، يمثّل السادات التبنّي الرسمي للسخرية من كل شعارات مرحلة العمل (الجدي أو المسرحي) لتحرير فلسطين ولتحقيق العدل ‏الاجتماعي. وهذا النمط بات سائداً بالمطلق اليوم في إعلام الليبرالية (الوهّابية). لكنها سخرية من جانب واحد، إذ إنها تتعامل بتبجيل مع ‏شعارات كل الأنظمة العربية السائدة باستثناء نظامين يعانيان من مقاطعة سعودية. السخرية الفاقعة باتجاه واحد دليل آخر على تضييق ‏شقة التعبير في العالم العربي. يمكن القول إن الإعلام العربي في عصر الإذاعات كان أكثر تنوّعاً من اليوم، إذ إنه عكس وجهات نظر ‏متعددة (بعثية وناصرية وسعودية وإماراتية وبريطانية وقومية وشيوعية الخ). الذوق السياسي (والموسيقي) ينبع من مصدر واحد، وهو ‏يروّج لثقافة... أنور السادات. يصبح معها السادات رائداً وسبّاقاً، وهو بالفعل الاثنان معاً، لأنه جاهر بما كان يضمره الزعماء العرب ‏كلّهم. سبقهم الحبيب بورقيبة في مؤتمر أريحا، لكنه انزوى تحت وطأة الضربات الدعائية الناصرية (وكان اللبناني سيسيل حوراني ‏مستشاراً له، وقد أصبح في سنوات تقاعده في بيروت مستشاراً لبشير الجميل، يدبج له خطاباته الرسمية للإدارة الأميركية).‏
سابعاً، أنور السادات قضى على التجربة السقيمة للجامعة العربية. كانت على الأقل منبراً للخلافات. تحوّلت إلى معبر إلى التدويل ‏‏(والراحل الكبير جوزف سماحة كتب في اليوم السابع مرةً أن التعريب يؤدي إلى التدويل باتجاه الأمركة). هي جزء من صعود منطق ‏خطاب القطرية الشوفينية الضيّقة، ولم يكن مستغرباً أن تؤدّي هذه الشوفينية الضيّقة إلى زيادة اضطهاد الوافدين العرب والآسويين في ‏الدول العربية، بالإضافة إلى زيادة الاستعار الطائفي (كما حدث في مصر عندما أدت الساداتية إلى إشعال الفتنة الدينية).‏
مشهد اغتيال أنور السادات أصبح جزءاً من كلاسيكيات الوثائقية السياسية. أعرب صحافيو أميركا عام 1981 عن استغرابهم واستيائهم ‏من ردة فعل الرأي العام (يسمونه «شارع» هنا) المصري. لم يرحل أنور السادات. على الصعيد الشخصي، لا يُذكر إلا في الغرب. ‏يودّون يتحوّل كل عربي إلى سادات آخر. هذا هو المُنى السياسي الغربي. في العالم العربي، الاسم تحوّل إلى فعل منبوذ في ‏السياسة أو إلى شتيمة، مثل حامد قرضاي. لكن الساداتية مدرسة في الحكم مُعتنقة ومُتّبعة من كل الزعماء العرب. هم مدينون له، كلّهم. ‏جعل من المستحيل مقبولاً، ومن الاستسلام أمام احتلال إسرائيل عقلانيةً وحكمةً. السادات أرسى دعائم الاختراق الإسرائيلي للمنطقة ‏العربية. إلى جانب صورة ثيودور هرتزل، وجب على الصهاينة تكريم صورة الرجل. مات من أجلهم. ‏
‏* أستاذ العلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا
‏(موقعه على الإنترنت: www.‏‏angryarab.blogspot.com‏)‏