سعد الله مزرعاني *
الأزمة اللبنانية تدور في حلقة مراوحة مفرغة. يقرّر هذا الواقع ضخامة الانقسام في مواضيع الصراع المحلّي والإقليمي بين أطراف تمتلك بدورها، من وفرة الإمكانات، ما يؤهّلها لتدافع عن مواقعها حين تختلّ موازين القوى في غير مصلحتها.
إلا أنّه بمقدار ما يطمئنّ أطراف الصراع لمواقعهم المحصّنة نسبياً، تتعاظم الأثمان الناجمة عن الأزمة، ما حصل منها وما هو متوقَّع. فالأزمة اللبنانية الراهنة، هي امتداد لأزمات شبه دوريّة، أقلّه منذ الاستقلال عام 1943 حتى اليوم. هي الآن شبه مستعصية، وتنذر بأسوأ الاحتمالات السياسية والاقتصادية والأمنية...
في الأزمات الكبرى خصوصاً، يجب إعمال التفكير. ونستطيع أن نلاحظ اليوم أن البعض بدأ يدلي ببعض الاستنتاجات والمطالب غير «التقليدية». والمقصود بذلك، الذهاب أبعد فأبعد في مجال تخطّي طروحات طرفي الصراع الراهن الأساسيّين. فهذان الطرفان يحصران جهودهما في إطار النظام السياسي الراهن وحدوده. يركّزون، فحسب، على تفعيل صيغه مختلّة أو مُخلّة، بالنسبة إلى هذا الفريق أو ذاك. كما يحاول الطرفان تعديل بعض توازناته باستنفار قواعد الارتكاز المحلية، أو بالاستقواء بقوى خارجية.
تنطلق بعض الاستنتاجات الجديدة من ضخامة الانقسام، من جهة، وتعذّر العودة إلى الصيغة السابقة (صيغة 1943) لممارسة السلطة (رئيس جمهورية بصلاحيات مطلقة)، من جهة أخرى. وهو يجد في صيغة تقسيمية ما، حلاً يجب البدء بالتفكير فيه وبشروط تحقّقه.
أما النوع الثاني من الاستنتاجات، غير التقليدي هو الآخر، فما زال يعتقد بإمكان الفعل من داخل الواقع الراهن نفسه لإحداث تعديل «جذري» في توازناته. وهذا التعديل هو ببساطة، استعادة الرئاسة الأولى لصلاحياتها السابقة (ما قبل «الطائف»)، دون زيادة أو نقصان! واللافت أن يصدر هذا الموقف، بكامل الوضوح والمباشرة، عن صحافي مرموق في مجال المهنة والصراحة والرأي، هو الأستاذ إدمون صعب، «رئيس التحرير التنفيذي» في جريدة «النهار». يكاد يصرخ الأستاذ إدمون في مقالته في عدد الجمعة 28 كانون الأول الماضي: «إذا ما كان البعض يسوغ لنفسه تعديل الدستور من أجل شخص، فلماذا لا تُستجاب الأصوات التي تدعو إلى تعديل دستور الطائف من أجل استعادة حقوق شعب، على أساس أن استعادة صلاحيات الرئاسة (الأولى) لا تخدم المسيحيّين فحسب، بل تعيد التوازن والاستقرار إلى النظام، وتصحّح الأخطاء التي ارتُكبت في حقّ الصيغة، وجعلت لبنان، شاء أو أبى، دولة تابعة؟».
لا شكّ أن أي بلد، لكي يكون مستقراً أو طبيعياً، يجب أن تتوافر له سلطة قادرة (البعض يقول قاهرة). وقدرة هذه السلطة تتجلّى في إمساكها بصيغة تنفيذية ملزمة ومتفوقة ومنفردة، لما تعتبره، هي، قوانين تحدّد أصول العلاقات في المجتمع الذي تديره وحدودها (لا نتحدث هنا عن كيفية انبثاق السلطة، بطريقة الاستبداد أو الديموقراطية).
يظن البعض، أنّ الرئاسة (وما كان يسمّى الامتيازات المارونية في السلطة)، هي التي وفّرت للبنان الازدهار والاستقرار، حتى جاء «الآخرون» وفرضوا «حروبهم» علينا (يصادف أن الأستاذ غسان تويني ناشر «النهار» ورئيس تحريرها، هو صاحب نظرية «حروب الآخرين على أرضنا»).
بما لا يكاد يحتاج إلى برهان، نستطيع القول (وحتى بمعزل عن نقاش معمّق يبقى ضرورياً في الأسباب)، أنّ مفاعيل تلك الصيغة كانت مؤقّتة. فهي لم تصمد أمام تحولات وتناقضات محلية وإقليمية. لذلك فقد اهتزّت، وترنّحت، ثم سقطت، ابتداءً من مطلع السبعينيات، لتنتهي رسمياً، بتكريس عربي ودولي، في مدينة الطائف السعودية عام 1989.
ونضيف هنا، أن استعادة أو إعادة تلك الصيغة لا يمكن أن تحصل بالتوافق. أما فرضها بالقوة، فقد بات من سابع المستحيلات!
ما يطالب به صعب ليس أمراً معزولاً عن إرهاصات تطالعنا هنا أو هناك، ولو بصيغ خجولة أو غير متبلورة، أو حتى غير هادفة! من مثل ذلك، ما تتحوّل إليه بعض مواقف العماد ميشال عون في صراعه المرير من أجل الدفاع عن صفته التمثيلية التي يسعى خصومه وقوى خارجية نافذة للإجهاز عليها.
الواقع أن «مزاج» استعادة الصيغة السابقة هو من أكثر ما يراود الوسط السياسي «الماروني»، بشكل عام، وإن كانت الصيغ مختلفة في التعبير عن ذلك، فضلاً عن بلوغه. ومعروف أن ثمة فريقاً آخر، ومن موقع منافس، يرى أن «المارونية السياسية»، قد حقّقت مكاسب استراتيجية حين «جاء الآخرون إليها ولم تذهب هي إليهم». لقد عبّر قائد «القوات اللبنانية» عن هذه الحقيقة من دون مواربة، وهو يبرّر تحالفاته مع خصوم الأمس، وبينهم من كان عروبياً وقومياً ومؤتمناً على «وحدة المسار والمصير»، أقله لتسع سنوات كاملة (طوال عهد الرئيس الراحل إلياس الهراوي)! إنّ السيّد جعجع يشدّد على المضمون لتبرير التساهل في التوازن غير الملائم، فيما العماد ميشال عون، يتساهل في بعض المضمون (الثوابت المارونية التقليدية!)، ليكسب في مجال آخر، وهو تعزيز صلاحيات الرئاسة الأولى باستعادة جزء من عناصرها السابقة. نكرّر أن القوة القادرة (أو القاهرة) قد سقطت. وهي لم يكن مقدَّراً لها أصلاً أن تستمرّ تحت وطأة جمودها من جهة، والمتغيّرات الداخلية والخارجيّة من جهة أخرى. ويجب أن نضيف، أنه بسقوط تلك القوة، وبالإصرار على رفض ضرورة بناء تعاقد جديد بين اللبنانيّين، قد انتقلت القوة القادرة إلى الخارج، كما شهدنا في المرحلة السورية، وكما نشهد اليوم في الحقبة الأميركية. لا يجوز إطلاقاً وضع المسيحيّين من اللبنانيين أمام احتمالين لا ثالث لهما: إما محاولة العودة إلى ممارسة الهيمنة، وإمّا الانزلاق إلى فخّ التقسيم أو الانقسام (بهذه الطريقة أو تلك)، فضلاً عن «خيارات» أخرى يائسة، من نوع الهجرة والالتحاق...
وفي هذا الصدد، تطرح وتتكامل مروحة كبيرة من العناوين، تبدأ بضرورة المباشرة في صياغة مشروع ديموقراطي للإنقاذ والتغيير، تنهض به، في عمل تأسيسي حقيقي، قوى وشخصيات ومؤسّسات على امتداد الوطن... ولا تنتهي بنشاط خاص في «الوسط المسيحي» يستنهض فيه، بشكل إيجابي ومتطوّر، الحسّ الديموقراطي والتحرّري التاريخي و«التقليدي» لدى هذا الوسط.
وكعناوين لدور «مسيحي» جديد، ممكن إيراد ما يأتي (على أن تكون لنا عودة إلى هذه العناوين في مقالة لاحقة):
ـــــ «الامتيازات» المسيحيّة في السلطة والدستور والإدارة والأمن... التي شكلت «ضمانة» (؟) في مرحلة ما بعد الانتداب الفرنسي، لم تعد قابلة للاستحضار والتكرار، لا بعوامل داخلية، ولا بعوامل خارجية، ولا بالاثنين معاً.
ـــــ لا يجب مواجهة نزعات التسلط والهيمنة البديلة بالحنين إلى هيمنة سابقة، بل بالمبادرة إلى طرح مبدأ المساواة في مقابل كل «امتيازات» قديمة أو جديدة.
ـــــ القوة اللبنانية «القادرة» لن تكون ممكنة ما لم يحصل تعاقد جديد بين اللبنانيين، يقوم على تطوير النظام السياسي بتحريره من العامل الطائفي (يتضمن الدستور الصيغة المناسبة في مواده الـ 22 و24 و95، على أساس أن «إلغاء الطائفية هدف وطني كبير»).
ـــــ يتصل بالأمور الآنفة، بشكل وثيق، موضوع السيادة والاستقرار والازدهار وحسن العلاقة مع الخارج، استناداً إلى المصلحة الوطنية الجامعة.
لقد أدت ظروف وتعقيدات عديدة إلى أن يؤدي مسيحيون لبنانيون، في السابق، لاعتبارات سياسية واجتماعية، أدواراً ريادية. مثل هذا الدور مطلوب اليوم وممكن و... إنقاذي!
* كاتب وسياسي لبناني